في رحيل صلاح ستيتية.. المبدع الذي لم يؤدلج شعره
جلال الشعر القديم
تزداد فداحة رحيل ستيتية أكثر، حينما نتأكد من عدم ترديده مقولات شبه لاهوتية جاءت على ألسنة شعراء عرب ادعوا الحداثة سواء تعلق بالذين كتبوا باللغة الفرنسية أو باللغة العربية. فهو القائل: "إن مهمة رواد الشعر الحديث كانت صعبة بسبب جلال الشعر القديم ووطأته، ويبدو أن التحرر منها كان أكثر صعوبة في شعرنا العربي مقارنة بالشعراء الفرنسيين والإنكليز والألمان والأميركيين"، وعندما "خرج الشعر العربي إلى النور، أقبل بظمأ صحراوي على صور ومعان وتجارب أدبية لم تكن متوفرة من قبل، خاصة في الشعر العربي الحديث، وأذكر ماياكوفسكي ومالارميه وسان جون بيرس وناظم حكمت وإيلوار وإيف بونفوا ورينيه شار وهنري ميشو وبيار جان جوف وإليوت وعزرا باوند و المدرسة السريالية وعلى رأسها أندريه بريتون، وهناك أيضا إيلتيس ويانيس ريتسوس". ستيتية لا يدعي تمثيل الحقيقة ولا يعرف ماذا يكتب وإلا لما كان شاعرا على حد قوله، وليس ضد التقليد في حد ذاته لأن الإبداع استمرارية وتجديد في الوقت نفسه، لكنه ضد من يتبجح ويتباهى بتجديده المستمر في الشعر والنثر كما قال فرنسيس بونج مرة لجان كوكتو: "أنا لا أعيب عليك تقليدك للآخرين، بل أعيب عليك تظاهرك بأنك السباق دوما".
حياة إسراف وجنون
شاءت الصدفة أن أعيد قراءة الكتابين اللذين أهداهما لي الراحل في بيته الريفي الذي عاش فيه متصوفا حتى رحيله يوم التاسع عشر من أيار/مايو بعد حياة عاد إليها في مذكرات تؤكد أنه عاش فعلا وبشكل جنوني كما عبر عن ذلك عنوان كتابه "إسراف". إنه الكتاب الذي صدر عام 2015 عن دار روبير لافو وجرى تقديمه في معهد العالم العربي بحضور الراحل الكبير الآخر جان دنيال والناقد والروائي عيسى مخلوف وجاك لانغ وجمهور لم يتسع له الطابق التاسع الزجاجي الذي يطل على نهر السين الوديع. في الكتاب أسهب بقلم شاعري أخاذ في وصف طفولته محاطا بوالدين أحبا بعضهما البعض، وبتأكيده على خاصية الطفولة وانعكاسها في إبداعه الذي تجلى بشكل صارخ في ديوانه الثاني "الماء البارد المحروس" والذي خرج من رحم جبل باروك الذي كان يقضي فيه العطلة الصيفية طفلا في قمة السعادة متناغما مع طبيعة تطيل العمر. من خلال إعادة قراءة كتاب "إسراف" يكتشف القارئ مفكرا ومنظرا وناقدا ومبدعا في الشعر وديبلوماسيا. قد يتحفظ الثوريون والتقدميون من الكتاب على شخصية البرجوازي الصغير غير المؤدلج من منظور نمطية أيديولوجية ثبت فشلها لكن لا يمكن لهم في حال من الأحوال عدم إنصافه كما أنصف بعض الذين أبدعوا شعريا بغض النظر عن توجههم الأيديولوجي الذي كثيرا ما تحول إلى وسيلة أساءت لمفهوم الإبداع الشعري كما شرحنا في الحلقة الأولى وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة.
تكريم شعراء التموزية
كرم ستيتية ممثلي الشعر التموزي الذي "جاء من داخل اليقظة الجديدة للإنسان العربي" على حد قوله، وأحب من بينهم بدر شاكر السياب الذي ترجم له قصائد "جيكور" التي اعتبرها ذروة شعره، وانتمى الى اليسار الشيوعي بوجه خاص، والتحق بجماعة مجلة "شعر" التي أسسها خليل حاوي.
أشاد الراحل بالجماعة التي سعت إلى "تدمير الحواجز اللغوية والمعنوية لإنشاء شعر جديد" بذكره يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي، وبإلحاحه على خصوصية السياب الذي أحبه شخصيا وشعريا، واعتبره "أبرع الشعراء في التصوير والنغم الشعريين ليس بمفهوم القصيدة العمودية التقليدية لكن من منظور الغنائية الداخلية العميقة". وردا على أسئلة فصل "شعراء ومراحل" أكد ستيتية قبل رحيله أن موته لن يكون إلا جسديا، وأن صاحب الإبداع المتميز لا يموت. وقال: "يهمني أن أقول إن ذكر أسماء شعراء عرب دون غيرهم لا يعني مطلقا الانتقاص من قدر ذلك البعض، ومنهم شعراء تقليديون من ذوي الشاعرية الأصيلة، وإنما ورد ذكر من ورد ذكره لعلاقته المباشرة أو غير المباشرة بمضامين الحوار. إن الذين ذكرتهم عايشوني وعايشتهم في مسيرتي الأدبية والنقدية، ولأن بعضهم اعتبروني مطورا لمفهوم الشعر نقدا وابداعا في فرنسا وخارجها. أنا من المؤمنين بنظرية مالرو في كتابه الشهير "أصوات الصمت"، والتي تقول إن الإبداع لا ينشأ من التاريخ أو من الظروف أو من الأحداث، أو من العواطف، وإنما ينشأ من إبداع آخر، فالشعر هو ابن الشعر، والفن ابن الفن، وتأتي الأشياء الأخرى لكي تغذي العملية التحولية المستمرة. هذه النظرية أساسية في مفهوم الإبداع".
سأختم باستشهادين حول ستيتية:
آلان بوسكيه: "منذ مجموعته الأولى ’الماء البارد المحروس’ (1973)، كانت قصائد ستيتية تتصرف كمبتكرات (منحوتات) لفظية يمكن القبض عليها من كل الجهات دون التأكد من احتجازها عن حق".
أندريه ميكال: "أحسدك أنا يا صلاح وأغار منك. كان قليلا أن أظهرك شاعرا وعالما حتى في لغتك التي تجعل منكم أيها العرب سدنة لكلام جوهري. إنك من العرب الذين أتوا إلينا مخضعين اللغة القديمة لدعواتها الجديدة، مضيفين إلى عود الشاعر القديم أوتارا لم تقطعوا سواها. إنها الآلة نفسها إلا أن الإيقاع منها إيقاع الساعة، وسواء كان ذلك بالعربية أم الفرنسية، أم كان في النهاية باللغتين، فأي أهمية تبقى إذا كان الشعر هو المستفيد؟".
إذا كان الصحافي الثقافي لا يسعد ماديا نسبيا في عالمنا العربي والإسلامي مثله مثل صحافيي التخصصات الأخرى، فإن سعادته المعنوية لا تقدر بثمن في اعتقادي الذاتي والمتواضع، وخاصة حينما يحتل كتاب ما مكانة رمزية في قلبه وعقله تحت نور المعنى.https://t.co/a7nGzqj1PB — ضفة ثالثة (@DiffahThalitha) May 25, 2020 " style="color:#fff;" class="twitter-post-link" target="_blank">Twitter Post
">
|