وجوه الموشور السوري فخري البارودي

نبيل سليمان 30 يناير 2022


في تقديمه لكتاب "الرحلة الأوروبية"، يصف إبراهيم الجبين مؤلف هذا الكتاب فخري البارودي (1887 ـ 1966) بالموشوري الأوجه. وفي البصريات أن الموشور، أو المنشور، وسط شفاف مثل الزجاج، وفيه يتحلل الضوء الأبيض إلى الأصفر والأخضر والأزرق، و... بالأحرى يتحلل إلى ألوان الطيف، ألوان قوس قزح، وهذا هو فخري البارودي: السياسي والكاتب والموسيقي والشاعر والمثقف، وفي يومنا هو "تاريخ يتكلم" (1960)، كما عَنْونَ أحد كتبه.
حقق إبراهيم الجبين كتاب "الرحلة الأوروبية"، وصدّره بمقدمة ضافية، حيث بدت غلبة الروائي في الجبين على المحقق، فكانت للمقدمة سلاسة السرد وحبكته ولعبه. وفي الآن نفسه جاء (التحقيق) و(التهميش) مذكرًا بهما على يد كبار المحققين للمخطوطات، من عبد السلام هارون، وحسين نصار، إلى إحسان عباس و...
ولئن كان أدب الرحلة لونًا عريقًا في الثقافة العربية، فكتاب البارودي يتألق ويتفرد في هذا اللون، ليكون واحدًا من غُرر كلاسيكيات أدب الرحلة، مما يلاعب أيضًا فن الرواية العربية في يفاعته. وقد كتب إبراهيم الجبين بحق أن البارودي "جعل من نفسه بطلًا لروايته في مختلف محطات رحلته، ومن حوله تدور الحكايات، وعنده تتقاطع الخطوط". ولكن قبل أن نخلد إلى سردية البارودي، لنلق ضوءًا على هذا النهضوي الذي كان ينحو إلى الليبرالية، ابتداءً بأي من بداياته الواعدة، كانخراطه في حلقة (الناهضين) التي أسسها الشيخ طاهر الجزائري (1851 ـ 1920)، وكان من أعضائها الرعيل الذهبي من النهضويين السوريين، مثل عبد الرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، وفارس الخوري. وكانت الجمعية تدعو إلى الحرية والعدالة، وتنقد الاستبداد، وقد لوحق أعضاؤها بتهمة الخيانة، كما فصّل إبراهيم الجبين في هامش من تحقيقه لرحلة البارودي.




من المحطات الهامة في حياة البارودي، وما أكثرها، تأسيسه لـ(مكتب البارودي للدعاية والنشر) سنة 1934. ومنه أعلن صاحبه (الثورة الفكرية) ضد الطائفية والعشائرية، وفضح المجازر الصهيونية، وجعل في المكتب قسمًا للخرائط الطوبوغرافية السورية في مختلف المراحل، وقسمًا لفلسطين. كما كانت للمكتب لجنته السياسية ولجنته الثقافية التي تعنى بالمواهب الشابة والفنون والتمثيل والغناء والعزف والرياضة، ولجنة اقتصادية تعنى بدراسات الصناعة والتجارة والنقل والجمارك. ومن إبداعات فخري البارودي في الشأن العام: مشروع الفرنك الذي منعه الانتداب الفرنسي على سورية. وكان مشروعًا لجمع التبرعات الصغيرة لتمويل أنشطة ثقافية وسياسية. وقد أسس البارودي مع منير العجلاني حركة الشباب الوطني كميليشيات لحزب الكتلة الوطنية، وتصدى لها الانتداب الفرنسي أيضًا.



من قبل كانت في حياة البارودي محطة حكم الانتداب عليه بالإعدام وفراره إلى الأردن، وانضمامه إلى الثورة السورية الكبرى (1925)، وتبرعاته لثورات إبراهيم هنانو، والشيخ صالح العلي، حيث باع أربع عشرة قرية من ممتلكاته لتوفير التمويل. وقد ساهم مع عبد الرحمن الشهبندر في تأسيس حزب الشعب عام 1925. وفي عام 1936، حضر إلى دمشق إلياهو ساسون، وإلياهو إبشتاين، والتقيا بالبارودي، وعرضا المساعدة في الاستقلال مقابل المساعدة في تهدئة الثورة الفلسطينية آنئذٍ، فرفض. وفي تلك السنة، اعتقل البارودي، ونفي إلى الحسكة. وبعد سنتين، كانت له رحلته إلى نيويورك للمشاركة في المعرض الدولي الأميركي، مما رفضته الحكومة، لكنه سافر ورفع العلم السوري.
لم يكن فخري البارودي سياسيًا فقط، وربما: ليس أولًا. فمن المحطات غير الثقافية في حياته تقديمه، باسم مستعار، مع الشاعر الفلسطيني، إبراهيم طوقان، برنامجًا ثقافيًا للأطفال من إذاعة القدس. والأهم هو تأسيسه للنادي الموسيقي السوري الشرقي، وهذا النادي الذي قرر وزير المعارف ميشيل عفلق، لعله أكبر مؤسسي حزب البعث العربي قبل أن يصير حزب البعث العربي الاشتراكي، إيقاف ميزانيته، فرد فخري البارودي بالاستقالة من مجلس النواب. وفي عام 1950، أعيد افتتاح المعهد، ودرس فيه على يدي البارودي المطرب الشهير صباح فخري، واسمه صباح أبو قوس، لكن فخري البارودي جعل له من اسمه الأول لقبًا، فصار صباح فخري. وكان للبارودي دوره في تحويل رقص السماح من حلقات المتصوفة إلى مدارس البنات عام 1951، بالتعاون مع عادلة بيهم الجزائري، رئيسة الاتحاد النسائي آنئذٍ.
ومن بعد صارت الموسيقى الشاغل الأكبر للبارودي، وفي هذه المرحلة وضع "المعجم الموسيقي الكبير". وفي سنة 1964، نشر كتاب "الطبيخ ومعجم المآكل الدمشقية"، واستغرق في كتابة مذكراته التي بلغت سبعة أجزاء، واحترق أغلبها مع ما احترق في بيت فخري البارودي عندما تقاذفته القذائف أثناء محاولة الانقلاب العسكري في 18/ 7/ 1963، فانتقل البارودي إلى بيت جديدٍ، حيث قضى. ومما قيل في رحيله ما كتبه الشاعر العراقي، أحمد الصافي النجفي: "مات وجه دمشق، مات كرم دمشق، مات أناقة دمشق، مات وفاء دمشق (...) مات الموحد بين الأرستقراطية والديمقراطية. مات حبيب الأكابر والصعاليك. مات حبيب الشعب. مات زعيم الشعب".




ذاك هو الموشور السوري فخري البارودي، وتلك هي بعض وجوه الموشور وألوان الطيف/ قوس قزح، والتي صاغها إبراهيم الجبين في سردية تلوح للرواية، وإن تكن هوامش المحقق لم تفتأ تقاطعها. والحق أن هذه الهوامش تصلح لأن تكون كتابًا خاصًا، بالدرجة الأولى، بدمشق.
بدأ فخري البارودي كتابه "الرحلة الأوروبية" كما في رواية: "في صباح يوم من أيام الخريف سنة (...) طرق شاب غريب باب دار آل الشويكي...". وإذا لاحظنا أن الريادة الروائية في سورية قد فترت بعد فرنسيس المراش، ونعمان القساطلي، وأقرانهما، فإن أهمية سردية البارودي تتضاعف. ومن العلامات الكبرى لهذه السردية العين الواصفة المدققة طوال مسار الرحلة من دمشق إلى حيفا ويافا، إلى بورسعيد والإسكندرية، إلى نابولي ومرسيليا وليون، وبخاصة: باريس، ثم في العودة: ميونيخ وفيينا وبودابست وبلغراد وصوفيا والآستانة، فدمشق. والكاتب يطوي الزمن طيًا في سرديته. وبضمير المتكلم يتحدث عن نشأته وأسرته ومحيطه ومدينته ومدرسته، قبل أن يشب ويغامر بإصدار جريدة من دون أن يستشير أحدًا، وقد سماها "حط بالخرج" مستهديًا بجريدتي "أبي نظارة"، و"المسمار" القاهريتين. فغضب والده، وأقسم على أن يطرده إذا ما نشر فيها باسمه الصريح، فسلمها إلى عارف الهيل.
لتصحيح القول بأن "حط بالخرج" هي أول جريدة ناقدة ساخرة في سورية، أذكر بجريدة "النفاخة"، التي أصدرها يوسف عزالدين الأهرامي في دمشق في 28/ 2/ 1909، وهذا ما يؤكده هاشم عثمان الذي يحتفظ بصورة عنها، مصححًا قول فيليب دي طرازي بصدور "النفاخة" في 28/1/1910. كما صدرت في دمشق الجريدة الناقدة الساخرة "ضهرك بالك" في 2/ 4/ 1909. ثم صدرت جريدة "أعطيه جمله" في 16/ 4/ 1909، وتستّر صاحبها على اسمه. واللافت أن تصدر سنة 1909 تلك الصحف الساخرة الأربع، ومعها الخامسة "الراوي" في 4/ 12/ 1909)، والسادسة في حلب واسمها "مسخرة". ومن المفيد، أو الضروري، أن يُذكر أن هاشم خانكان أصدر في دمشق في 2/ 11/ 1924 الجريدة الناقدة الساخرة "حط بالخرج". وقد كتب في عددها الأول أنها امتداد لجريدة البارودي "حط بالخرج".
يستذكر فخري البارودي في كتابه نشأته الأسرية والمدرسية، ويخصّ مدينته بفصل (وصف دمشق)، فيتحدث عن المقاهي، وعن مسرح قهوة الجنينة، ومسرح الإصلاح خانة، ومسرح القوتلي، وعن المغنيات (لقب البلديات: السوريات)، والعوالم (لقب المصريات)، ويكتب البارودي أن معظم من عرف من أولاء من اليهود، وأن المغنية هانولا قد اشترته بربع ريال ليحفظه الله لأهله وهو وحيد. ويعد من اليهوديات بنات شطاح، ومن المسلمات الكفيفة وعازفة العود رسمية، وضاربة القانون فهمية وشقيقاتها...
يفرد البارودي لفلسطين صفحات من كتابه، ابتداءً بحيفا، ويكتب: "ولم تكن الحالة بيننا وبين اليهود متوترة، وكنا نعاملهم كبقية العناصر العثمانية". ويستذكر فندق يعقوب ليفي حيث نزل، والجوقة المصرية الموسيقية التمثيلية في المسرح.




لفرنسا، وبخاصة لباريس، النصيب الأكبر من كتاب البارودي، حيث تتجلى وجوه أخرى للموشور، وتتقد ألوان الطيف، ونقرأ مثلًا: " باريس جنة الله في الأرض. فيها من كل فاكهة زوجان. لا يطلب الإنسان منها شيئًا إلا وجده. هي دار العلم والعرفان، كما أنها دار الدعارة والطغيان. وهي كعبة السياح، ومنزل الطلاب، مرتع الجهال، ومقصد المحتال، ومثل البحر، الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود".
ذاك هو وجه الشاب الشرقي المتعطش للمتاحف والمعرفة والفنون والنساء. وذاك هو في وجه آخر وعي الآخر الفرنسي، أو الألماني، أو الصربي، أو التركي.
ذيّل إبراهيم الجبين تحقيقه بملحق درس فيه آثار الرحلة الأوروبية على البارودي وكفاحه من أجل التحديث. وفي الملحق الثاني، عدّد المحقق مؤلفات البارودي، ومنها بخاصة "كارثة فلسطين" (1950)، و"الصلح مع إسرائيل" (1957)، و"فصل الخطاب بين السفور والحجاب". وذكر الجبين أن للبارودي في مجمع اللغة العربية في دمشق مخطوطة كتابه "المعجم الشامي"، وله في مكتبة الأسد في دمشق مخطوطة "المعجم الموسيقي". ووفّر الجبين للملحق الثالث من ملاحق الكتاب كشّافًا حضاريًا بحق تضمّن فهارس للأعلام والأماكن والكتب والنقود والنباتات ووسائل الإعلام والأمثال و...
لقد أعادني الهامّ والبديع في كتاب البارودي والجبين (هل يحق لي هذا الوصف؟) إلى السنوات التي أمضيتها منقبًا في تاريخ سورية خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين من أجل رباعية "مدارات الشرق" (1990/ 1993). وفي تلك السنوات، قرأت للبارودي وعنه ما قرأت، وأفدت مما قرأت في بناء شخصيات سليم أفندي، والباشا شكيم، وعمر التكلي، وبنات شطاح...
كما أفدت من مفاصل (مشروع الفرنك)، و(القمصان الحديدية)، والماسونية، وسواها من مفاصل حياة فخري البارودي، هذا الموشور الذي نحتاج وجوهه، والطيف الذي نحتاج ألوانه، في هذا الزمن السوري البئيس.