عن الشعر النبطي في قطر والبعد المعرفي للّغة

سعيد نجدي 14 مايو 2024
استعادات
ديوان المؤسس الشيخ جاسم أول ديوان نبطي


يعد الشعر النبطي (العامي) تعبيرًا من تعبيرات الثقافة الشعبية لقطر، بوصفه الناقل عن مشاعر الحياة، وأداة الاتصال مع الآخر ومع الجماعة، من خلال ما يبرزه من مظاهر الحياة التي تعمل على تظهيرها الصور الشعرية، ذات الموضوعات المتعددة للتفاخر بالنسب والقبيلة، وإظهار الكرم والشجاعة، والغيرة على الشرف والعرض، والمديح والهجاء، وأيضًا من خلال موضوعات ذات صلة بالمرأة والحب والرومانسية، وهو بطبيعة الحال شعر قديم جدًا في منطقة الخليج بشكل عام.

ويعود أصل التسمية إلى أكثر من مصدر، كما تنقل الباحثة نورة محمد الهاجري في دراسة لها عن الشعر النبطي (1)، فمنهم من يرجع النبطي إلى نبط الماء واستنباطه واستخراجه، وفي معنى آخر إلى النبيط، أي إلى قوم ينزلون بالبطائح بين العراقيين، فيقال رجل نبطيّ، ونباطي، وهناك معنى يربط النبطي بالبياض في إبط الفرس، وللإشارة إلى ذلك يقال، فرس أنبط.

لهذا يدور المعنى ويتمحور حول البعد اللغوي/ الاستخراج، والبعد الذي له علاقة بالمواضع والأمكنة، وبعد له علاقة نسبية بأقوام معينة، من هنا يشير البعض إلى أن دلالة النبطي هي إشارة على فساد ولحن مستعملي اللغة العربية، لذلك النبطي تساوي الأعجمي أي القول غير الفصيح للغة العربية، وعدم ارتباطها بقوم وافدين إلى الجزيرة العربية، بل أنها للتفريق بين الشعر الفصيح والشعر النبطي. وهناك نسبة المواضع في الإشارة إلى هضبة النبطاء، هضبة بني نمير في نجد، وغيرهم إلى نبط العراق، لكن المهم هو التفريق بين الشعر الفصيح، والنبطي أي البدوي، كما يشير ابن خلدون.

وفي القرن الثالث عشر الهجري، اشتهر محسن الهزاني الذي عاش في القرن الثاني عشر الهجري، وتوفي في القرن الثالث عشر، حيث توفي عام 1221 هجري، ومعه كانت النقلة النوعية في البنية لناحية المضمون والدلالات، وانتقاله من العصر الكلاسيكي إلى العصر الحديث، بالإضافة إلى المجدد الآخر وهو الشاعر محمد بن لعبون الذي توفي عام 1227 هجري.

وبالعودة إلى قطر، فإن الشعر النبطي ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، وهي مرحلة ما قبل استخراج النفط، فإن هذا الشعر كان يشكّل بالنسبة للمجتمع الوسيلة الإعلامية التي تتعدّى الترفيه، لأنه كان يختزن الأبعاد التاريخية لجهة الأحداث التي كانت تمر في النسق المجتمعي لقطر، ويُعد ديوان الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، الذي وضع أسس وقواعد بناء دولة قطر الحديثة، أول ديوان شعري نبطي مطبوع، إلا أن دواوين الشعراء القطريين التي جاءت بعده أتت متأخرة، لأنها أنتجت بعد وفاة أصحابها، والأغلب أنه بسبب أن هؤلاء الشعراء ما قبل مرحلة النفط كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، وهؤلاء هم شعراء المرحلة الأولى، أما الذين كانوا على دراية بالكتابة والقراءة مثل الفيحاني ولحدان الكبيسي الجد، فإنهم توفاهم الله قبل إنتاج دواوينهم.

من هنا اهتمت قطر لاحقًا في فترة التحديث التي بدأت منذ الستينيات بحفظ هذا الشعر، من خلال الوسائل الحديثة، كالإذاعة والتلفزيون، وقد خصص العديد من البرامج حول هذا الشعر من ناحية النوع والإلقاء والأداء، بالإضافة إلى إنشاء المجلات ودور النشر بغية طباعة هذه الأشعار والتعريف بالشعراء، لأنه ما قبل هذه المرحلة كان هذا الشعر ينتقل بطريقة شفهية، غير مكتوبة ومحفوظة بكتب ودواوين، من هنا فإن الذاكرة الشعبية لعبت دورًا في حفظ هذا الشعر إلى حد كبير.

ترجع أقدم المدونات الشعرية النبطية في قطر، حسب المصادر المكتوبة، والمؤرخة لشعرائها، إلى القرن التاسع عشر الميلادي، والذي بدأ كما سبق أن ذكرنا مع ديوان الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني المؤسس، كأول ديوان للشعر النبطي، والذي طبع نسخته الأولى في الهند عام 1328 هجري (1910م)، وبعده يأتي ديوان ماجد بن صالح الخليفي، كديوان مشترك مع راشد بن محمد العفيشة والذي عاصر زمن المؤسس، فله مجموعة من القصائد ضمن ديوان ابنه الشاعر عمير بن راشد العفيشة، وضم ديوان عبدالله البودهيم مجموعة قصائد شعراء البودهيم والذي أرخ لمجموعة من شعرائهم ما بين 1887-1967 م، والتي طبعت في مرحلة لاحقة من القرن العشرين الميلادي .

بدأت الصحافة القطرية الاهتمام بالشعر النبطي مع منتصف السبعينيات في القرن العشرين الميلادي، بمجلة العهد، وجريدة الخليج اليوم، وجريدة الشرق حاليًا، كما صارت لكل جريدة- مثل: الراية والعرب والوطن- صفحاتها الأسبوعية الخاصة بالشعر النبطي، ومن أشهر المشرفين على هذه  الصفحات الشعراء: محمد بن إبراهيم الشاعر، عبد الله الغالي المري، حمد بن محسن النعيمي، فالح العجلان الهاجري، والأستاذ جاسم صفر، وفي بداية الألفية الثانية أشرف الشعراء الشباب على بعض الملاحق، مثل: ملحق قصائد أشرف عليه الشاعر جاسم بن محمد بن همام، وملحق قوافي أشرف عليه الشاعر عبد الله مرسل، وهناك ملحق مزون أشرف عليه راضي الهاجري، ولا تزال هذه الصفحات الشعبية قائمة مثل: صفحة منتدى الشعراء، ويشرف عليها الشاعر جابر بن حوبان المري، وصفحة ملفى القصيد، ويشرف عليها الشاعر محمد بن راشد المناعي، إلى جانب الصفحات الشعبية كما ظهرت مجلتان في الألفية الثانية، وهما مجلة بروق 2003 م، ومجلة الريان 2008 م، واللتان تهتمان بنشر القصائد النبطية.

نذكر لمحة سريعة عن أهم شعراء قطر من خلال دراسة كلٍّ من علي عبد الله الفياض (القول الجميل في المؤسس الجليل)، وشبيب المناعي (روائع شعراء قطر)، مثل: الشاعر الشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني، شاعر الحكمة والعزة والسؤدد، والذي كان شاعرًا نبطيًا مجيدًا ومطلعًا وصاحب بيان وبلاغة وتأثير، فضلًا عن تميزه بأسلوب خطابي جميل يسبغ عليه اطلاعه في كتب الدين والأدب طابعًا دينيًا خاصًا كما تذكر المصادر. وكذلك كريم الشعراء وشاعر الكرماء كما يسمى سعد بن علي المسند المهندي الملقب بسعد الشاعر والذي يعتبر من أبرز شخصيات قطر وأكبر شعراء زمانه، واشتهر في الشعر والكرم، بالإضافة إلى شاعر الحب العذري محمد بن عبد الوهاب الفيحاني الذي اشتهر بهدوء الطبع ورهافة الأحاسيس وعزة النفس وعفة اللسان، وكانت أغلب قصائده في الحب والغزل تميزت بقوة الخيال وجمال التصوير وعذوبة الألفاظ وصدق المشاعر، ثم يأتي ذكر الشاعر ماجد بن صالح الخليفي المعروف بشجاعته وعلو همته وفروسيته والذي اتصف شعره بالسلاسة وروعة الألفاظ والمعاني، ثم يأتي الحديث عن الشاعر عمير بن عفيشة الهاجري الذي أبدع وأمتع وغرد وأنشد أحلى القصائد التي تتصف بالجزالة والفخامة مقتطفا من قصائده باقة مميزة بالجمال والعذوبة، وأيضًا الشاعر عبد الله بن سعد المسند المهندي المشهور بزمانه بـ"عبد الله الشاعر" الذي تميّز بشعر المديح والتأمل ونظم الشيلات، ثم  الشاعر لحدان بن صباح الكبيسي الشاعر الذي اشتهر بالصيد والقنص، بالإضافة إلى الشاعر إبراهيم بن دعلوج الكبيسي، شاعر البلاغة والمطولات الشعرية، والشاعر عبدالله بن صالح الخليفي، شاعر الرقة والمشاعر النبيلة، والشاعر عبدالله بن غانم البودهيم المالكي الذي اشتهر بنظم المواويل وهو من عائلة شاعرة عرف أفرادها بغزارة شعرهم وقوته، كذلك الشعراء سعيد بن سالم البديد المناعي، والشاعر صالح بن سلطان الكواري شاعر البراعة والصداقة الحقة، وحسن بن حمد الفرحان النعيمي شاعر الرقة والبساطة، وأمان الشاعر شاعر الهوى والغزل، وإبراهيم بن محمد الخليفي شاعر الغزارة وتدفق المشاعر، وراشد بن سعد الكواري شاعر العواطف والمشاعر الجياشة، وعبدالله بن سعد السبيج شاعر الأغاني.

النوادي الأدبية والثقافية

عملت جهود وزارة الثقافة على حفظ الإرث الغني للشعب القطري، والذي هو فخر للشعب مثله مثل أي شعب آخر يفخر بتراثه وبمنجزاته الثقافية، ومن هنا دشنت وزارة الثقافة مع وزارة التربية وغيرهما أعمالًا عدة، من خلال إنشاءٍ للنوادي الأدبية والثقافية، وبدأت من خلال إصدار دواوين للشعر النبطي، فكان ديوان ابن فرحان أول ديوان تصدره الوزارة عام 1980م، وأعقب ذلك جمع وتحقيق وطباعة دواوين مثل: ديوان الكبيسي عام 1995م، ديوان ابن المحرول عام 1986م، ديوان العفيشة عام 1990م، ديوان خالد بن معجب الهاجري عام 1995م، ديوان ابن سبيت عام 1995م، ديوان الفيحاني عام 2013م، ديوان سلطان الكواري عام 2013م، وغيرها من الدواوين، ولكن حتى تبقى هذه الدواوين وهذا الأسلوب من الشعر ازداد اهتمام الدولة بالشعر النبطي للمحافظة عليه لناحية الاستمرار، من هنا أتت فكرة إنشاء المنتديات والنوادي كحالة من حالات التشجيع.



ولكن كانت البدايات الأولى لأول المنتديات مع مجالس يفد إليها من المناطق المجاورة، حيث يتم الحديث فيها حول كتب التراث والفقه والشعر. وأبرز هذه المجالس مجلس الشيخ عبد الله بن قاسم،  ومجلس ابنه الشيح حمد بن عبد الله، ومجلس الشيخ ناصر بن فالح، ومجلس الشيخ علي بن عبد الله، ومجلس محمد بن نافع... إلخ، بالإضافة إلى محمد الشافعي صادق العناني، الذي كان يدرّس في مصر وانتقل إلى أرض قطر في خريف عام 1955م، والذي اقترح على الأستاذ عبد البديع الصقر، مدير المعارف آنذاك، أن تقيم دائرة المعارف موسمًا ثقافيًا كل عام، يختار له عددًا من الرواد للحديث في مواضيع ثقافية تحدد بدقة، وكان هذا أول موسم ثقافي يقام في قطر أي عام 1955م، الذي بدأ بمحاضرة من الأستاذ عبد البديع صقر، أما المحاضرة الثانية فألقاها الأستاذ عبد الحميد علي عطية، الموفد من الحكومة المصرية، أما المحاضرة الثالثة فكانت للشيخ زهير الشاويش... وهكذا توالت المحاضرات، وانطلقت المواسم الثقافية في كل عام، والتي كانت تقام بمجهود شخصي من قبل أبناء الدوحة نظرًا إلى أن خدمة الهاتف لم تكن موجودة بعد فكانت هذه النشاطات تأخذ مجهودًا مضاعفًا.

كان يحضر هذه الجلسات عدد كبير من فعاليات المجتمع القطري، على سبيل المثال الشيخ جبر بن على آل ثاني، والشيخ أحمد بن محمد آل أحمد آل ثاني وولديه محمد وجاسم، وكذلك من ضمن الذين كانوا يشاركون جاسم درويش فخرو ومبارك بن صالح الخليفي ومحمد بن راشد العسيري، وولده راشد، ويوسف حيداه، وخالد الدجاني، وكان يحضر ويشارك من رجالات المعارف محمد بن علي المحمود، ومبارك بن سيف الناخي وغيرهما كالشاعر عبد الرحمن المعاودة.

إذًا هكذا توالت المواسم الثقافية في كل عام وانطلقت من خلال المواضيع المتنوعة حول الشعر وشتى أنواع المعارف وكذلك محاضرات لها بعد ديني وفكري أيضًا، ليقوم الدكتور عز الدين إبراهيم بتنظيم الموسم الثقافي الثاني، إلى أن أخذت الوزارات والمؤسسات والنوادي فيما بعد تسير على نفس المنوال، كل مؤسسة تقيم مواسم ثقافية، من هنا يعتبر الرواد الأوائل: عبد البديع صقر، وعبد الحميد علي عطية، ويوسف القرضاوي، وعبد المعز عبد الستار، وعليوه مصطفى، واحمد العسال، ومحمد الموافي، ومعروف رفيق وغيرهم من الذين ساهموا بانطلاقة ومأسسة المشروع الثقافي الذي بدأ كما رأينا من خلال هذه المنتديات كإرهاصة أولى  دشنت لاحقًا بمؤسسات على مستوى ضخم وكانت الانطلاقة التي شجعت إلى حد كبير العمل على الشأن الثقافي والأدبي في قطر. ومن النوادي التي تشكلت نادي المكتبة الإسلامية عام 1953م، ونادي الطليعة عام 1959م برئاسة علي خليفة الكواري والذي كان يقدم عروضًا مسرحية ارتجالية وقد أصدر مجلة أدبية، نادي كبار الموظفين عام 1957م، نادي الجزيرة عام 1960م، بالإضافة إلى إنشاء المكتبة العامة عام 1954م على زمن الشيخ علي، وتأسيس المسرح أواخر الخمسينيات وتشكيل أول الفرق المسرحية كفرقة الطليعة عام 1959م، إلى حين تأسيس فرقة المسرح القطري عام 1972م، وتأسيس الصحافة في عام 1969م، كل ذلك ساهم إلى جانب وزارة المعارف بتنشيط الحركة الثقافية.   

إلى أن وصلنا إلى المرحلة الحديثة، والتي انطلقت، نحو أطوار أخرى من التطور، والتي عملت فيها وزارة الثقافة في قطر على إنشاء مركز قطر للشعر النبطي والذي يعرف باسم (ديوان العرب)، الذي دشن عام 2017م، وهو لغاية الحفاظ على التراث الشعبي، وقبله كان هناك منتدى يسمى (مجلس الشعر) التابع للحي الثقافي (كتارا)، الذي يهتم بإقامة ندوات حول الشعر النبطي ولقاءات لإظهار الشعراء والتعرف عليهم، وكان يشارك فيها الكثير من فعاليات الدولة الوطنية، وقد عمل قسم البحوث والدراسات فيه على إنتاج مؤلفات حول الشعر النبطي مثل: روائع شعراء قطر، وديوان عبدالله بن سعد، وشاعر سميسمة وغيرها مما يتصل بالثقافة القطرية وتراثها الأدبي والشعبي.

الاهتمام الأكاديمي بالشعر النبطي

في الجانب الأكاديمي المتمثل أكثر شيء في جامعة قطر، نجد أن الاهتمام بالشعر النبطي يتم بصورة أكبر عبر الأنشطة الثقافية العامة، من خلال المسابقات الشعرية، والأصبوحات الشعرية والأمسيات، ونادي الشعر. في حين على مستوى الدرس الأكاديمي نجد بداية الاهتمام جاءت مع مقرر الأدب الشعبي في قسم اللغة العربية حيث طرح لأول مرة عام 2015م، ثم في مجال الأبحاث العلمية، والتي تنبع من رغبة ذاتية للباحث، ومن أمثلة هذه  البحوث: ظواهر صرفية في شعر الفيحاني لعلي الكبيسي، 1993م، والشعر الشعبي والاتصال الإنساني في الخليج نموذجًا عام 2005م لربيعة الكواري، وثمة أبحاث أخرى خارج الجامعة، ومنها بحث قراءة جديدة في شعر الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، عام 2009 م، تحت إشراف اللجنة المنظمة لاحتفالات اليوم الوطني، وبحث الأدب والشعر إبان فترة الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني عام 2014م تحت إشراف متاحف قطر، وهناك ورقة علمية قدمتها هيا الدرهم بعنوان صدق العاطفة وإبداع الصورة في شعر الفيحاني عام 2013م داخل الجامعة، وهناك اهتمام في قسم علم الاجتماع بالشعر النبطي باعتباره أحد مرتكزات التراث الشعبي، فقدمت كلثم الغانم بحثًا حول دور الشعر الشعبي في حفظ أحداث الغوص في مجلة المأثورات الشعبية عام 1995م، وكان في نيسان/ أبريل عام 2017م مؤتمر الخطاب في الخليج العربي، وقدمت فيه أبحاث حول الشعر النبطي في قطر. إذًا تعتبر الجامعة مؤسسة تعمل على حفظ التراث من خلال الدراسات والأبحاث التي يتم فيها حفظ الذاكرة الشعبية للناس، من هنا وبمعنى آخر يمكن وصفها كمنتدى وناد علمي ضخم يدرّس الثقافة بشكل علمي.

للدولة الدور الأكبر من خلال مأسسة العمل الثقافي والتتويج الأكبر هو بإقامة وإنشاء "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" وقد تأسّس عام 2013م في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي يديره المفكّر العربي الدكتور عزمي بشارة


أما في عصر التحديث، عصر مرحلة ما بعد النفط، وتقدم وسائل الإعلام والتعليم، فقد أفسح المجال ليتأثر الشعر ببعض هذه المتغيرات التي صارت من واقع الحياة المعاشة، فصارت القصيدة تدخل في المباشرة، وكلماتها أكثر وضوحًا، وتتناول موضوعات حياتية، فلم تعد الحياة هي حياة الرقعة الجغرافية، وتطرق الشاعر إلى قضايا قومية عربية وإسلامية، ولم تعد الجماعية هي السمة السائدة، فحلّت الذاتية والوجدانية في قصائد الشعراء، لذلك إنتقل الموضوع الذي كان الشعر النبطي يحفظ فيه صور الغوص والصيد وغيرها من موضوعات.

وشهد منتصف الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين الميلادي، دخول القصيدة العامية الحرة، وقد تأثر بها بعض الشعراء على نحو ما رأينا سابقًا، ولكنها لم تكن لتلحظ أو تستمر بشكل كبير فيها، وهذا يعني أن القصيدة النبطية بشكلها العمودي، لا تزال تحتفظ بدرجة من القوة والتماسك بفعل سواد كبير من الشعراء، مع محاولات التجديد في المضمون لا القالب البنائي، في حين كانت الألفية الثالثة، قد شهدت حضورا مكثفا من الأسماء الشعرية الشابة، وبرزت المرأة الشاعرة باسمها الحقيقي، إلى جانب اسمها المستعار معًا.

بقيت القصيدة النبطية في شكلها العمودي، وأوزانها التقليدية، ولكن يظهر الاختلاف في المفردة والصورة الفنية والموضوع. جاءت المفردة أكثر سهولة ومفهومة عند جميع المتلقين تقريبًا، أما الصور الفنية، فهناك من استمرّ على الصور المباشرة والتشبيهات البارزة والعلاقات المناطقية، وهناك من حاول أن تكون صوره الفنية تتجه للغموض والتشكيلية في الصور. في حين الموضوع عند شعراء الألفية الثانية كان يدور حول موضوعات ذاتية، أو مناسبات وطنية مثل اليوم الوطني، وأيضًا شهدت المرحلة عودة شعر الرديّات عند البعض لا الجميع، في هذه المرحلة نلاحظ تفاوت في أساليب الشعراء، مما يجعل المتلقي يشعر أن القصيدة النبطية ليست واحدة عند الجميع، بل هناك ما يمكن أن يطلق عليه قصيدة عامية، أكثر من قصيدة نبطية والعكس صحيح، وذلك نظرًا لدخول الحداثة في الشعر الذي طاول الشعر الشعبي وليس الفصيح في شكله النثري فقط، وهذه حال باقي الشعر الشعبي في كل المنطقة العربية.

من أشهر الأمكنة التي تقام فيها الأنشطة الثقافية والأدبية وهي عديدة الحي الثقافي (كتارا) والذي يضم بين جنباته مختلف الأنشطة والفنون ويمثل نقطة جذب للعديد من الفنانين والأدباء من الداخل والخارج ويسعى دائمًا لتنظيم الفعاليات التي تعكس الثقافات المختلفة سواء كانت أدبية أو موسيقية أو مسرحية، وكذلك الأمر يحدث في سوق واقف الذي يستضيف هو الآخر عددًا من الأنشطة الثقافية التي تجد حضورًا مميزًا، بالإضافة إلى متحف الفن الإسلامي، وفي نادي الجسرة الثقافي، والمتحف العربي للفن الحديث ومتحف الفنون الموجود في كورنيش الدوحة والذي يستضيف على الدوام المعارض الفنية لفنانين من مختلف الدول، لجذب الفنون المتنوعة من مسرح وتشكيل ونحت، وجذب الأعمال ذات الطابع الأدبي، من هنا فإن البعد  الثقافي ينشط الحركة في البلاد ويشجع على الإبداع والإنتاج، ويوسع من مدارك العقل ويعمل على تفتحه، لأن الأدب والفنون هو انفتاح المخيلة وعلى الآخر وما يحمله من مخزون وتنوع، وبالتالي هو الشرط الإنساني الذي لا يعود ينظر إليه من منظار أحادي.

ما بين عامي 1993 و2004م، كانت مسيرة الأستاذ الدكتور مراد مبروك، أستاذ النقد الأدبي والنظرية، في دعم الحركة الأدبية والثقافية، بل والمساهمة في الأخذ بيد الكثير من الكُتّاب والأدباء القطريين الذين كانوا في تلك الفترة في بداياتهم الأدبية، حيث عمل بدأبٍ في تلك الفترة وبجهدٍ متوازٍ من خلال نادي الجسرة الثقافي بندواتٍ أسبوعية متزامنة مع المنتدى الثقافي الذي كان يعقده كلَّ ثلاثاء في جامعة قطر، بالإضافة إلى الدور الفاعل والبناء الذي تقوم به مؤسسة كتارا في تشجيع الروائيين والكتاب عربيًا وقطريًا على النهوض بالإبداع الروائي، سواء من خلال نشر أعمالهم أو إقامة ورش ثقافية للكتاب والمبدعين لصقل مواهبهم، أو إقامة جوائز كبرى لتشجيع الأعمال المتميزة، من هنا أخذت هذه النوادي بالتطور من خلال التشجيع الحكومة التي قامت بالتحريض عليه، والمساهمة بتفعيل هذه الأنشطة، ولهذه الغاية فإن للدولة الدور الأكبر من خلال مأسسة العمل الثقافي، بإنشاء الأندية والمراكز التي تعمل عليها الوزارات المعنية، ومن خلال إقامة المسابقات والجوائز، ومن خلال دور النشر، واستحداث المجلات والدوريات الثقافية والأدبية، وفي هذا الصدد نرى التتويج الأكبر هو بإقامة وإنشاء "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" وقد تأسّس في الخامس والعشرين من مايو/ أيار 2013م في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي يديره المفكّر العربي الدكتور عزمي بشارة، وهذا المركز الذي تندرج تحت إشرافه العديد من الدوريات كـ أسطور وعمران وغيرهما اللتين تنشر فيهما الدراسات الاجتماعية التي تخص الإشكاليات المعرفية للمجتمعات العربية. إذًا معجم الدوحة يعدّ العمل الأضخم الذي يعمل على تنشيط الثقافة من خلال البعد المعرفي للغة، لأن وجود أي أمة وتطورها مرتبط بوجود اللغة والعمل على تنشيطها، كون التفكير والعمل والنشاط العلمي والمعرفي مرتبطًا باللغة.

إحالات:

(1) نورة حمد الهاجري، "القبيلة والمرأة في الشعر النبطي في قطر، شعر عمير بن راشد العفيشة أنموذجًا". دراسة ماجستير. جامعة قطر.