إنّ العلاقة بين المؤلف وحلب هي العلاقة ما بين العاشق والمعشوق، أحبها حتى فني فيها، وكانت كلمات الموسوعة مرتبة حسب تسلسل الأحرف الأبجدية، وقد تناول فيها سجل حياتها، فكان منها:
ضروب البيان فيها من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز وتورية وجناس.
كلامها، تصحيفاتها، أمثالها، حكمها، حكاياتها، نوادرها، نداء باعتها، ألغازها.
كما تناول: سبابها، تهكماتها، لوحاتها، كلام أهلها، ومراسم الأفراح والأتراح كنشيد ختم القرآن والأختان والأعراس ونقل الجهاز.
وتناول كذلك مواويلها، وشدواتها، وأهازيجها، وهنهوناتها، وأغنياتها، ومناغاة الأمهات لأطفالهن، وأضاف إليها عاداتها ومعتقداتها وخرافاتها، وطعامها وشرابها ولباسها وفرش بيوتها، ومصطلحات الصناعة والزراعة والتجارة فيها وكذلك مربي الحمام، كما تحدث عن حاراتها وأسواقها، خاناتها، قيسرياتها، قساطلها، سبلانها، بواديها، قراها مع تعليل أسمائها، وتناول القبائل الضاربة في أرباضها، وأعلام الناس فيها، نهفات مجانينها وألعاب سهراتها وأفراحها وأحزانها، وحتى مباذلها وسعة القول فيها.
كان يحمل دفاتره وأقلامه ويطوف في الأحياء القديمة والمقاهي المنزوية ويسجل، يجالس الباعة والتجار والمسنين والأطفال والعمال والفلاحين، والبدو والغجر، يلتقط من أفواه من حوله مفردات لهجة حلب وضروب القول، ثم يبحث عن جذر الكلمة، أهي عربية، أم سريانية، أم تركية، أم فارسية، ويضعها في مكانها على سلّم التطور اللغوي ثم يستخلص قواعدها العامية.
إنها صحائف وثائقية، يستفيد منها دارسو العصر الحالي والعصور القادمة، وما يحيط بها، من خلال الحركة الحياتية، إنها بحق علم حياة الشعوب أو كما أسماه الأسدي "علم الحياة".
تضم الموسوعة حوالي تسعة آلاف صفحة، وقد نسخها أربع مرات بخط يده، وجمع فيها أربعة ألوان، طبعت الموسوعة بعد وفاته، وقد حققها الأستاذ محمّد كمال في جامعة حلب.
بدأ بكتابة "أغاني القبة" في نهاية الثلاثينيات، وكان يؤكد أن الشعر رسالة ووحي لا تهبط إلا على القلب الطاهر، فالشعر استنزال للكلمة الإلهية ووجد علوي ونشوة روحية وفيض للاشعور المستمر.
يتميز أسلوبه بالأصالة والمتانة وروعة انتقاء الألفاظ التي تخلّص القصيدة من الرتابة الموسيقية التي تعرفها الأوزان الخليلية، ويخيل إليه أنه يسمع موسيقى علوية تأتيه من السماء، وعلى إيقاعها تبدأ رحلة القصيدة، بين الصحو واليقظة بعيداً عن أسر الإحساس بالزمان والمكان، تنهمر عليه كلمات القصيدة وتتشكل أمام عينيه الرؤى الشعرية.
والديوان أنموذج رائع لقصيدة النثر، وله فضل الريادة فيه، وقد مزج ذلك بأغاني كنسية، هي من صميم الفكر الصوفي المنطلق من الحبّ.
كان إذا امتلكه العشق واشتد به الوجد غاب عن الحسّ، وأدغمت الحواس ولم يعد في قلبه غير صورة الله.
ينطلق الشاعر من إهابه المادية وقيده الجسدي، فالمعرفة الحقيقية لا يمكن أن يصل إليها المرء، وهو ينوء بهذا الجسد، والكشف النوراني لا يتم إلا بالخروج منه، بحيث تتضح معالم الآفاق، وتمضي الروح في زحمة الإلهام... إلى نبع الشمس.
هو ليس بشاعر عادي، وإنما صرخة الحق ينطق بحقيقة الوجود في جلال الحب والعشق. ويتفرد بقاموس لغوي غني، ومقدرة على الصياغة تتجاوز حماية الشكل إلى التعبير عن معانٍ وحالات وجدية وحكمة ممطورة بعبارات مكثفة ذات علاقة لفظية جديدة، والألفاظ التي فقدت طاقتها تشحن بطاقات جديدة، فتتوهج بنار المضامين الصوفية الفلسفية، وتسطع في العبارات إشراقات معرفية قلبية نورانية، وتقوم الصورة عنده على جزئيات معرفية وروحية. كتب خير الدين الأسدي كثيراَ من الكتب، وأهمها على الإطلاق موسوعته عن لهجة حلب وديوان "أغاني القبة"، وقد كرم بعد وفاته، وسميت مدرسة باسمه.