ذكرى بدوي الجبل.. شاعر الوطن والحب والنضال والموقف

سليمان بختي 28 أغسطس 2021
استعادات
بدوي الجبل/ محمد سليمان الأحمد (1903 ـ 1981)
يعدُّ الشاعر السوري بدوي الجبل (1903 ـ 1981) من طبقة الشعراء الكبار في العالم العربي. ولا يزال بعد أربعين سنة على وفاته يتحقق شعره في عالم الوجدان، وفي ذاكرة الوطن، مع أصالة التعبير، وسبك المعنى والتعبير.
ولد بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) في قرية ديفة ـ جبل اللكام في الجبل العلوي من محافظة اللاذقية. كان والده الشيخ سليمان الأحمد (عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، وشارح ديوان المكزون)، وعلمًا من أعلام زمانه فقهًا ولغة وأدبًا. وعنه أخذ أولاده الثلاثة، فكانوا كلهم شعراء، وألمعهم (محمد ـ بدوي الجبل). ولكن ما قصة لقبه "بدوي الجبل"؟
يروي عزيز نصار في كتابه "بدوي الجبل.. ذاكرة الأمة والوطن" قصة اللقب الذي أعطاه إياه يوسف العيسى، صاحب جريدة "ألف باء" عام 1921، فقد دخل الشاعر الشاب إلى مكتب رئيس التحرير محتجًا على تذييل قصيدته بغير اسمه، فأقنعه عيسى بأن الناس يقرأون للشعراء المعروفين، وإنه ليس مشهورًا، وسيدفعهم الاسم المستعار إلى قراءة الشعر، والتساؤل عن حقيقة كاتبه. وهنالك لقب آخر لبدوي الجبل أطلقه عليه أكرم زعيتر، وهو "شاعر العربية"، عندما كتب غير مرة "أهدي إلى العربية شاعرها".
لم يكمل بدوي الجبل الإعدادية في التعليم، ولكنه استفاد كثيرًا، ونهل من علم والده وثقافته. دخل بدوي الجبل معترك السياسة باكرًا. وقد أخذ عليه في بدايته أنه مدح "غورو"، المندوب السامي الفرنسي، إلا أنه صحح موقفه بسرعة، وهاجم الاستعمار الفرنسي بضراوة، فعمدوا إلى اعتقاله وتعذيبه وسجنه رغم صغر سنه. التحق بثورة صالح العلي، وعادى الفرنسيين، وكل الاحتلالات الاستعمارية في الشرق والعالم. ناضل مع يوسف العظمة لأجل حرية سورية، وأهداه كتابه "البواكير": "إلى تلك الروح الكبيرة التي تمردت على العبودية والحياة". ذهب إلى العراق وشارك في ثورة رشيد علي الكيلاني (1942). انتُخب نائبًا في مجلس الشعب عن جبل العلويين، وأعيد انتخابه مرات عدة، ثم عين وزيرًا مرات عدة (الصحة، والدعاية والأنباء). وإلى جانب ذلك، عرف بدوي الجبل التشرد والمطاردة، متنقلًا بين لبنان والعراق ومصر وتركيا وإيران وفيينا وروما وجنيف. وكأن قدره أن يبدأ حياته في السجون والمعتقلات، وينهيها متشردًا في المنافي.




كانت له في لبنان صداقات كثيرة وكبيرة، فقد دعي في 16 تموز/ يوليو 1952 لإلقاء قصيدة تأبينية في الذكرى الأولى لمقتل الزعيم اللبناني، رياض الصلح، قال فيها: "غاب عن الثرى أحباء قلبي/ فالثرى وحده الحبيب الخليل/ وسقوني على الفراق دموعي/ كيف يروي من الجحيم الغليل"، إلى أن يختم: "أين أين الرعيل من أهل بدر/ طوي الفتح واستبيح الرعيل".
وفي عام 1953، دعي بدوي الجبل إلى تتويج الملك فيصل الثاني في بغداد، وألقى قصيدة بعنوان "يا وحشة الثأر"، يقول في مطلعها: "شاد على الأيك غنانا فأشجانا/ تبارك الشعر أطيابا وألحانا". وتقديرًا لذلك منحته الحكومة العراقية وسام الرافدين من الدرجة الثالثة، فرفضه، وكتب إلى رئيس الوزراء جميل المدفعي رسالة يقول فيها: "إنني أعتبر تفضلكم بإهدائي هذا الوسام امتهانًا لكرامة الفكر، وازدراء بشأن الأدب... وليعلم سيدي الرئيس أن الدولة لو أهدت إليّ أرفع وسام فيها لكان تشريفًا للوسام وتجحيدًا للدولة قبل أن يكون تشريفًا لي ولشعري". تداركت الحكومة العراقية الأمر، واعتذر منه المدفعي، وفاز الشاعر المستحق بالوسام المستحق.



كانت لبدوي الجبل مواقف مشهودة وغير مسبوقة في الدفاع عن كرامة الأدب والأدباء والشعر والشعراء. ففي عام 1954، وأثناء انعقاد مؤتمر الأدباء العرب في دمشق، وكان الدكتور طه حسين في مقدمة الحضور، لاحظ بدوي الجبل أن سفير مصر في سورية أبى مصافحة الدكتور طه حسين، لأن الأخير أدلى بتصريح ينتقد فيه العهد في مصر لموقفه من الحريات. ولما اعتلى بدوي الجبل المنبر، وكان وزيرًا، وجه كلامه إلى طه حسين قائلًا: "تفنى الرؤساء وتزول الحكومات وتبقى أنت... يذهب العظماء ويبقى أدبك خالدًا".




وكان له أيضًا انفتاحه على الشعر العربي الحديث، ففي نيسان/ أبريل 1960 كان ضيفًا على خميس مجلة "شعر" في بيروت، وركز في مداخلته على موضوع الطرب في الشعر "وبدون الطرب لا شعر. طرب الصورة والعاطفة والمعنى والوزن. طرب السحر العابر إلى بعث النشوة العارمة والعميقة".
في أوائل الستينيات، جرت محاولة انقلابية في لبنان، قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي، فشددت الرقابة على السياسيين السوريين المقيمين في لبنان، وخشي بدوي الجبل أن يصيبه الأذى، فلاذ بالبطريرك المعوشي، فطمأنه. لكنه غادر بعدها إلى إسطنبول، ومنها إلى مدن أوروبية عديدة. وفي عام 1963، كان أمام حدثين: الأول نظمه قصيدة "حنين الغريب"، معبرًا عن شوقه لربوع الشام، فيقول: "تطوحين الأسفار شرقًا ومغربا/ ولكن قلبي بالشام مقيم". والحدث الثاني عودته إلى الشام، واستقراره فيها نهائيًا. ولكنه ظلّ يتفاعل مع أحداث عصره بروح الشاعر، ورؤية السياسي. ولما اغتيل صديقه الصحافي، كامل مروة، صاحب جريدة "الحياة"، في بيروت عام 1966، كتب متألمًا: "لا دموعي طوع يدي ولا بياني، خطبك يا أبا جميل برح نفسي، ثم حولها أشلاء ثم أشاع فيها الموت... ثم غمرها بالفناء. وها أنذا بعدك منية تبكي منية، بل خلود يرثي خلودًا، ومن رأى قبلنا منايا وخلودًا ينوح على خلود".
حفلت مواقف بدوي الجبل السياسية بالصخب، فهو كان من أنصار شكري القوتلي، ووقف ضد الوحدة المصرية- السورية عام 1958. ورأى أن هذه الوحدة أكلت مشروع الوحدة العربية. وكتب هاجيًا عبد الناصر في قصيدتين "كافور"، و"فرعون". ولكنه في عام 1967، عام النكسة والهزيمة، انفجر ضد القادة السياسيين الذين سببوا الهزيمة، وسمى عبد الناصر، وسمى وزير الدفاع السوري آنذاك، حافظ الأسد. وهاجم حزب البعث. وقد سببت له هذه القصيدة المصائب والويلات، حتى أنه تعرض للخطف عام 1968، إذ هاجمه ملثمون وضربوه بحديدة على رأسه، وتدخل حافظ الأسد يومها موجها إنذارًا للخاطفين، فتجاوبوا، ووجد بدوي الجبل ملقى على قارعة الطريق وجروحه تنزف. عرضته هذه الحادثة إلى تلعثم في الكلام، ومشاكل حركية. ولكنه بعد ذلك اعتزل السياسة، وغرق في الوحدة، متابعًا بعض قصائده الشعرية، وإعداد ديوانه الذي صدر عام 1978 في بيروت بمقدمة من صديقه أكرم، وأهدى ديوانه إلى الملك فيصل آل سعود.




السلطات في سورية أعادت طبع الديوان ثانية، بعد حذف الإهداء. وفي 19/8/1981 توفي بدوي الجبل، ووري الثرى إلى جانب والده في جبل اللاذقية.
اتسم شعره بالعمق والسلاسة والنغم الرائع. وقد امتلك أدوات الشعر العالي والخيال والعاطفة واللغة والنغم والأسلوب.
يقول بدوي الجبل في مقابلة أجريت معه جوابًا عن رأيه بنفسه كشاعر: إن لي خمس قصائد تكفي لأن تعطي العالم العربي فكرة عن شعري، وأذكر منها قصيدة "الخلود"، وقصيدة "رثاء هنانو"، وقصيدة "الشهيد". والحق يقال إن بدوي الجبل أشاد دائمًا بأبطال سورية الحقيقيين، مثل إبراهيم هنانو، ويوسف العظمة. كما أنه أحب لبنان حبًا جمًا، ويقول في قصيدته عن أديب مظهر: "منازل الخلد لا أرباع لبنان/ وفتنة السحر لا آيات فنان/ ويا ربى الحسن في لبنان هل ثملت/ بعدي الرياحين من صهباء نيسان". هذا الشعر العذب جذب إليه رموز الغناء العربي. فغنّت له فيروز "من نعمياتك لي ألف منوعة/ وكل واحدة دنيا من نور/ رفعتني بجناحي قدرة وهوى/ لعالم من رؤى عينيك مسحور/ أخادع النوم إشفاقًا على حلم/ حان ٍعلى الشفة اللمياء مخمور". وغنت له نجاة الصغيرة ونجاه علي وناظم الغزالي. وطلبت أم كلثوم قصيدة "شقراء" لتغنيها شرط أن تصبح "سمراء"، لكنه رفض.
وأخيرًا، يعكس شعر بدوي الجبل جوهر الكلاسيكية في أبهى مقاماتها في الشعر العربي، من حيث تحقيق التوازن بين الخيال والفكرة. وحمل شعره الابتهالات والإشارات الصوفية، والتمعت في ثنايا شعره روح المقاومة. وكذلك الإصرار على إبراز الهوية، إذ يقول: "مسلم كلما سجدت لربي/ فاح من سجدتي الهوى والعبير/ عربي فلا حماسي مباح/ عند حقي ولا دمي مهدور". قال عنه أمين نخلة: "بدوي الجبل أمير الشعراء، وأوفى الأوفياء". وقال عنه الجواهري: "إنه أعظم شعراء عصره". واعتبر نزار قباني أنه "آخر سيف يماني على جدار العروبة، وجدار الشعر العربي". وقال عنه الأخطل الصغير:" شعر البدوي أرفع من عمره".
نتذكر بدوي الجبل شاعر الوطن والمرأة والحب والجمال والموقف، وراثي الأصدقاء والوطنيين الكبار. نتذكره بلا حجاب، أو زمن، شاعرًا رائيًا رأى الشعر والجمال توأمين. ودافع في شعره عن العنفوان الوطني وكرامة الإنسان والوفاء للقيم. ذات مرة، كتب بدوي الجبل هذين البيتين، وقد حفرا على ضريحه، وإنهما يقولان حالته: "سيذكرني بعد الفراق أحبتي/ ويبقى من المرء الأحاديث والذكر/ ورود الربى بعد الربيع بعيدة/ ويدنيك منها في قواريره العطر".
كم قال شعرًا بدوي الجبل، وكم بقي شامخًا شموخ القلاع في الجبل، فذاب فيها، وذابت فيه أبياتًا وقصائد.