فواز عيد.. قصيدة الهمس الجميل
قالها العابر يوماً وتوارى
قصة كانت قديمة
حرة تغرق في النهر ورنات سوار
غرقت
لم تنتشل
وارتمى النهر وحيداً
فتعرت في حقول الليل قامات القصب
ورذاذ من عيون الليل صلى وانسكب
هي "عادة" شعرية تجد حضورها في مشهد الحداثة التي تأسست في سياق قراءة واعية للتراث الشعري العربي، ففواز عيد هو أيضاً وريث قراءاته الغزيرة للديوان الشعري العربي الشامل، منذ الشعر الجاهلي، وهي قراءة تنحاز لانتقائيتها وانحيازاتها. ولعله في وقفته تلك لم يقف يوماً على أطلال التراث، لينعيه، أو يعلن قطيعة معه، أو حتى رثاء لأيامه، بل حرص على موقفه هو، وزمانه هو، فكتب المشهد الراهن بحدقة الرؤية المدججة بأفكار اليوم، وآمال القادم، على نحو حمل دوماً صوته الخاص، بل نبرته الخاصة المميزة، التي تحمل بصمة مختلفة قريبة إلى قلوب القراء، ومتذوقي الشعر.
فواز عيد في "بباب البساتين والنوم" هو حصان الشعر الجامح الذي يشبه المكر المفر الذي حطَه سيل مخيلته من عل فوقع على أرض الشعر، ونثر في حقولها النجوم والأقمار، وكأنه كان يودع عالمنا، ويطلق في اتجاه الحياة تحية العاشق الحالم والمسكون بكل لحظة فيها، وكأنها قصيدته المنشودة.
شاعر الكوميديا السوداء، ونقيضها الفرح الدائم، يحضر في مجالسنا على نحو مختلف، فهو نديم الصداقات الحميمة، ورحلات الأماكن الطبيعية، الذي تشتعل بحضوره الحوارات الأدبية، خصوصاً أنه عاش متنقلاً في بلدان متعددة كانت له فيها حياته الأدبية، وصداقاته التي لا تفتر، ولا تموت. شخصية الراحل فواز عيد كانت تكتمل بوجوده في صحبة أصدقائه الذين عرفوه في مراحل مختلفة، وواظبوا على التواصل معه في دمشق.
دمشق التي أحبها فواز عيد كانت إلى حد بعيد رفيقة شعره، حضرت أيضاً في قصائده، والأهم من ذلك أنها ظلَت حاضرة في مناخات تلك القصائد، وهو الذي استهل عودته إلى النشر بنص نثري بعنوان "شعر في دمشق"، جعله مقدمة لمجموعته الشعرية الثالثة "من فوق أنحل من أنين"، وفيه استعادة لذكريات متنوعة عن دمشق، والشعر،
وعدد من أصدقائه الشعراء في دمشق. فواز عيد عاد في ذلك النص الحميم إلى عوالم أدبية وإنسانية حملت كثيراً من صور حياته هو، مثلما حملت شيئاً من علاقته مع مجايليه الشعراء، وأبرز ملامحهم الشعرية والإنسانية، وهو في الوقت ذاته أشبه ببيان شعري هادىء أعلن عودته لفنه وإبداعه.
فواز عيد هو أيضاً إبن مدينة سمخ الفلسطينية، الذي هاجرت عائلته لاجئة إلى الشام وهو في العاشرة من عمره، فعرف صنوف العوز، وصعوبة العيش، فعمل بكد ومثابرة مثلما ارتحل من أجل العمل، وكان صيف دمشق يشهد عودته لنا مطلع كل صيف، حتى وجدناه ذات صيف يتحدث طيلة الليل عن الشعر، فعرفنا جميعاً أنه لن يعود إلى السفر والغياب، مهما كانت الأسباب، أو الظروف، وهو الأمر الذي تأكد لنا بعد ذلك..
في المشهد "الشعبوي" للشعر الفلسطيني، فواز عيد ليس حاضراً بالأهمية التي يستحقها وتستحقها تجربته الشعرية، ولكنه عند أهل الشعر والأدب، والثقافة عموماً، أحد أبرز الشعراء الفلسطينيين، وهو كذلك بالذات عند ناقد متميز كالراحل يوسف سامي اليوسف، الذي قال لي يوماً: لو قلت يوماً الشاعر، فإن هذه الكلمة تعني فواز عيد، أكثر من أي شاعر آخر.
فواز عيد حياة قلقة، رغم حضوره اليومي الصاخب، إذ هو ابن الحياة المتنوعة، ولكن المثقلة بجموح الفنان، وعصف أهوائه وطموحاته، التي كثيراً ما وجدت نفسها في ارتطام حاد مع الواقع والحياة، في زمن كان يصفه بأنه غير شاعري على الإطلاق، بل هو على النقيض من الشعر، ومن حالات الحلم على اختلافها وتنوعها، وهو الشاعر الحالم، العاشق للتجدد، والعطاء المستمر. هو أيضاً حنين لا ينقطع الى فلسطينه الخاصة، التي لم تغادره يوماً، وظلت جمرة تلذع القلب والروح.
فواز عيد شهاب عبر حياتنا، وعبر دنيا الأدب، فحقق الكثير والثمين، ولم يحصد سوى القليل القليل، الذي نعود اليه مرة بعد أخرى لنكتشف كل مرَة جديداً في تلك التجربة الفنية الآسرة التي حملتها لنا مجموعاته الشعرية الخمس، التي جاءت قليلة العدد بالقياس إلى ما يقدمه الشعراء عادة، لكنها مع ذلك غنية، متنوعة، متجددة، وفي سطورها شبوة الشعر، وشبوة الطموح، كما الكثير من وجد حار يظل له بريقه على مدى السنين والعقود.