نجيب سرور.. تجربة أدبية تستحق الاستعادة
نجيب سرور العصي على التطويع دفع أثمانًا باهظة لقناعاته ومواقفه، سواء بالسجن والتعذيب بشراسة، أو حتى باتهامه بالجنون بسبب كتابته مسرحيته "الذباب الأزرق"، التي تناصر المقاومة الفلسطينية في أحداث أيلول 1970، فمنعتها الدولة من العرض بعد احتجاج قدمته "السفارة الأردنية" يومها، وهو الذي سبق للحكومة المصرية عام 1964 أن أودعته "مستشفى الأمراض العقلية" مدعية جنونه من دون أن يتمكن ذلك كله من إضعاف عزيمته، أو ثنيه عن أفكاره.
مع عودته إلى مصر، كتب سرور مسرحيته "ياسين وبهية"، التي أخرجها كرم مطاوع، ثم أتبعها بمسرحية "يا بهية وخبريني"، من إخراج مطاوع أيضًا. وتتالت مسرحياته بعد ذلك من دون أن يتوقف عن كتابة الشعر، ومنه بالطبع قصيدته الشهيرة "أميات نجيب سرور"، التي نالت شهرة واسعة بسبب حدَة الغضب، وبسبب لغتها المباشرة، وحتى "الفجَة"، التي نذكرها هنا كجزء من تجربته الغاضبة، وليس كمقياس لجمالياته الشعرية، التي تظل أكبر منها، والتي ترتقي إلى مقام الشعر الحقيقي الجميل. في هذه القصيدة، كان سرور يهجو الواقع السياسي في وطنه، وما كان يعيشه من قمع واضطهاد، وهي لهذا السبب بالذات أقل أعماله فنية وجمالًا، وإن تكن صرخة غضب عبَّر من خلالها عن توتره وحالته العصبية بسبب المظالم الفادحة التي تعرض لها.
في مسرحه طلاقة الفن الجميل وسلاسته، فنجيب سرور المسكون بفن المسرح عاش حياته الحقيقية مع المسرح، وفيه، خصوصًا أنه عشق فن التمثيل، واعتبره الأرقى والأقدر على
التعبير عن الإنسان. ويؤكد أصدقاؤه أنه كان يلقي قصائده الشعرية بصيغة التمثيل الذي أجاده وعشقه. ومن المؤكد أن أبرز ما حملته تلك المسرحيات هو شخصياته المرسومة بحب كبير بأناقة فنية عالية عكست حبه للناس وانشغاله بقضاياهم.
نجيب سرور مرَّ على الحياة سريعًا، وغاب سريعًا، فهذا المسكون بكليته بالفن والأدب انتمى تمامًا إلى الفئات الاجتماعية المسحوقة والبسيطة، فعاش معها ولها سنوات عمره القصير الذي تجاوز قليلًا الستة وأربعين سنة وحسب، حيث غادر عالمنا تاركًا لنا ما أنتجه من مسرحيات، وما أبدعه من قصائد شعرية.
تجربة نجيب سرور في الحياة والفن معًا تبدو اليوم بقعة سوداء في تاريخ الثقافة العربية عمومًا، بسبب ما عاشه مبدع مثله من قسوة تفوق الوصف، وبسبب أن تلك القسوة كانت ممكنة الوقوع في بلاد العرب لتشير إلى موقع المثقف العربي في وطنه، وفرادة، بل غرابة هذا الموقع.
كان سرور قد عبَّر عن ذلك كله في مسرحياته، كما في قصائده الشعرية، التي أعتقد أنها واجهت أيضًا الظلم والإهمال بسبب قلَة نشرها وانتشارها في البلدان العربية. تستحق تجربة أدبية كهذه أن نستعيدها اليوم بأن نعيد نشرها من جديد، خصوصًا لأبناء الأجيال الجديدة من الكتاب والمثقفين العرب الجدد الذين لم يعيشوا تلك المرحلة، ولم يتعرفوا على إبداع سرور في مختلف المجالات.
هي دعوة لإعادة النظر أيضًا في استحقاق مسرحياته اهتمام أهل المسرح من الفنانين والفنانات العرب، من أجل إعادة تقديمها، والاستفادة منها في الدراما التلفزيونية والسينما، وأظن أن في كثير من أعماله ما يتجاوز "المرحلية"، ويستحق ذلك بالتأكيد.
عاش نجيب سرور حياة محمومة بسبب من التزامه قضايا الإنسان، ومعاناته في وطنه، ورحل سريعًا حين عجز قلبه عن النبض تحت ثقل كل الآلام والإحباطات التي واجهها، لكنه ظل نجمًا ساطعًا وبهيًا في سماء الفن، كما في سماء الحياة العربية عمومًا، باعتباره رمزًا للجمال والنقاء في حياتنا الثقافية والاجتماعية عمومًا.