في مئوية الشاعر سليمان العيسى.. غناء الأرض والطفولة

سليمان بختي 10 أغسطس 2021
استعادات
سليمان العيسى (1921 ـ 2013)
حمل الشاعر السوري سليمان العيسى في صوته صرخة الدفاع عن قضايا العالم العربي وشعوبه، واتسعت همته لآمال أمته. كان ثائرًا أصيلًا صوّر في شعره واقع العالم العربي ومعاناته وأحلامه، ولقّب بشاعر الطفولة.
ولد الشاعر سليمان العيسى سنة 1921 (وهذه السنة هي مئوية ولادته) في قرية صغيرة اسمها النعيرية تقع في حارة "بساتين العاصي" شمال سورية. هذه القرية سيفتقدها الشاعر كثيرًا، وسيغنيها كثيرًا، لأنها تقع في لواء الإسكندرون "السليب"، الذي سلخه الانتداب الفرنسي عن سورية، وضمه إلى تركيا عام 1937. لذلك عاش العيسى الحنين والشوق إلى مسقط رأسه، ولم يبارح ذلك شعره، إذ يقول ذاكرًا طفولته: "لا أقول اللواء ما كان يوما/ غير جرح من الجروح اللواء".




درس سليمان العيسى على يد والده الشيخ أحمد العيسى في القرية، فحفظ القرآن، والمعلقات، وديوان المتنبي، وآلاف الأبيات من الشعر العربي. ولم يكن في القرية مدرسة غيرها (مدرسة الكتّاب)، وكانت بيت الشاعر الصغير، إذ كان والده الشيخ أحمد يسكنها، ويعلّم فيها. باكرًا، بدأ العيسى كتابة الشعر ولم يتجاوز التاسعة أو العاشرة، عندما كتب أول ديوان يتناول فيه هموم الفلاحين، وظروفهم القاسية. من الكتّاب انتقل إلى المدرسة الابتدائية في أنطاكية، وكانت ثورة اللواء العربية قد اشتعلت مع شعور عرب اللواء بمؤامرة فصله عن سورية. شارك العيسى بقصائده القومية في المظاهرات اليومية والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد الانتداب الفرنسي. وهو في الصف السادس ابتدائي غادر لواء الإسكندرون مرغمًا تاركًا خلفه أحلامه وذكرياته ومرارته، ليتابع مع رفاقه الكفاح ضد الانتداب الفرنسي في سورية كلها. تابع دراسته الثانوية في ثانويات حماة، واللاذقية، ودمشق. ذاق مرارة التشرد، وثمّن قيمة الكفاح في سبيل الأمة العربية ووحدتها وحريتها. ولبث يطلق قصائده ومواقفه القومية رغم الملاحقة والسجن لأكثر من مرة. حتى أنه كتب قصيدة عن سجن المزة يقول فيها: "هذي هي المزة واجمة الركاب/ هذي سلاسل أمتي نثرت على تلك الشعاب/ هذا هو السجن الملفع بالحديد والحراب/ في هذه الظلمات يرقد من تركت من الصحاب/ في هذه الظلمات كم جسد تقطع كم أهاب". ومن كثرة تعرضه للسجن، أصدر كتابًا عن هذه التجربة بعنوان: "شاعر بين جدران" (بيروت 1954). شارك العيسى في تأسيس حزب البعث ولما يزل طالبًا في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. وكان من النواة الأولى المؤسسة لحزب البعث، وكتب العدد الأول من جريدة البعث بخط يده.
درس في دار المعلمين العالية في بغداد متزاملًا مع كبار الشعراء العراقيين، ونال الإجازة في الأدب والتربية 1947. ثم مارس التعليم في مدارس حلب من سنة 1947 إلى 1967، وانتقل إلى دمشق موجهًا في وزارة التربية. عرف سليمان العيسى الحل والترحال في حياته في دنيا العرب، ولكنه بقي وفيًا لينابيع الطفولة: "أضرب في أرجاء الدنيا/ سافر حيث شئت../ سترى أشياء كثيرة في هذا العالم تغنيك.../ تفتح آفاقًا لم تخطر على بال/ كل هذا يحدوك.../ يجعلك أبعد نظرًا وأنضج رأيًا وأعمق رؤية/ ولكن الذي يصلك بأعماقك/ وحنينك إلى الحياة/ وتشبثك بها/ هو عودتك إلى الطفولة.../ إلى ينابيعك الأولى/ إلى نسيج حياتك الأول التي ستظل/ على امتداد العمر، تحمل بصماته، شئت أم أبيت/ شعرت أم لم تشعر/ هذه الطفولة/ هذه الينابيع الأولى/ هي وحدها القادرة على أن تلهمك وتعطيك/ وتبدعك مرة أخرى/ كلما مددت إليها يدك". عام 1952، أصدر ديوانه الشعري الأول "مع الفجر". دعا العيسى في شعره إلى الثورة ضد الظلم، وإلى الاشتراكية، والدفاع عن المقهورين والبؤساء والجائعين. عبر عن آلام الجماهير. دافع عن حق فلسطين، وهنالك قصيدة مشهورة له بعنوان "فلسطين داري". أيد الثورة الجزائرية. استنجد بالرئيس جمال عبدالناصر ليهاجم غزاة الأمة. كتب قصيدة بعنوان "الأرسوزي" سجل فيها إعجابه الكبير بالمفكر السوري زكي الأرسوزي، وقال: "الجيل... سله... إنه صيحة/ أطلقتها أنت... فكان الجواب/ والبعث... سلني... إنه خفقة/ عنك استفاقت في دماء الشباب/ وثورة الأجيال...هل جلجلت/ لو لم تكن أنت الدوي المجاب".
طرح العيسى في شعره كثيرًا من الأسئلة المتعلقة بتخلف الأمة العربية وعجزها أمام الاستعمار، إذ يقول: "لماذا نحن فوق الأرض صيد البغي والسلب؟/ لماذا أمتي تجتث أغوارًا وأنجادا؟/ لماذا تحمل التاريخ أغلالًا وأصفادا؟/ لماذا يقتل العرب؟".




وكان يستشعر الخوف والخطر على المدن والحاضرات العربية: "ممسكًا دقات قلبي بيدي/ كلما دق على النيل خطر/ كلما غام على الشام الدجى/ كلما غمغم في القدس خبر/ يا بلادي... جرحك الدامي على/ شفتي لحن أسميه الظفر".



الالتفات إلى الأطفال
عاش العيسى أحلام عصره، حلم بشمس العروبة مشرقة أبدًا، أيد الوحدة بين مصر وسورية. ولكن نكسة حزيران 1967 جعلته يعاني الخيبة والهزيمة، فقرر الالتفات إلى الأطفال، لأنهم فرح الحياة، ومجدها الحقيقي، فعدهم الخلاص الوحيد للأمة العربية في بناء وطن حقيقي. وفاقدًا الأمل في جيله راح ينظم القصائد لأمل المستقبل، قصائد وأناشيد ومسرحيات ومسلسلات وأغاني بسيطة مؤثرة وبأبعاد تربوية. إنه "ديوان الأطفال" الذي يحفظ الأطفال العرب بعض قصائده. خاطب الطفولة بروح الطهارة والبراءة مستخدمًا اللفظة الرشيقة، والصورة الشعرية الجميلة، والإيقاع السريع، جعلت من تلك القصائد أناشيد جميلة.




كتب نشيد الأم: "أنا عصفور ملء الدار/ قبلة ماما ضوء نهاري". كتب للأطفال مسرحيات، وأيضًا مسلسلات، مثل "القطار الأخضر" (بغداد 1976)؛ "المتنبي والأطفال" (دمشق 1978)؛ "غنوا يا أطفال" (بيروت 1979)؛ و"فرح الأطفال"، و"نشيد الحجارة" (دمشق 1981)، وغيرها. كما غنى للأطفال بفرح وبراءة الأمل، عزف سيمفونية البطولة والكفاح والفداء مستلهمًا تضحيات الأجداد، وحثهم على المقاومة والانتفاضة، ورفض الاستعمار والهزيمة.
كان سليمان العيسى، كما يقول الناقد عبدالله أبو هيف، سباقًا إلى الاستجابة المباشرة للعمليات الفدائية التي خلدها في الذاكرة، كما فعل في مسرحية "قنبلة وجسد" المستمدة من حادثة الفدائي عرفان عبدالله، الذي سقطت منه القنبلة وهو يبتاع الطعام لرفاقه في عمان، فصاح بالناس ليبتعدوا، وارتمى فوق القنبلة، وغطاها بجسده، كي لا تؤذي أحدًا. وقد أصبحت هذه المسرحية رمزًا للتضحية ونشيدًا للشهادة. وسجل في قصائده معاناة الشعوب العربية، وانتفاضة فلسطين ضد الأطماع الصهيونية والعنصرية. وبذلك يقول عنه الدكتور شاكر الفحام، رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق: "وكان سليمان، كالعهد به دائمًا وأبدًا، شديد التتبع للأحداث القومية في الوطن العربي، سريع الاستجابة لها، وكان شعره سجلًا صادقًا لعواطفه ومواقفه القومية".



"اليمن مهد العروبة"
فُتن الشاعر باليمن، واهتم بتلك البلاد، وخصها بكثير من أشعاره، وتغنى بوحدتها ومواسمها ومهرجاناتها وجمال طبيعتها. ويقول عن اليمن: "منذ زيارتي الأولى لهذا البلد العربي العريق أخذت أطلق عليه اسم: المهد... مهد العروبة". ولبَّى دعوة صديقه الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح ليستقر في صنعاء منذ عام 1989، لأن "ألفي ليرة معاش تقاعد في دمشق لا تكفي". وكانت فترة اليمن فترة خصبة ومثمرة شعريًا، وصدرت في كتب مثل: "اليمن في شعري"، الذي ترجمته إلى الفرنسية زوجته ملكة أبيض، و"يمانيات.. قصائد لليمن أرضًا وإنسانًا وتاريخًا، و"ديوان اليمن" و"الثمالات"، ثم "الكتابة بقاء"، وجمع فيه الشعر والنثر معًا. وفي تعز حيث أمضى الشاعر مع زوجته خمس سنوات، ترجما معًا مئات القصص للأطفال عن الفرنسية والإنكليزية، ومع كل قصة نشيد للشاعر مستوحى منها. وجمع العيسى هذه الأناشيد في كتاب مستقل بعنوان "أغاني الحكايات".




كتب سليمان العيسى جميع أشكال الشعر، ولا يرى أن شعر التفعيلة جديد علينا، ويعتبرها تجارب بدأت بالموشحات. وفي رأيه "المهم التعبير المتميز، وليس الروي". لخص العيسى مسيرته الشعرية ومكونات شخصيته الشعرية بهذه الكلمات: "اذكروا أني عشقت الأرض/ أحببت الحياة/ وترشفت ثمالات الغروب/ وأنا أبحث عن أولى زغاريد الصباح/ اذكروا أني كالأطفال غنيت/ وطاردت الفراشات طويلًا/ وتسلقت الشجر/ وقطفت التين والرمان/ من بستان جدي والقمر/ كان جدي عاشقًا للقمح والرمان/ والأرض التي تعطي الثمر".
حصل العيسى عام 1982 على جائزة اللوتس، وانتخب عام 1990 عضوًا في مجمع اللغة العربية في دمشق. ونال عام 2000 جائزة الإبداع الشعري من مؤسسة البابطين.
مع بدايات الألفين، عاد سليمان العيسى إلى دمشق، وقد فاقت مؤلفاته الخمسين. وكان آخرها ديوان "قطرات" (2012). اشتدت عليه وطأة المرض، وصعوبة النطق، ورحل عن عالمنا في دمشق عن عمر ناهز 92 عامًا، في 9 آب/ أغسطس 2013. وكم يشبه عمره المضنى بالنضال والشعر والعطاء ما قاله في رثاء نزار قباني:
"قلت: بل مات الجسد
حطم الصخر على الشطر الزبد.
لا تموت الكلمة...
(إنها في البدء كانت...)
وستبقى الشاعرة...".