وكان ونوس قد كتب قبلها عام 1963 مسرحية "فصد الدم"، التي تركز على ولادة المقاومة التي لن تتم، ولن تنمو وتكبر، إلا إذا بتر كل فلسطيني وكل عربي نصفه المشلول والمعطوب نتيجة الخوف والأكاذيب. عنوان المسرحية يعني الطب الشعبي الموروث الذي يُعرف باسم الحجامة، وهو يفيد في تنقية الدم من الشوائب الفاسدة المريضة. يقول عليوه، الشخصية السلبية المتسكعة مع الآخرين، والذي يحاول العثور على نصفه المعطوب: "ريح الجنوب الرصاصية تحميل صغير للأرواح التي تصدأ بالانتظار، ولا فرار، إننا موثقون إلى الأرواح الصافرة، هذا ما يجب، وإلا كنّا أكذوبة ينبغي أن تتبدد بعنف، اختياركم لن يوهن عزمي، لقد نضج القرار".
كان للأحداث التي جرت وعصفت بفلسطين بصمة خاصة في أعماله، فانتفاضة الحجارة عام 1987 دفعت إلى تحريك مخيلته، ووضع ما اصطُلح عليه بالصراع العربي الإسرائيلي على خشبة المسرح في مسرحيته "الاغتصاب"، التي قدمها عام 1990، وأبدع فيها في عرض الشخصية الإسرائيلية الإرهابية التي تنكل بالفلسطينيين في المعتقلات، وتستهدفهم أينما كانوا، إضافة إلى التنكيل بالنساء واغتصابهن، ورسم صورة حية لأساليب التعذيب في سجون الصهاينة التي تستهدف الأطفال والرجال والنساء حتى الموت. وركّز في هذه المسرحية على معاناة الشعب الفلسطيني والواقع العربي المريض الذي يعج بالسجون والتعذيب، وعلى منهجية الاحتلال في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وكأنه يتحدث عمّا يجري اليوم في غزة وفلسطين، ولكنه أيضًا ركّز على المقاومة، وإيمان الشخصية الفلسطينية بذاتها وعدالة قضيتها وقدرتها على الانتصار.
يقول جدعون في المسرحية: "خلاص خلاص عرب نجاسة"، أما إسحاق فيقول: "هنا نحن نتعامل مع حثالات، قرود تسير على قائمتين". ويقول مائير: "عملنا أن نمحق الإرهابيين".
كان الصهيوني في الاغتصاب مدفوعًا بالانتقام من الفلسطيني انتقامًا دمويًا ليس ثأريًا، بل اغتصابيًا، كما ذكر النقاد، فهو يطالب بعرش ليس له لإقامة دولة بوليسية مزيفة وشريرة.
يقول الدكتور الإسرائيلي في المسرحية: "في تربيتنا الصهيونية يعلموننا الكراهية بصورة دؤوبة، إن الكراهية المطلقة هي الحد الذي يمكن أن يسّوغ كل شيء".
قدم سعد الله ونوس مسرحًا مسيسًا في جميع أعماله، وكان يهدف إلى خلق مسرح جماهيري للطبقات الكادحة من الناس، وقد قدم مسرحيته "الاغتصاب" كرسالة سلام وحرية وعدالة للعالم، وكانت نبوءة واضحة عن الصراع العربي الإسرائيلي المتواصل.
أما الشاعر والمسرحي والأديب السوري ممدوح عدوان فقد وقف أيضًا وقفة فارس شجاع ومبدع للارتقاء بالمسرح السوري، وكان متفردًا وخاصًا وجريئًا في قول الحقيقة باسمها الصريح، ودافع عن قضية فلسطين رافضًا الهزيمة بعمقه وخفة ظله وضحكته المجلجلة.
لم تغب القضية الفلسطينية عن كتاباته يومًا، وهو الذي اختار التمرّد الصاخب في حياته، والذي انعكس على جميع الأجناس الأدبية التي كتب فيها (المسرح ـ الشعر ـ المقال ـ الرواية ـ الدراما والترجمة)، وكان يقول: "حين يأتي الموت الذي لا بد أن يأتي يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير. عشنا حياتنا بكبرياء وكرامة وأدّينا واجبنا بشرف".
كان مشروعه الإبداعي المتكامل معبرًا عن قضايا الإنسان العربي، وقريبًا من هموم الناس الحقيقية، ومن قضايا العرب الجوهرية، فجاءت مسرحيته "لو كنتَ فلسطينيًا" لتركز على جرائم الاحتلال ومجازره، وعلى سياسة التهجير الممنهج للفلسطينيين، إضافة إلى حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، فهو صاحب الأرض الأصلي، وهو الذي يتعرض لوحشية لا مثيل لها: "لو كنتَ فلسطينيًا ماذا تفعل، لو عشت السنوات شريدًا، لو باعوك وأهدوك، لو طردوك وأفنوك، لو مُزق أطفالك أشلاء، لو كنت فلسطينيًا ماذا تفعل".
سلطت المسرحية الضوء على حالة الوضع الفلسطيني القائم وما يدور حوله من مؤامرات، وعلى البطولات الشعبية وبطولات المرأة الفلسطينية، وقد نشرت عام 1981 وكأنها تتحدث عما يجري اليوم في غزة والضفة الغربية والقدس وكل فلسطين المحتلة من انتهاكات وقتل وتدمير.
وكتب ممدوح عدوان أيضًا مسرحية "الرجل الذي لم يحارب"، وتتحدث عن معاناة الشعوب من الاستبداد. استحضر فيها التاريخ بطريقة مبتكرة، وجعل سقوط بغداد حدثًا لمسرحيته هذه، لأثره البالغ في تدمير أسس الحضارة الإنسانية، وهي تشبه في أحداثها إلى حد بعيد أحداث نكبة فلسطين.
كتب عدوان روايات وأشعارًا وأبحاثًا ومؤلفات كثيرة تعبر عن تضامنه العميق مع قضية فلسطين، وظل حتى آخر يوم في حياته يتبنى قضايا وطنه، فكتب في مقدمة كتابه "تهويد المعرفة": "نحن لم نخسر الأرض والوطن والبيوت والمزارع فقط، بل خسرنا التاريخ ومنابع المعرفة أيضًا، وهذا يكشف الاتساع الحقيقي لميدان الصراع". وقد ناقش في كتابه هذا بأسلوب نقدي كيف استطاعت الصهيونية خداع العالم وتسييره عبر الأكاذيب، ابتداءً من أكذوبة أرض الميعاد حتى الآن، وهذا ما يفسر ويذكر بممارسات الصهاينة الحالية في فلسطين وقطاع غزة، فهم يريدون محو المنطقة عبر قتل الكبار، ومحو مستقبلها عبر قتل الأطفال: "كانوا قد قرروا من خلال ركام عالٍ من الدراسات الأكاديمية أنه لم يكن هناك تاريخ في فلسطين إلا التاريخ اليهودي، ومثلما استعمروا فلسطين فإنهم يستعمرون العقل والبحث العلمي". لم يغفل عدوان لوم العرب على تجاهلهم للصراع الثقافي والتاريخي مع الاحتلال، وحصره في الصراع السياسي فقط، واليوم تراجع بعضهم حتى عن الصراع السياسي مع العدو، وأصبح العالم متفرجًا على أحدث الأسلحة الإسرائيلية وهي تفتك بالمدنيين الفلسطينيين.
كان ممدوح عدوان صوتًا شعريًا واضحًا ومتميزًا، وقد ارتفع صوت احتجاجه عاليًا في دواوينه وقصائده الشعرية على هزيمة حزيران وواقع الإنسان العربي المؤلم، كما في (أمي تطارد قاتلها ـ الظل الأخضر ـ أتلفت نحوك أبكي ـ رصاصات بيضاء للأيام السوداء ـ يسقط الوطن)، وعناوين أخرى كثيرة: "هذا زمن الخيبات المتصلة، والجثث المتناثرة من المدن إلى الصحراء، فيه يصير القبر هواء، ويصير الكفن دماء".
وكانت لغته صدامية تصل حد المباشرة، ومتناغمة مع المقاومة الفلسطينية: "نحن الوطن، إن لم يكن بنا كريمًا آمنًا، ولم يكن محترمًا، ولم يكن حرًا فلا عشنا، ولا عاش الوطن".
كتب ممدوح عدوان رواية "أعدائي"، وهي رواية تاريخية، عن فترة مفصلية في حياة كل عربي أواخر الحكم العثماني، فضح فيها التحركات الصهيونية الممهدة لقيام إسرائيل، من رصده لقيام وعد بلفور، إلى بنية هذا الكيان من الداخل. وهي رواية عن مأساة عربية قديمة جديدة: "حتى اليهود لم نستطع أن نفهمهم، يهود يتبرعون للجيش العثماني، ويدعون إلى التطوع فيه، ويهود يتجسسون لصالح الإنكليز ضد العثمانيين، يهود يحتالون لسرقة الأراضي، ويهجرون سكانها العرب".
وجاءت روايته "الأبتر" لتتحدث عن عجوز من سكان قرية المنصورة السورية الواقعة بجوار القنيطرة زمن حرب الأيام الستة، وفيها ركز على التمسك بالأرض، وعلى المقاومة، وعلى ممارسات الاحتلال الذي يريد تهجير أصحاب الأرض الحقيقيين، ويقوم بإحراق حقول القمح، والاستيلاء على المنازل، وقتل العجوز الذي رفض الخروج من قريته.
خلّف عدوان عشرات المسرحيات والمجموعات الشعرية والكتب النثرية والمترجمة، وأكثر من عشرين مسلسلًا دراميًا، وآلاف المقالات، وروايتين، لكن أطياف الشعر أرخت بظلها على مسرحياته، ومنها "المخاض"، التي كتبها أواسط ستينيات القرن الماضي، وهي مستوحاة من هزيمة حزيران. وخلّف وراءه مواقف وطنية شجاعة، ومبادئ نبيلة، ودعمًا لفلسطين رافقه طوال حياته: "تكمن مهمة أي انسان أعزل يرى المشهد من بعد في تقديم الدعم المعنوي عبر وقفات التضامن والتظاهر ووسائل التواصل الاجتماعي، ورفض اعتياد المشهد الإجرامي، فاعتياد المشهد والانصراف عنه هو بمنزلة التنازل عن الاعتراف بفلسطين وبأهلها وبحقوقهم".
وخلّف المسرحي والكاتب سعد الله ونوس مسرحيات خالدة، إضافة إلى نتاجه الأدبي والفكري في مختلف الفنون التعبيرية (دراما ـ نقد أدبي ومسرحي ـ ترجمة ومقالات ومراجعات نقدية). وقد قال في أحد حواراته: "كانت كارثة 1967 بالنسبة لنا كبيرة وعصيّة على الوصف"، معترفًا بأنه عاش اكتئابًا طويلًا وعميقًا يشبه الغيبوبة بعدها، ولكن رغم ذلك كله رحل ونوس بعد أن وهب العالم رائعته الشهيرة في يوم المسرح العالمي 1996 "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ". ولكنه قال في ما بعد في وصيته لابنته: "علينا أن نعترف، ودون حياء، أننا هزمنا. وأننا لم نترك إلا خرابًا وبلادًا متداعية". وقال عام 1992: "إسرائيل سرقت عمري". أمّا ممدوح عدوان فقال: "أكبر فاجعتين في حياتي موت أمي، وحرب 1967". ولكنه قال بعدها: "نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا. فتصور حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كل ما حولنا".