ذكرى ميلاد عفيف البهنسي.. التاريخ وأسئلة الفنّ العربي الحديث

أشرف الحساني 27 مايو 2021

 

 

مرّت قبل أيام ذكرى ميلاد المُؤرّخ السوري عفيف البهنسي (1928-2017) مؤرّخ الفنّ العربي الحديث، وأحد علاماته البارزة، التي اشتغلت على طوبوغرافية الفنّ العربي من وجهة نظر تاريخيّة محضة وجعلته في مقدّمة الثقافة العربيّة المعاصرة، أمام سطوة مشروعة، أضحى يُمارسها الخطاب المكتوب على كل أشكال الفنون البصريّة، بحكم ذلك الجدل التاريخي العقيم، الذي رافق مفهوم الصورة منذ تبرعمها إبان العصر الوسيط وقبله بقليل. وهذا المنع، الذي طال الصورة ومتخيّلها وتمثلاتها الفنيّة، ما يزال إلى حد الآن، يُمارس سلطته القاهرة على كافة أشكال الخطاب البصري وجعله في الهامش، رغم أهميّة الصورة في الزمن المعاصر والدور الذي باتت تلعبه ليس فقط داخل الفنون البصريّة، وإنّما حتى على مستوى الأبعاد الجيوسياسية لبدان العالم، فقد عرّت عورتنا وأسقطت معتقدات وأفكارًا داخل البلاد العربيّة، لا سيما خلال مرحلة الربيع العربي، الذي تبوأت فيه الصورة منزلة رفيعة على صعيد مواجهة تنانين السلطة وتوثيق أفعالهم الإجرامية في حقّ الأفراد والمجتمعات. إنّ التأخّر الذي رافق مفهوم الصورة، بسبب تحريم التجسيد من لدن بعض الفقهاء، كرّس بشكل خفيّ سلطة الخطاب المكتوب على حساب البصري في تاريخ الثقافة العربيّة الوسيطة والحديثة منها من خلال التشجيع على مختلف أشكال الإبداع الأدبي، فيما يرتبط به من شعر وقصّة ورواية، إلاّ أنّ الصورة الفنيّة ظلّت في حكم اللامفكّر فيه، سواء داخل مؤسّسات فنيّة رسمية أو من لدن الجامعات ومختبراتها العلمية الهجينة. فالباحث اليوم داخل المغرب مثلًا، قد لا يعثر على أيّ مختبر علمي يعنى بتاريخ الفنّ ونماذجه الفنيّة العربيّة البارزة ومدى تقاطعاتها وتشابكاتها المختلفة مع الفنّ الغربي وجماليّاته.


والناقد الفني أو الباحث في التاريخ المعاصر والمقتفي لآثار الفنانين التشكيليين والسينمائيين والفوتوغرافيين، لا يلبث خلال فترة البحث والتكوين، أنْ يُغيّر مساره ومواضيع اشتغاله، صوب تاريخ سياسي/عسكري كاذب صنعته السلطة وسماسرتها، بما يرتبط بالمقاومة المسلحة والحركة الوطنية والسلفية والإصلاحات السياسية في مغرب القرن التاسع عشر والعشرين، وهي موضوعات أصبحت مبتذلة وتتراكم بوتيرة سريعة تنمو داخل مختبرات التاريخ وبنفس المنهجية القائمة على التدوير والتقطيع من هنا وهناك، أمام ثغرة كبيرة وفقر مدقع يتّصل بتاريخ الفنون العربيّة. فهذه الأخيرة، بما تُمثّله من حظوة معرفية داخل المختبرات الغربية، غير موجودة في أجندات مختبرات التاريخ المعاصر بالمغرب، ما يجعل الباحث (الحالم) المتخصّص في إنجاز دكتوراه في تاريخ الفنون العربيّة، أنْ يسافر إلى فرنسا أو أميركا أو بلجيكا، حتى يعثر على تخصّص هذا اللون الفني داخل المختبرات الأجنبية، مع العلم، أنّ التجارب الفنيّة التي باتت تحبل بها المنطقة العربيّة وما صدر حولها من كتب ومقالات ودراسات وحوارات ومونوغرافيات تاريخيّة، قادرة أنْ تُحقّق الآن مشروعًا فكريًا متكاملًا لـ"صياغة" و"تأريخ" تاريخ الفنّ العربي، أمام إمكانات هائلة تحوزها المؤسّسات الفنيّة اليوم، بسبب توافر الأرشيفات وعقود الشراكة مع مؤسّسات أجنبية، حتى وإنْ كانت محتشمة، فهي مع ذلك، لا تُشجّع على كتابة مونوغرافيات تاريخيّة حول تجارب تشكيليّة أو فوتوغرافية أو معمارية. من هنا، تبرز قيمة كتابات المؤرّخ السوري عفيف البهنسي في تأريخ فنّ البلاد العربيّة وقدرته في وقت مُبكّر على صياغة ملامح لفنّ عربي أكثر تعطّشًا إلى الحرية والتجديد والتأصيل الممنهج والمُستند على مفاهيم ونظريات والخروج به من عالم الصحافة والإعلام، صوب مختبرات علمية من أجل تشريحه والتفكير والحفر في بداياته وخصوصياته ومعالمه الجماليّة ومدى تقاطعه وتلاقيه مع حضارات أخرى. فالتفكير في الفنّ أكاديميًا، هو ما يُمكن أنْ يبرز شكل كتابة جديدة تقيم في تخوم المعرفة الإنسانية والاجتماعية وفحصه على ضوء مفاهيم ونظريات هذه المجالات المعرفية، أمام التحوّلات التي طالت الفنّ العربي في السنوات القليلة الماضية، فيما يتّصل منها بالجانب الرقمي.

 



مسيرة ثرّة وغنية

والحقيقة أنّ أسماء كثيرة من العالم العربي داخل الصحافة والنقد لعبت دورًا كبيرًا في العناية بالفنّ العربي، ولولا هذه الأقلام، رغم ما يطبعها من تفاوت على مستوى الاشتغال والقراءة، لتمّ طمس هذه الفنون البصريّة، وإلى حد الآن، ما يُكتب هو من داخل الصحافة وليس من داخل الجامعة المشغولة بقضايا ماضوية، لا تخدم الإنسان المعاصر في شيء. والغريب في الأمر، هو أنّ هذه الكتابة أصبحت اليوم مرجعًا لتاريخ الفنون العربيّة، خاصّة في مجال التشكيل العربي، فالباحث لا يعثر إلاّ عن هذه الكتابات النقدية، التي تُقرّب لا محالة الباحث الجامعي، الذي لم يتلق تكوينًا في الفنون البصريّة ومناهجها وطرق التفكير في مداخلها وقضاياها، من بناء معرفة أوّلية بموضوع تاريخ الفنّ العربي. لكن ما ينبغي التأكيد عنه، هو أنّ هذه الكتابات، لا يمكن أنْ تتحوّل إلى كتابة تقرأ تاريخ الفنّ العربي، بحكم أنّ منطلقاتها ليس فكرية وتاريخيّة، باستثناء بعض الكتب المعدودة على أصابع اليد الواحدة لكل من عفيف البهنسي وموليم العروسي وشربل داغر على سبيل المثال لا الحصر. وإنّ كان العروسي يشتغل في أفق آخر ومغاير يستند على الفلسفة، بالمقارنة مع الباحث الجمالي اللبناني شربل داغر الذي اتّخذت كتاباته في الفنّ منذ بواكيرها الأولى صيغة تاريخيّة وحفرية، هي ما يجعلها اليوم في طليعة الكتابات التي تحفر في بدايات مفهوم الصورة وتمثّلاتها داخل الفنّ العربي في شقّه التاريخيّ. ورغم أهميّة هذه الكتابات النقدية، فإنّ عفيف البهنسي، يظلّ في نظري الأقرب إلى استكناه جوهر التاريخ في بعض تجلياته، كما صاغته مدرسة الحوليات مع لوسيان فيبر ومارك بلوك وتم تكريسه وبلورته وتجديده مع بروديل، بحكم العدد الهائل من كتبه المخصّصة لتاريخ الفنّ العربي. إنّ الوعي بمآزق اللحظة داخل العالم والأعطاب التي تنخرها ثقافيًا، هو ما شجّع عفيف البهنسي على التأريخ للفنّ الحديث وجعل كتاباته تنبثق من سؤال إشكالي يهتم بالحفر في علاقة التاريخ بالفنّ، ولو أنّ البهنسي لم يطرح السؤال بشكل ظاهر وجليّ، من خلال بحث تنقيبي/ تنظيري في سوسيولوجيا هذه العلاقة بين الفنّ والتاريخ، إلاّ أنّ آلاف الدراسات وعشرات الكُتب التي نشرها، تُجيب ضمنيًا عن جوهر هذه العلاقة الشائكة والممكنة. ورغم اهتمام البهنسي بتاريخ التشكيل العربي، الذي ألّف فيه مجموعة من الأعمال مثل: "الفنون التشكيلية في سورية" و"الأثر الفني بين التطبيق والتشكيل"، إلاّ أنّ اهتمامه الأكاديمي داخل جامعة دمشق كأستاذ تاريخ الفنّ والعمارة منذ عام 1959 وباعتباره أوّل مدير للفنون الجميلة في سورية بين عامي 1962 و1971، جعله علامة بارزة على مستوى فنّ العمارة العربيّة وما يرتبط بمفهوم الآثار وتقنيات تنقيب البحث الأثري، الذي أفرز كتبًا كثيرة مثل: "الفنّ عبر التاريخ"، "الفنّ الحديث في سورية"، "الفنّ الإسلامي"، "معجم مصطلحات الفنون"، "الفنّ والاستشراق"، "الفنّ العربي بين الهوية والتبعية"، و"خطاب الأصالة في الفنّ والعمارة".

فقد ظلّت هذه الكُتب تُمثّل إلى حدود الآن مرجعًا هامًّا في تاريخ العمارة العربيّة وخصائصها الفنيّة والجماليّة والمصادر الروحية والمعرفية، التي نهلت منها من حضارات أخرى في فترة مُبكّرة من مراحل التلاقح الثقافي، بين العالم الإسلامي والثقافة الغربية، بحيث أنّ التأثير الروماني واضح المعالم والرؤى، قبل أنْ تصوغ العمارة العربيّة الإسلامية إبان العصر الوسيط وحدتها الوجودية بالاستناد على جماليّة تمتح معينها الثقافي من الفنّ الإسلامي بكافة تمثّلاته وعناصره الفنيّة من رقش وزخرفة ومنمنمة وخط. هذا اللجوء عند البهنسي صوب العمارة، لم يكُن اختيارًا تمليه الأبحاث الأكاديميّة فقط، بل بسبب العشق الخفيّ والمنزلة، التي يتنزّلها التأريخ الفنيّ في حياة البهنسي الشخصية، التي اضطر معها إلى السفر من سورية إلى باريس لاستكماله دراسته في الحقوق، إلاّ أنّ ذلك، لم يكُن ممكنًا أمام قلق الذات وفتنة الفنّ ومباهجه داخل الحياة اليومية الباريسية، فاضطر إلى التسجيل في أحد المعاهد وإتمام دراسته في مجال الفنون إلى أنْ حصل على درجة الدكتوراه في الفنّ وعاد إلى سورية للاشتغال على الفنّ العربي الحديث والتعريف به. ورغم هذا البُعد الذاتي الحميمي في اختيار الكتابة في الفنّ، إلاّ أنّ فطنة البهنسي إلى الرجّات التي ألمّت بالعالم العربي منذ نهاية الأربعينيات، وهي فترة اتّسمت عربيًا بطابع عنيف مُتمثّل في الاستعمار ومختلف أشكال الاستيطان والتنكيل، الذي تعرّضت له ثقافة الشعوب العربيّة وفنونها وجرائم السرقة ونهب الأثار من تحت الأتربة وتغريبها داخل مناطق أخرى من العالم، جعلت المُؤرّخ البهنسي، يروم إلى الاهتمام بالآثار المادية ويشارك مع العديد من علماء الآثار داخل مواقع أثريّة عربية من أجل البحث والحفر والتقصي. هكذا برزت صورة البهنسي داخل الساحة التاريخيّة في ذلك الإبان، خاصّة وأنّه كان يُوازي في عمله بين العمل الأركيولوجي الميداني وبين تأريخ هذه الخلاصات والاستنتاجات والاكتشافات العلمية، وهي المرحلة الإبستيمولوجية الأخيرة من عملية الكشف عن الآثار، وقلّة من الأسماء العربيّة من ظلّت تُوازي بين التنقيب والكتابة، بحكم ضراوة الأخيرة، التي تزج بالباحث الأثري في سجن المُؤرّخ وتفرض عليه تعاملًا حذرًا مع المناهج العلمية والأرشيفات والمصادر التاريخيّة المكتوبة المُتنوّعة وسبل توثيقها بطريقة بارزة ومحترمة تُراعي علمية البحث التاريخي.

 



سؤال الفنّ والتاريخ

تعرّفت على المؤرّخ السوري عفيف البهنسي وأنا طالب في التاريخ والحضارة من لدن الباحث الأكاديمي المغربي محمد سعيد المرتجي (أبرز الباحثين في الفنّ الإسلامي والمتاحف) داخل وحدة "تاريخ الفنّ" و"الفنّ الإسلامي"، وأتذكّر جيدًا الألم الذي كان ينخر جسدي وأنا طالب أقتفي سيرة الفنّ العربي داخل المتون العربيّة المعاصرة ومضامينها، فالبحث التاريخي بالمغرب غائب ومُغيّب والمقرّر الدراسي كان يشتغل بالدرجة الأولى، على نماذج من الفنّ والعمارة داخل المشرق العربي وفي فترات مُتحوّلة، تبدأ من البواكير الأولى للتاريخ الوسيط إلى الحقبة المعاصرة، إذْ لم تكُن المراجع سهلة للحصول عليها من داخل مكتبة الجامعة، لا سيما في تاريخ الفنّ، بسبب ضعف البحث التاريخي المغربي في هذا الشأن. آنذاك وبالصدفة داخل بعض المكتبات العامّة، بدأ اسم عفيف البهنسي يطفح إلى السطح (اللبناني شربل داغر والمغربي موليم العروسي فيما بعد) وبدأت اصطدم بين الفينة والأخرى بكُتبه الفنيّة المُتعدّدة، وقضيت وقتًا طويلًا في قراءة كتاباته في تاريخ الفنّ، لا سيما فيما يتعلّق منها بسورية. والحقيقة أنّ ما قرأته لهذا الرجل، كان هو المدخل الوحيد والآمن لمعرفة وفهم ما كان يجول في بعض محاضرات الأستاذ محمد سعيد المرتجي وقدرته على التأثير فينا كطلبة للاشتغال والتفكير في تاريخ الفنون العربيّة، بحكم ما راكمه من تجربة أكاديميّة غنيّة بفرنسا في موضوع "الفنّ الإسلامي داخل المتاحف الفرنسية. وشيئًا فشيئًا بدأ وعيي في تاريخ الفنّ العربي يتشكّل بفضل البهنسي ومعه تتكاثر الأسئلة المقلقة حول علاقة الفنّ بالتاريخ، وما رافقها من سلسلة أخرى من القراءات في علم الجمال والأنثروبولوجيا، لكنّ الجانب التاريخي ظلّ هو الهاجس الوحيد إلى حدود اليوم.

إنّ استعادة ذكرى الراحل المؤرّخ عفيف البهنسي، من شأنها أن تُثير الكثير من التساؤلات الإبستيمولوجية حول مستقبل تاريخ الفنّ داخل البلاد العربيّة، فهي بقدر ما ترتبط بسيرة الرجل المعرفية والأكاديميّة التي فاقت 70 كتابًا، فإنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا وعضويًا بجوهر مفهوم التاريخ في علاقة بالفنّ العربي. هل نجح البهنسي في استكناه هذه العلاقة نظريًا؟ قطعًا لا. سيكون ذلك جواب أيّ قارئ لكتاباته التاريخيّة، لكنّه سيفطن في لحظة ما، أنّ الرجل تفاعل مع هذه العلاقة، لكن من وجهة نظر برانية، قد لا تتعدى مستوى نمط الكتابة، فكتاباته يغلب عليها السرد والحكي أكثر من ارتفاع منسوب التحليل والتفكير والتنظير في بعض قضايا الفنّ العربي. وهذا الأمر، راجعٌ بقوّة إلى مستوى تبني شكل الكتابة وإلى غلبة شخصية الأثري على المؤرّخ. فالأوّل يقف عند حدود البحث والرصد وإعادة بناء الحقيقة التاريخيّة على ضوء مكتشفات أثريّة بعينها. أما الثاني (أتحدث عن المؤرّخ المجدّد) فيهتم بالسياقات التاريخيّة ومداخلها الفكرية وموضعة الحدث التاريخي في مكانه وزمانه، قبل إصدار أيّ حكم عنه، ما يُفسّر غلبة البُعد السردي والوصفي على كتاباته، لكنّها مع ذلك، تبقى مهمّة جدًا، لأنّ منطلقاتها المعرفية صحيحة وأصيلة وموفّقة إلى حد بعيد، لكونها تستكنه الحدث التاريخي في آنيته بغية توثيقه وتأريخه، في وقت لم تكُن معالم التاريخ الجديد، قد بدأت تتبلور وتتشكّل داخل البحث التاريخي بالعالم العربي، إلاّ مع بداية السبعينيات، حيث بدأت تظهر بعض الترجمات لكتب رواد الكتابة التاريخيّة الجديدة و"التشبّع" بها وبما تُتيح من أفكار نظرية ومفاهيم فكرية تخترق بزخمها مكبوت ثقافة البحث التاريخيّ وتفتح له آفاقًا جديدة على مستوى التفكير في موضوعات تاريخيّة جديدة وفي فهم مداخلها المعرفية، التي تتقاطع مع علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلسفة وغيرها من المعارف الأخرى.

*ناقد مغربي.