الشاعر الإيراني الكندي حسين شَرَنْغ: الحيوانات جميعها شعراء

هشام فهمي 8 يناير 2017
تغطيات
الشاعر الايراني الكندي حسين شرنغ​

في حفل توقيع عمله الشعري "الكتاب المتوحّش" سنة 2009، الذي نظّمته دار "نوروا" الكيبيكية المتخصصة في الشعر، تَقدّم، حسين شرنغ، الشاعر الإيراني الكندي، أمام الميكروفون مطلقاً صوتاً كالزئير أفزع الحضور، قبل أن يستأنف قراءته الشعرية. تصرّفه الذي قد يبدو مجنوناً، يطرح سؤالاً مستفزّاً: "هل بإمكان شاعر أن يتكلّم لغة الحيوانات، عكس ما شهدناه في تاريخ الأدب العالمي، عندما تكلّمت الحيوانات لغة البشر.                                                 

 حسين شرنغ الذي ولد سنة 1959 بجيروفت الإيرانية، ويقيم أكثر من ثلاثين سنة بمونتريال، معروف بقراءاته الشعرية الغريبة التي قد يتخلّلها الغناء، أو إصدار أصوات مبهمة، يقدمها لجمهوره على أنها أشعار من لسان طبيعي.           

كانت أولى إصدارات حسين شرنغ مجموعته الشعرية: "صخب صباحي" سنة 1978 بطهران، عن دار "أزدي"، بعدها سيقرّر، سنة 1982، الفرار من إيران بسبب سلسلة أحكام الإعدام التي نفّذها نظام الخميني، لكن على الرغم من استقراره في كندا، ستنطلق، إصداراته من أوروبا، مدعوماً، كصوت شعري، من الجالية الإيرانية النّشطة هناك، والمعارضة للنظام الإسلامي، فمن ألمانيا سيصدر ثلاثة كتب شعرية مترجمة عن دار "ناويد" وهي: "على لوحة الريح وأشعار أخرى"، سنة 1998، وعلى التوالي سنة 1991 "عادة العيش الغريبة"، و"نشيد إلى الراقصة".      

ومن السويد سيصدر عمله "أصير الكون" سنة 1995، عن دار "غويا" ترجمه سهراب مزندراني. سنة 2003 ستكون مجموعته الشعرية "جبال هاربة" أول إصدار من مدينة إقامته مونتريال، بمقاطعة كيبيك، عن دار "نوروا"، ترجمها كل من الشاعرين الإيراني، باهمان صديغي، والكيبيكي جيل سير، وستصدر طبعتها الفارسية متأخرة سنة 2005 عن دار "الزينه".                                    

آخر إصدار شعري لحسين شرنغ بمونتريال هو "الكتاب المتوحّش" سنة 2009، وقد كتب نصفه بالفرنسية والنصف الآخر ترجمه عن الفارسية هومان زولفغاري. هذا الكتاب يقرّبنا أكثر من عالمه الشعري الحيواني، الذي لا يخلو من الطرافة والباروديا، فحسين شرنغ يعلن في لقاءاته الشعرية أنه رئيس لجمهورية متخيّلة، جمهورية شرنغستان الأنارشية المسالمة، فعلى ظهر غلاف "الكتاب المتوحّش"، نندهش لطرافة الفكرة، وهو ينقل لنا تعليقات وشهادات الحيوانات في حقه كشاعر ورئيس لجمهورية شرنغستان، فنحن، عادة، نقرأ على ظهر أغلفة الكتب، شهادات كتاب كبار في حق كاتب، أو آراء نقاد معروفين يضيئون القراءة، أو تعليقات للصحف التي واكبت صدور الكتاب، ومن الشهادات الحيوانية المثيرة، شهادة الببغاء التي تقول: "هو رئيس بلدنا، جمهورية شرنغستان المتوحّشة".                          

تتحوّل الحيوانات في "الكتاب المتوحّش" الى كائنات تتكلّم وتفكّر، بل هي عند شرنغ كائنات شعرية بامتياز، لا فرق بينها وبين "الهومو - سابينس"، أو كما قرأنا في كتاب "التحوّلات" لأوفيد، حيث ينمسخ الإنسان، أحياناً، إلى حيوان في هبوط اضطراري وعقابي له.  

الجاحظ المدهش                             

 لقد ابتعدنا كثيراً عن الغابة. نضع الخوف والتفوّق الحضاري المتوهَم على الطبيعة متاريس ضد الحيوان، ضدّ حيوانيّتنا الأصلية، وهو الأمر الذي نلمسه في شعرية حسين شرنغ المتوحّشة، وهذا يلتقي تماماً مع كاتبنا المدهش الجاحظ، الذي لا يستثني الحيوانات من الفصاحة، بل نحن نفهمها وهي، تفصح كما نفصح، كما يقول في كتابه "الحيوان": "ولعمري إنا نفهم عَن الفَرس والحمارِ والكلبِ والسِّنَّور والبعير، كثيراً من إرادته وحوائجه وقصوره، كما نفهم إرادةَ الصبيِّ في مَهْده.."، بل يزيد من إدهاشنا أن يمنحها قدراً أعلى من الإنسان العاقل والمفكّر، أكثر مما يفعله الآن دعاة حقوق الحيوان بالقول: "كيف فَتَحَ لها (الله) من باب المعرفةِ على قدر ما هَيَّأَ لها من الآلة، وكيف أعطى كثيراً منها من الحسِّ اللطيف، والصنْعةِ البديعة، من غير تأديب وتثقيف، ومن غير تقويم وتلقين، ومن غير تدريج وتمرين، فبَلَغَتْ بِعَفوها وبمقدار قوى فِطرتها، من البديهة والارتجال، ومن الابتداء والاقتضاب، ما لا يَقْدرُ عليه حُذّاقُ رجالِ الرأي، وفلاسفةُ علماءِ البشر، بِيَدٍ ولا آلة".      

يعيدنا حسين شرنغ الى ذلك التاريخ من العلاقة مع الطبيعة والحيوان، فتحسّ أنه يجمع جمله الشعرية كأحجار من البرية. في حواري معه هنا، لم أستطع الذهاب أبعد، فهو يعيدك، وباقتضاب شديد، الى الجوهري، وكأنه يخاف أن تتلوّث لغته الوحشية بلغة الإنسان-الميديا.

حوار:

*لنتحدّث عن بداياتك، متى أعلن حسين شرنغ عن نفسه شاعراً، وما هي قصتك مع الكتابة؟              

لم أعلن، أبداً، عن نفسي شاعراً، ولكنني كنت أعرف ذلك، مسبقاً، عندما كنت في بطن أمّي. بعد ولادتي نسيت ذلك، لكني لاحقاً، عندما وقعت في الحبّ لأوّل مرة، تذكّرت ذلك فجأة، فأصبح الوحش شاعراً.             

* نشرت أول ديوان شعري لك "اضطراب صباحي" عن منشورات أزادي بطهران سنة 1978. كيف يمكننا تحديد موقعك في المشهد الشعري الإيراني؟               

أعتبر نفسي "ساموراي" الشعر، بالمعنى الحرفي للساموراي، "أي أضع نفسي في الخدمة"، ووضعي في المشهد الشعري رهين بالمتلقي، ولا يتوقف الأمر عليّ.  

 
*هربت سنة 1982 من سلسلة أحكام الإعدام بإيران، ماذا حدث، بالضبط، في تلك الفترة؟                    

في تلك الفترة، كنت في التاسعة عشرة من عمري. كنت معروفاً فقط في بلدتي، خصوصاً أشعاري الساخرة باللهجة المحلية، وهي فرع من فروع اللغة البهلوية القديمة (اللغة الفارسية الوسطى). اليوم، ما زال شباب بلدتي يحفظون هذه الأشعار عن ظهر قلب. بالنسبة للباقي، كان للمبيد الشعري دائماً وجود عبر التاريخ. فشاعرنا الأول زرادشت قتله زرادشتي، وهذا التقليد اللعين هو في أوجه اليوم.   

 *حفر الشعر الفارسي، خصوصاً الشعر الصوفي، طريقاً باطنيّاً وميتافيزيقيّاً، ألم تفلت أنت من هذا التأثير؟     

 لقد قفزت كقطرة في بحر، وظهرت في الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وتخلّصت من الميتافيزيقا، صاعداً سلّم الوحشية المجيد.                                       


* نلاحظ في ديوانك "الكتاب المتوحش" نوعاً من العودة الى البدائي، وتبنّي لغة الحيوانات، هل الشاعر حيوان شعري؟                            

إنها ليست عودة، وخصوصاً الى البدائي. إنها مرحلة ماوراء حضارية، وجميع الحيوانات هم شعراء.                                           

* أنت معروف في كندا وأوروبا بقراءاتك الشعرية الغريبة، تلجأ الى السخرية والغناء، وأحياناً تخترع لغة فريدة لم يتكلمها أحد؟                       

لديك، ربما، خلط مع شعراء آخرين: البطاطا، الموزة، كوكاكولا، تويوتا.. لكن أستطيع أن أقول إن ثمة شيئاً من هذه الأنطولوجيا داخلي. كل قراءة شعرية يتحوّل المتلقّون، وأنا كذلك. إنني أجعلهم متوحّشين، لكنهم لا يجعلونني متحضّراً: إننا نصبح جميعاً أطفال الشعر.                             

*كيف أصبحت رئيساً لجمهورية شرنغستان، بانقلاب أم بثورة؟                               

لا هذا ولا تلك. لقد اصطفتني الوحوش الأرضية والسماوية.                                         

*بعد تجربتك الشعرية بين الشرق والغرب، كيف تنظر الى الشعر اليوم؟                               

هذا النوع من الأسئلة لا يشغلني.                  

*هل تقرأ الشعر العربي المعاصر، ومن هم الشعراء الذين لفتوك أكثر؟     

أقرأ من حين لآخر، وأعرف قليلاً من الشعراء، كلاسيكيين ومعاصرين، لكنني أعرف، خصوصاً، الشعراء القادمين في المستقبل.                      

*هل تنوي العودة الى إيران يوماً، وكيف ترى الوضع الإيراني والشرق أوسطي الآن؟             

أتمنى العودة، كسائح سماوي، لكن يبقى السؤال مفتوحاً.                                           

 


مختارات من "الكتاب المتوحّش"

 

السماء تُحصي

صحاريها

والصحراء

حبّات رَمْلِها

والرمل رحلاته

الحياة تُحصي بيضها

والموت يُحصي فراخه

والصِّفر حماقاته

يحصون

ويحصون.

 

*

 

 

قدمي تتجاوز قدمي

تتجاوزها بشكل لا نهائي

منذ آلاف السنين قزم في الحلم

يضرب بفأس أسفل شجرة السيكوا   

زمن أخضر مروّض

يرتجف من الرأس إلى القدم

 

بين خُطوتيّ

مساحة للاسم والانقراض

عواء وصمت حروب مضت

وضحايا مجازر قادمين

 

في يدي

صمت قديم

قفزة الخشب على أربع قوائم

وسقوط من الغابة العلوية.

 

الغراب الجبصي

 

الغراب الجبصي هو أنا

بقبضتين من الليل بين مخالبه

عائداً من درب التّبّانة

النظرة ثابتة نحو الانفجار الأبيض

بمنقاره يختلق تسعاً وثلاثين كذبة خرافية

ومن نعيقه يسيل القطران

الغراب الأربعون

أنا نفسه.

 

بيضة

ضحكة بيضة بالأبيض

والأسود

طائر لا مرئي

يبني عشّه في وجهي

ويُخفِق جناحيه في جفوني

وتَطْرِفُ جفوني في جناحيه

قطعة من الفضاء

تطفو في الفضاء

جبل، وسماء، وأشياء مشابهة

أشياء النظرة البسيطة

إشاعات المعجزة

عدوى المعجزة.

 

بيضة الطاووس

 

مرآة الطاووس

مظلة السحابة

مطر ملوّن

هواء تعطّره رائحة فرج متوحّش

مظلم، ومبلّل واستوائي

ضحكات بيضات رائعات

تحت الزهرة المضجرة

الزهرة التي تبلّلها

قطرات بأبهى الألوان.

طاووس حديقة الحيوان

 كابوس الهند

العين اليسرى للفيل الأبيض

ابتسامة الأبدية

نبرة الخلاص لكائن سماوي

اللحظة الغريبة في شارع ضبابي

في عمق مرآة مخبأة

بهجة المولود الجديد البريئة

بعد الصرخة الأولى.

*

أفزعت اللحظة

طاووسها الأعمى

فسقط المستقبل

وتكسّر إلى قطع صغيرة

كل قطعة عينٌ ممزقة

ثابتة نحو الطاووس في كامل وثبته

*

بُعْد النظرة

بين الكوبرا والطاووس

جمال جمّدته المخاطرة

الخطر مفتوناً بالجمال

جرس الريح

رجفة الأغصان

خلف رأس الوحش

يقفز جفن الصدفة

على رموش اللحظة

فتفقد الفراشة وعيه

بيضات لا تميز بعضها

في حلم فريد

في عشّين

تتصارع

متلهّفة للعب.

*

نعيق الحصان

صهيل الغراب

الوحش المجنون

 يحدّق في ظله

ويصاب بالذعر أكثر

الطائر العصبي يضحك

بسعار إنساني

للصحراء

 للسماء

*

الكثير من الناس لقوا حتفهم

كم أصبحت مقبرة

وبومة مجروحة على شجرة السرو المنحنية تغني:

كفى، أيها الموت!

بعدها تسقط نافقة. 

*

أُقسم باليعسوب

أن اسم الأباتشي التي تحمله المروحيات

هو شتيمة لجيرونيمو 

دائماً كان جيرونيمو

يصعد اليعسوب

ويخيف المروحيات

وأطفال بغداد لم يعودوا خائفين

لأنهم لقوا حتفهم

مثل جيرونيمو.

يجب قطع غابة

لرؤية حشرة

عمالقة بيولوجيون

يصابون بالخرس

وهم ينحنون في الغابة

بعيون ممزقة

لرؤية حشرة.

*

الثّقل

لا يؤكد الوزن

سويّاً

خرج الماموث والديناصور

 من الطبيعة

خرطوم ولج آخر

إننا بحَكّة رأس الفيل

 نقيس وزن بعوضة 

فراشة

تجلس على قرن خرتيت

فيقعي الخرتيت

 

 الكلمة

هي التي تثقل الكتاب.

 

*

 

على بعد خطوة من الكلام

ينتصب الشمبانزي بفم مفتوح

وبشكل استعراضي

اليدان على الوركين

محدّقاً في طرف لسانه

رافعاً شفته العليا

مخرجاً من أذنه اليسرى

ملحاً تركياً جيداً

يلعقه بشهية عارمة

" يقول أو لا يقول"

يحكّ رأسه الكوميدية

ويضحك مثل شاعر دادائي:

"الكلمة تزعج الموزة"

كما تقول نصيحة القدامى

مفكراً هكذا بحكمة:

"هي هي هي هو هو ها ها "

فيختفي في قلب الغابة المتعذّرة على الوصف

بشقلبة غامضة.

أدخل يدي في النوم

يدي تحلم

أتجول في حلم يد

وأكتب شاخراً

كنزي هنا

في أحشاء التنّين

يوماً ما

سأسطو

على الموت.

 

ملحق: تعليقات وشهادات الحيوانات على ظهر الغلاف

 

" رآني، فَصارَنِي" التّنين

" هو واحد منا، وذلك لثلاثة أسباب واضحة. يسرق صابون الإلهات. يكذب أربعين مرة في اليوم، ويدخّن تبغاً" الغراب.

" إنه رائع. لقد أحصانا جميعاً. إنه يعرف الوزن الصافي لفصيلتنا على هذا الكوكب" النملة.

"إنه شمبانزي أكثر من أسلافنا. وباستطاعته أن يضع مئة عالِم حيوان في أقفاص لتحرير شمبانزي واحد" الشمبانزي.

"كل يوم، يتقمّص وجهاً حيوانياً جديداً. مقارنة بوجوهنا فهو يعتبر فخراً للمرآة-الحياة" الزرافة.

" منذ أن نام على سرعة ظهرنا، أصبح يحلم بشكل مختلف" الفهد.

" نحن أرضعناه، إنه عجلنا بقدمين" البقرة.

"هو يعرف ما يجري في قلب أسد جائع. إنه ينظر الى قلوبنا عبر فكّيْنا" الأسد.

"هذا الكتاب هو إنجيلنا المتوحّش وحسين شرنغ هو ربّنا. وهذا ما كنا ننتظره: ابن الحيوان" الثعلب.

"هو رئيس بلدنا، جمهورية شرنغستان المتوحّشة" فينوس، الببغاء.