علامات ورموز

فلاديمير نابوكوف 22 نوفمبر 2017
ترجمات
لوحة لرينيه ماغريت

 

تقديم:

نشر فلاديمير نابوكوف قصته القصيرة "علامات ورموز" سنة 1948 في المجلة الأميركية "ذا نيويوركر"، ثم أعاد نشرها سنة 1958 في مجموعة مكونة من 13 قصة قصيرة. تتميز الكتابة في هذه القصة بالترميز المكثف وبإمكانية توريط القارئ في تأويل مفرط للنص.

 

 

 

للمرة الرابعة خلال السنوات الأخيرة، واجههما مشكل اختيار هدية عيد الميلاد المناسبة لشاب مختل العقل ميئوس من شفائه. الرغبات، لا يتوفر على أي منها. كانت الأشياء المصنعة بالنسبة إليه إما خلايا شيطانية، نابضة بنشاط خبيث يستطيع وحده أن يراه، أو وسائل راحة لا مجال لاستخدامها في عالمه التجريدي. بعد استبعاد كل السلع التي يمكن أن تثير غيظه أو تخيفه (أي شي من الآلات المعروضة، مثلا، يعتبر محرما) اختار والداه شيئا لذيذا وبسيطا -  سلة بها عشرة هلامات فاكهة مختلفة في عشر جرار صغيرة.

حين ولادته، كان قد مر وقت طويل على زواجهما؛ مرت عشرون سنة، والآن هما أقرب إلى الشيخوخة. كان شعرها الرمادي الباهت مشدودا بلا عناية. كانت ترتدي فساتين سوداء رخيصة. بخلاف أترابها (مثل السيدة سول، التي كانت أقرب جارة لهما، والتي كان وجهها كله مصبوغا باللون الوردي والبنفسجي والتي كانت قبعتها مجموعة من الأزهار البرية) كانت تعرض ملامح بيضاء عارية لضوء الربيع الفاضح. زوجها الذي كان رجل أعمال ناجحا في البلد القديم، أصبح الآن، في نيويورك، معتمدا كليا على أخيه إسحاق، الذي كان أميركيا حقيقيا لمدة تقارب الأربعين سنة. كانوا نادرا ما يرون إسحاق وكانوا يلقّبونه بالأمير.

تلك الجمعة، يوم عيد ميلاد ابنهما، كل شيء كان معاكسا. فقد مترو الأنفاق تيار حياته بين محطتين، ولمدة خمس عشرة دقيقة لم يستطيعا سماع أي شيء سوى نبضات قلبيهما الطيعة وحفيف صفحات الجرائد. تأخرت الحافلة التي كان عليهما ركوبها واضطرا للانتظار وقتا طويلا في زاوية الشارع، وعندما أتت، كانت مكتظة بفتية المدرسة الثانوية الثرثارين. بدأت تمطر عندما توجها عبر طريق مترب يؤدي إلى المصحة. وهناك انتظرا مرة ثانية، وعوض أن يدخل ابنيهما إلى الغرفة متخبطا في مشيته، كما كان يفعل عادة) بوجه متجهم وسيئ المظهر، مرتبك وغير حليق، مبقع بحب الشباب (دخلت أخيرا ممرضة يعرفانها ولا يوليانها اهتماما وشرحت لهما بوضوح بأنه حاول الانتحار مجددا. قالت لهما إنه بخير، لكن زيارة من والديه يمكن أن تزعجه. كان المكان مفتقرا إلى العدد الكافي من العاملين، ويسهل أن تضيع الأشياء أو تختلط بأشياء أخرى، لذلك قررا عدم ترك هديتهما في المكتب وأن يجلباها له عند زيارتهما له في المرة القادمة.

 خارج المبنى، انتظرت زوجها أن يفتح المظلة ثم أخذت بذراعه. كان يكح كحا خفيفا لتصفية حنجرته كما يفعل دائما عندما يكون متضايقا. وصلا لسقيفة محطة وقوف الحافلة في الجهة الأخرى من الشارع وأقفل مظلته. على بعد أقدام قليلة، وتحت شجرة متمايلة تتساقط منها قطرات ماء، كان طائر صغير جدا ولم يتقو ريشه بعد، يرتعش عاجزا وسط بركة موحلة.

خلال طريقهما الطويل نحو مترو الأنفاق، لم تتبادل هي وزوجها أي كلمة، وكلما لمحت يديه الطاعنتين في السن، وهما يشبكان بارتعاش على مقبض المظلة، ورأت عروقه المنتفخة وجلده المرقط ببقع بنية، كانت تحس بالضغط المتصاعد لدموعها. وبينما هي تجول بنظرها، تحاول أن تجد شيئا يشد انتباهها، سرى داخلها نوع من الصدمة الناعمة ومزيج من الشفقة والدهشة عندما لاحظت إحدى الراكبات- فتاة بشعر أسود وأظافر قدم مطلية بالأحمر، متسخة- تبكي على كتف امرأة تكبرها سنا. من تشبه تلك المرأة؟ إنها تشبه ريبيكا بوريسوفنا والتي تزوجت ابنتها أحد أبناء عائلة سولوفيشيكس، في منسك قبل أعوام.

في آخر مرة حاول فيها الفتى الانتحار، كانت طريقته، حسب كلمات الطبيب، آية في الابتكار؛ كانت محاولته ستكلل بالنجاح لولا أن أحد زملائه الحساد من المرضى، ظنا منه أن الفتى كان يتعلم الطيران، أوقفه في الوقت المناسب. ما كان يريد فعله حقا هو إحداث فجوة في عالمه والهرب من خلالها.  

كان نسق أوهامه موضوع بحث مفصل نشر في مجلة علمية شهرية، كان الطبيب في المصحة قد سلمه لهم لقراءته. ولكن قبل ذلك بوقت طويل، كانت هي وزوجها قد حاولا فهم مرض ابنهما. "الهوس المرجعي"، هذا هو الاسم الذي أعطاه المقال لهذا المرض. في هذه الحالات النادرة، يتخيل المريض أن كل شيء يحدث حوله هو مرجع مبطن إلى شخصيته ووجوده. إنه يستثني الناس الحقيقيين من المؤامرة، لأنه يعتبر نفسه أكثر ذكاء من باقي الرجال. الطبيعة العجيبة تتبعه أينما ذهب. السحب في السماء المحدقة ترسل إلى بعضها بعضاً، عبر إشارات بطيئة، معلومات جد دقيقة عنه. حتى أفكاره الحميمة تُناقش عند حلول الظلام، بلغة الإشارة، من طرف أشجار بإيماءات غير واضحة. تُشكل الحصى أو البقع أو نقط ضوء الشمس أشكالا ترميزية تمثل، بطريقة رهيبة، رسائل يجب عليه اعتراضها. كل شيء شيفرة ولكل شيء هو موضوع. حوله من كل جانب، هناك جواسيس. بعضهم مراقبون غير مبالين، كالأسطح الزجاجية والبرك الساكنة؛ وآخرون، مثل المعاطف في واجهات المتاجر، شهود متحاملون، قتلة في الصميم؛ وآخرون، مجددا) المياه الجارية والعواصف (هستيريون لدرجة الجنون، لهم رأي مشوه عنه، ويسيئون تأويل أفعاله بطريقة غريبة. يجب عليه أن يكون دائما على حذر وأن يكرس كل دقيقة وكل جزء من حياته لفك شفرة تموج الأشياء. حتى الهواء الذي يتنفسه يفهرسه ويضعه في ملف جانبا. لو أن الاهتمام الذي يثيره كان مقتصرا على محيطه المباشر، ولكن مع كامل الأسف، الأمر ليس كذلك! مع المسافة، سيول الفضيحة المتوحشة تزداد حجما وجريانا. خيالات كريات دمه، مضخمة ملايين المرات، تحلق فوق السهول الفسيحة؛ وحتى أبعد من ذلك، الجبال العظيمة التي لها من الصلابة والارتفاع ما لا يطاق تلخص، من خلال صخور الغرانيت وأشجار التنوب المتأوهة، الحقيقة المطلقة لوجوده.

***

عندما خرجا من الضجيج والهواء الملوث لقطار الأنفاق، كانت البقية الأخيرة من النهار قد اختلطت بأنوار الشارع. أرادت شراء بعض السمك للعشاء، لذلك سلمته سلة جرار الهلام وطلبت منه الذهاب للبيت. صعد للطابق الثالث وتذكر حينها أنه سلمها المفاتيح في وقت سابق ذلك اليوم.

جلس على الدرج في سكون ووقف بهدوء عندما رآها، بعد عشر دقائق، تصعد الدرج بتثاقل، تبتسم ابتسامة شاحبة وتحرك رأسها تهكما من غباوتها. دخلا شقتهما المكونة من غرفتين وذهب هو فورا نحو المرآة. شد جانبي فمه بإبهامي يديه وباعدهما، بكشرة قناع رهيبة، ليزيل طقم أسنانه الجديد غير المريح على الإطلاق ويقطع أنياب اللعاب الطويلة التي تربطه به. قرأ جريدته المكتوبة بالروسية بينما هي تُعد المائدة. أكل، وهو مستمر في القراءة، قوته الباهت الذي لا يحتاج لأسنان. كانت تعرف طباعه وكانت كذلك صامتة.  

عندما ذهب للنوم، بقيت في غرفة الجلوس مع أوراق لعب متسخة وألبومات صور قديمة. عبَر الفناء الضيق، حيث المطر يرن في الظلام فوق حاويات الزبالة المهترئة، كانت النوافذ مضيئة وكاشفة، كان في إحداها رجل بسروال أسود، يداه مشبوكتان خلف رأسه ومرفقاه مرفوعان إلى أعلى، يظهر مستلقيا فوق سرير غير مرتب. جذبت الستار إلى أسفل وحدقت بالصور. كرضيع، كان يبدو مندهشا أكثر من باقي الرضع. سقطت صورة خادمة ألمانية كانت تخدمهم في ليبزيغ وخطيبها الممتلئ الوجه من طي بالألبوم. قلبت صفحات الكتاب: مينسك، الثورة، ليبزيغ، برلين، ليبزيغ مرة أخرى، واجهة منزل مائلة، صورة ضبابية. هنا الطفل عندما كان له أربع سنوات، في حديقة، يبعد نظره بارتياب وبجبين مجعد من سنجاب متحمس، كما كان سيفعل أمام أي غريب آخر. هنا كانت الخالة روزا، سيدة مسنة سريعة الاهتياج، قبيحة الوجه وذات عينين جامحتين، التي كانت تسكن في عالم مهتز، عالم الأخبار السيئة، الإفلاسات، حوادث القطارات، والأورام السرطانية، إلى أن أعدمها الألمان، مع كل الناس الذين كانت تقلق بشأنهم. الطفل، في عامه السادس – كان ذلك حينما كان يرسم عصافير رائعة بأيد وأرجل بشرية، وكان يعاني من الأرق كرجل بالغ. ابن عمه، الذي هو الآن لاعب شطرنج مشهور. الطفل ثانية، سنه حوالي ثمانية أعوام، كان في ذلك الحين غريب الأطوار، يخاف من ورق الجدران في الممر، يخاف من صورة ما في كتاب، صورة مناظر طبيعية رائعة، صخور على منحدر التل وعجلة عربة قديمة معلقة على غصن شجرة غير مورقة. هنا كان في سنته العاشرة - السنة التي غادروا فيها أوروبا. تذكرت العار، الشفقة، صعوبات الرحلة المهينة، والأطفال القبيحين، الخبثاء، المتخلفين في المدرسة الخاصة حيث تم وضعه بعد وصولهم إلى أميركا. وبعد ذلك جاءت مرحلة في حياته، متزامنة مع فترة نقاهة طويلة بعد إصابته بالتهاب رئوي، عندما تطورت تلك الحالات الرهابية البسيطة، التي اعتبرها والداه بعناد كحالات شذوذ لطفل موهوب بطريقة غير عادية، إلى تشبك كثيف، إذا جاز القول، من الأوهام المتفاعلة بطريقة منطقية، لتجعل إدراكها من طرف العقول العادية شيئا متعذرا.

  تقبلت كل هذه المعاناة، وأكثر من ذلك بكثير، لأن الحياة، في نهاية المطاف، تعني تقبل فقدان فرح تلو الآخر، ولا حتى الأفراح في حالتها، فقط إمكانات التحسن. فكرت بأمواج الألم المتكررة التي، لسبب أو لآخر، كان عليها وعلى زوجها تحملها؛ بالمخلوقات العملاقة غير الظاهرة التي تؤذي طفلها بطريقة لا يمكن تخيلها؛ بالقدر الكبير للحنان الذي يحتويه العالم؛ بمصير هذا الحنان، الذي إما يسحق أو يضيع، أو يتحول إلى جنون؛ بالأطفال المهملين يهمهمون لأنفسهم في زوايا متسخة. بالأعشاب الضارة الجميلة التي لا يمكن أن تختبئ من المزارع، والتي يجب عليها أن تشاهد في عجز تام خيال انحناءته القردية يترك في أعقابه أزهارا متلفة، بينما الظلمة الفظيعة تقترب.

***  

كانت الثانية عشرة ليلا تقريبا عندما سمعت، من غرفة الجلوس، زوجها يئن، وبعد وقت قصير دخل يتمايل، مرتديا فوق قميص النوم المعطف القديم الذي له طوق من الفرو والذي يفضله كثيرا على رداء الحمام الأزرق الجميل.

  " لا أستطيع النوم" قال بصوت عال.

" لماذا لا تستطيع النوم؟ "سألته. "لقد كنت متعبا جدا".

" لا أستطيع النوم لأنني أحتضر"، قال ثم استرخى على الأريكة.

" هل هي معدتك؟ هل تريدني أن أطلب الدكتور سولوف؟"

 " لا أريد أطباء، لا أريد أطباء" قال متأوها. " ليذهب الأطباء إلى الجحيم! يجب علينا أن نخرجه من هناك. وإلا سنتحمل المسؤولية...المسؤولية!". اندفع جالسا، كلتا قدميه على الأرض، وضرب بقبضة يده بقوة على جبينه.

"طيب" قالت بهدوء. "سنعيده إلى المنزل غدا صباحا".

"أريد شايا"، قال لها ثم انسحب إلى الحمام.

انحنت بصعوبة لتلتقط بعض أوراق اللعب وصورة أو اثنتين كانتا قد سقطتا على الأرض – "الولد قلوب"، "تسعة بستوني"، "واحد بستوني"، إليزا وصديقها المتوحش. عاد بمزاج عال، وقال بصوت مرتفع: "فكرت في حل لكل هذا الأمر. سنعطيه غرفة النوم. كل واحد منا سيقضي جزءا من الليل بجانبه والآخر ينام على الأريكة. بالتتابع. وسنحرص على أن يراه الطبيب مرتين في الأسبوع. لا يهم ما سيقوله الأمير. لن يقول شيئا على أي حال لأن التكاليف ستكون أقل.

رنّ الهاتف. لم يكن من المعتاد أن يرن الهاتف في ذلك الوقت. وقف في وسط الغرفة يتلمس بقدمه خفا سقط من رجله، وفغر فاه، بلا أسنان وبطريقة طفولية، أمام زوجته. لأنها تعرف اللغة الإنكليزية أكثر منه، فقد كانت دائما هي التي تتكلف بالرد على المكالمات.

"هل يمكنني التحدث إلى شارلي؟" صوت فتاة خافت خاطبها الآن.

" أي رقم تطلبين؟...لا. الرقم الذي عندك غير صحيح".

وضعت السماعة بلطف وامتدت يدها نحو قلبها المسن والمتعب. قالت "لقد أفزعَتني".

ابتسم ابتسامة سريعة واستأنف فورا مونولوجه المنفعل. سوف يأتون به إلى البيت حالما يصبح. من أجل سلامته الشخصية، سوف يحتفظون بكل السكاكين في درج مقفل. وحتى في أسوأ حالاته، فإنه لا يشكل أي خطر بالنسبة للناس الآخرين.

رن الهاتف مرة ثانية.

نفس الصوت الشاب، القلق والخالي من أي نبرة يسأل عن شارلي.

"رقمك خاطئ. سأفسر لك ما تفعلينه. أنت تديرين الحرف "o" بدل الصفر". أنهت المكالمة ثانية.

جلسا لشرب شاي منتصف الليل الاحتفالي وغير المتوقع. رشف بصوت مسموع؛ تورّد وجهه؛ من حين لآخر يعطي لكأسه حركة دائرية ليذيب كل السكر. برز الوريد على جانب رأسه الأصلع، حيث توجد وحمة كبيرة، بطريقة لافتة للنظر ورغم أنه حلق ذلك الصباح، ظهرت شعيرات فضية على ذقنه. كانت هدية عيد الميلاد فوق الطاولة. بينما هي تصب له كوبا آخر من الشاي، وضع نظارته وأعاد مستمتعا فحص الجرار الصغيرة المضيئة، الخضراء والصفراء والحمراء. كانت شفتاه المبتلتان، المفتقدتان للتناسق، تتهجيان حرفا حرفا أسماءهم الفصيحة: المشمش، العنب، برقوق الشاطئ، سفرجل. كان قد وصل إلى "التفاح البري" عندما رنَّ الهاتف مرة أخرى.