عبد الكريم الجيلي:من كلْكوتا إلى زَبيد،وريث روحي لابن عربي*

كلود عداس 26 أكتوبر 2018
ترجمات
فرقة ابن عربي
 

هل وُجد شخص باسم عبد الكريم الجيلي واقعًا وحقًّا؟ لو لم تكن مصنفاته موجودة بصداها الباهر في أدب التصوف لكنا شككنا في وجوده، إذ ليس ثمة من أثر لوجوده في هذه الدنيا لا لدى المؤرخين ولا الأخباريين العرب المعاصرين له، عدا إشارة عابرة لدى ابن الأهدل[1]، الخصم اللدود لمدرسة ابن عربي. ولا ثمة سطرا واحدا أيضا في كتب الطبقات ومعاجم السيرة بكل أصنافها، ولا حتى في طبقات الخواص للشرْجي (توفي عام 983/1488)[2]، وهو مجموع مخصص مع ذلك كليّا للشخصيات التي عاشت في اليمن، والذي يتضمن إضافة إلى ذلك سير متصوفة زَبيد الذين عرفهم الجيلي. إنه صمت تام ومحيّر يفسر الجزء الأكبر من الشكوك التي حامت إلى وقت قريب حول مكان ولادته من جهة، وحول تاريخ وفاته من جهة ثانية. لكن، بفضل الأبحاث التي قام بها رياض أتلاغ[3]، سوف يتم تسليط الضوء على هاتين النقطتين. فحسب إشارة للجيلي نفسه في أحد أشعاره[4]، أنه رأى النور بكلكوتا بالهند في فاتح محرم 767، الموافق لـ18 سبتمبر/ أيلول 1365؛ وهو يوضح أيضا أن أباه سافر به إلى عدن حيث وافته المنية بينما كان فتى يافعا. وأخيرا فإن هذه الوثيقة تذكر إشارة من أحد أبناء الجيلي مفادها أن هذا الأخير توفي بزبيد يوم السبت 28 جمادى الثانية 1811، أي في يناير/ كانون الثاني 1409.

توفي الجيلي وهو لم يجاوز بعد الرابعة والأربعين سنة، ولم يترك تلميذا بعده، ولا طريقة صوفية يمكنها أن تديم  ذكراه. فهو لم يبق حيا إلا من خلال كتاباته التي تتضمن إشارات، هنا وهناك، عن سيرته، انطلاقا منها يمكننا أن نتبع بعضا من المراحل الأساسية لمسيره الدنيوي والروحاني[5]. وهكذا فنحن نعرف أنه كان يقيم في 790 بالهند[6]؛ وأنه، ست سنوات بعد ذلك، أقام بزبيد حين حصلت له رؤيتان للنبي ظهر في إحداهما وهو متصف بالسبعة أوصاف النفسية[7]. وفي عام 799، حل بمكة[8] وفي السنة الموالية رجع إلى زبيد حيث شاهد مشاهدة الرؤيا الأنبياء والأولياء كلهم[9]. وسنتين بعد ذلك، أي في 802، قام بالحج، وبينما كان معتكفا بالمدينة المنورة قرب ضريح النبي، حصلت له رؤيا بخصوص "خُلقه العظيم"[10]. وفي السنة الموالية، عام 803، رحل إلى دمشق، وفي هذه المدينة كما يوضح ذلك، بلغ "مقام العبودة"[11]. وفي الشهر التالي وصل إلى غزة[12]، وشرع فيها تحرير كتاب الكمالات الإلهية في الصفات المحمدية، وهو كتاب ظهر فيه علمه المحمدي في كامل مداه، ثم رحل إلى القاهرة[13] حيث أكمل بالأخص تحرير كتاب الكمالات الإلهية[14].

ثمة شيء أكيد، وهو أن الجيلي كان كثير الترحال، وهو ما يعود إلى المهنة التي كان يحترفها؛ فقد أوضح في حقيقة الحقائق أنه كان يمتهن التجارة قبل أن يكرّس وقته كاملا لحياة النسك[15]. ومن الأكيد أيضا أن زبيد، المركز الفكري لليمن الرسولية، كانت منطلقه وموئله. فهناك كان يقيم شيخه الروحي إسماعيل الجبرتي (توفي عام 806/1403)[16].

لقد كان الجبرتي أحد أعلام التصوف اليمني في الفترة الرسولية، وكان تابعا متحمسا لابن عربي. فاسمه يوجد في إحدى "أسانيد" مجموعة أحزاب منسوبة لابن عربي، كما في أسانيد أخرى تتعلق بكتاب الفتوحات المكية[17]؛ بل، وهو أمر له دلالته، في إحدى سلاسل الخرقة الأكبرية[18]. إضافة إلى ذلك، فإن الجبرتي لم يكتف بدراسة ابن عربي، فقد فرض قراءته في محيطه. وابن حجر العسقلاني (توفي عام 852/1449) الذي التقاه، يؤكد أنه كان ينكر من بين تلامذته من لا يتوفر على نسخة من فصوص الحكم[19]. ويؤكد شهادته الجيلي الذي يحكي في مراتب الوجود، قصة تشهد على الأهمية التي كان يوليها الجبرتي لدراسة كتابات ابن عربي في السلوك[20]. إن هذه الدعوة إلى ابن عربي ستثير بديهيا غضب علماء اليمن، الذين كانوا يعيبون عليه الإكثار من حصص السماع التي كان يقيمها في زاويته، والتي يؤكد بصددها الخَزرجي (توفي عام 812/1409) أن أحد مريديه حصل له فيها الوجد... والموت[21]. بيد أن الجبرتي كان تحت حماية الملك الأشرف (778-803/1377-1401)[22]، الذي كان، على غرار الكثيرين ممن سبقوه وخلفوه[23]، راعيا للتصوف، خاصة منهم الجبرتي، الذي كان حامل أسراره المقرّب[24].

إن السند الذي وفَّره الملوك الرسوليون، اللاحقون على الفاطميين والمنافحون عن المذهب السني مثلهم، يمكن تفسيره جزئيا بالوضعية السياسية للبلاد. فبما أنهم لم يكونوا يسودون إلا على جزء من اليمن، وأساسا قسمه الجنوبي، فقد كانوا في صراع مسلح مع الزّيْدية وفي حاجة للدعم المحلي. يبقى أن العديد من بينهم، وخاصة المظفّر (674-694/1249-1295)[25] والأشرف وخليفته الناصر (803-827/1401-1424)[26] كانت تحركهم أيضا طموحات دينية، بحيث كانوا يموّلون بناء العديد من المساجد والمدارس. وفي عام 790هـ بادر الأشرف إلى إقامة جلسة سماع كبرى على الشاطئ، دعا إليها كل شيوخ المنطقة[27]. وكان الأشرف أيضا هو الذي دعا عام 796هـ الفيروزأبادي (توفي عام 817/1415)، العالم المحدّث واللغوي الشهير، إلى ديوانه وزوَّجه إحدى بناته ونصّبه قاضي القضاة باليمن[28]. وهو الأمر الذي أثار حنق العلماء الذين أطلقوا حملة تشنيع بالفيروزأبادي، مُعيبين عليه بالأخص إحالاته الكثيرة لابن عربي، الأمر الذي دفع هذا الأخير إلى الرد عليهم بفتوى، صارت شهيرة، يقوم فيها بكيل المديح لابن عربي[29]. وبعد وفاة الأشرف، عيّن ابنه الناصر في منصب قاضي القضاة نفسه ابن الردّاد، وهو أحد التلاميذ المقربين من الجبرتي ومثله قارئ مواظب لابن عربي[30].

 

وإذن فإن مصنفات الجيلي تندرج في محيط ملائم جدا للتصوف ولدراسة مذهب ابن عربي. وبما أن هذه المصنفات أغلبها مخطوط ولم تثر الكثير من الأبحاث عنها، فإنها بالرغم من مكانتها الحاسمة في تطور المذهب الأكبري، لا تزال ضحية التجاهل. ونحن نجهل إضافة إلى ذلك، العدد الدقيق لكتابات الجيلي، التي ضاع الكثير منها. لنتمسك فقط باليقينيات: فر. أتلاغ يسرد منها، في الجرد الذي قام به لها، أحد عشرا مصنَّفا[31]، لا تثير نسبتها للجيلي أي شك ولا تزال لدينا منها مخطوطات. منها اثنتان عبارة عن مجموعين يتضمنان العديد من الرسائل: يتعلق الأمر بالمجموع الذي يحمل عنوان حقيقة الحقائق، الذي يشير الجيلي إلى أنه يتضمن ثلاثين جزءًا، والتي لم يصلنا منها إلا ثلاثة فقط، والناموس الأعظم، الذي يحوي أربعين رسالة، سبعة منها فقط وصلتنا، ومن بينها رسالة قاب قوسين[32]. والمصنفات الثلاثة التي ذكرت ليست معروفة إلا من قلّة من المتخصصين، ولم تعرف في الأوساط الصوفية إلا ذيوعا محدودا (ومع ذلك هاما، حين يتعلق الأمر على كل حال برسالة قاب قوسين).

الأمر لا ينسحب على كتاب الإنسان الكامل، الذي عرف ذيوعا باهرا يشهد عليه العدد الوافر من النسخ التي تم تداولها عبر العالم الإسلامي، ومعها الطبعات العديدة التي خصصت له، والتي تعود أولاها إلى عام 1293هـ[33]. ومن دون شك أن الفضل يعود إلى هذا المصنف، الذي نشر له تيتوس بورخارد Titus Burckhardt ترجمة فرنسية لأول مرة سنة 1953[34]، في خلود اسم الجيلي وفي اعتباره كأحد الممثلين الكبار لمدرسة ابن عربي.

لكن ثمة الوجه الآخر للمسألة، فعلى هذا الكتاب بنى العلماء والمؤلفون المسلمون كما الإسلامولوجيون تقديرهم لمذهب الجيلي. والحال، كما أن فصوص الحكم لابن عربي، والذي ركز عليه خصومه في هجومهم عليه، لا يمنح نظرة متكاملة للمذهب الروحاني والميتافيزيقي لابن عربي، كذلك الأمر بخصوص الإنسان الكامل، الذي يعدّ تركيبة لميتافيزيقا الجيلي وعلم النبوة لديه، غير أنه يمحو تماما التأملات التي يبلور في كتابات أخرى. إضافة إلى ذلك، ثمة مفارقة في هذا الكتاب، فهو إن كان يشهد بشكل صارخ وفي مواطن كثيرة منه بما يدين به لابن عربي، فهو أيضا المصنّف الذي فيه يشكك في مرتبته ثلاث مرات وبعبارات قاسية مع ذلك[35]. لكن من اللازم ألا نمنح لهذه الانتقادات التي يوجهها الجيلي لابن عربي أهمية أكبر من حجمها، باعتبار أنها لا تتعلق في النهاية (كما برهنت على ذلك إحدى الدراسات)[36] إلا بنقطة محددة وناجمة في مجملها عن سوء فهم من جانب الجيلي لبعض العبارات المذهبية  لابن عربي، التي قد يؤدي غموضها إلى الفهم الخاطئ. علاوة على ذلك فالجيلي ليس الوحيد من بين مؤولي ابن عربي الذين تحفظوا على هذا الجانب أو ذاك من تعاليمه[37]، من غير أن نذكر العديدين من بينهم الذين تجاهلوا بعض أطروحاته التي كانت في ما يبدو تحرجهم، خاصة منها تلك المتعلقة بشمول الرحمة الإلهية.

بيد أن صاحب الإنسان الكامل يتبنى كلية الأطروحات المركزية التي يقوم عليها مذهب ابن عربي، تلك التي تتعلق بالإلهيات، كما تلك المتعلقة بالولاية والنبوة. وفي الواقع فإن هذا التبني ليس فقط ذا طابع فكري، فالجيلي، مثله في ذلك مثل صاحب الفتوحات المكية، "لا يتكلم إلا في ما له فيه ذوق"[38] مما يأتيه من مقامات روحانية. ومن ثم الاختلاف في النبرة بين المتنين، متن الشيخ الأكبر ومتن تلميذه الجيلي. لكن، هنا وهناك، ثمة آراء تختلف؛ فمن الذروة التي بلغ بهما إليها ارتقاؤهما الروحاني، كل بشكله الخاص، لا يمكن أن يكون المشهد الذي يبدو لكل واحد منهما متطابقا، وإن كان يُبين عن الكثير من المشابهات.

 

  • فصل من كتاب: البيت المحمدي، نظرات على محبة النبي في التصوف الإسلامي، لكلود عداس، سيصدر قريبا.

 

[1]  ابن الأهدل، 1964، ص. 214.

[2]  الشرجي، 1321 هـ، حاشية على ابن الرداد، ص. 30، وعلى الجبرتي، ص. 37-40؛ انظر أيضا الحاشية ص. 170 على محمد الأشكل تلميذ الجبرتي، الذي حرر مجموعا هائلا عن كرامات أستاذه (الأشكل، 2008)، والذي يحيل في العديد من المرات على شهادة الجيلي، الذي يبدو أنه عرفه.

[3]  راجع أتلاغ، 2000، ص. 17-18.

[4]  يوجد هذا القصيد بعد ختم مخطوط غنية أرباب السماع. انظر أتلاغ، 2000، ص. 17-18.

[5]  راجع أتلاغ، 2000، ص. 18-21.

[6]  الجيلي، 1970، الجزء الثاني، ص. 53.

[7]  نفسه، 1985، الجزء الأول، ص. 28.

[8]  نفسه، 1970، الجزء الأول، ص. 97.

[9]  نفسه، الجزء الثاني، ص. 97

[10]  سورة التغابُن، الآية 8؛ الجيلي، 2004، ص. 125؛ أنجز ر. أتلاغ تحقيقا للكمالات الإلهية لم يتم نشره بعد، غير أني اطلعت عليه.

[11]  أتلاغ، 2000، ص. 20.

[12]  الجيلي، 2004، ص. 14.

[13]  أتلاغ، 2000، ص.20.

[14]  الجيلي، 2004، ص. 170.

[15]  أتلاغ، 2000، ص. 104.

[16]  KNYSH، 1997، ص. 241-246؛ الشرجي، 1321 هـ، ص. 37-40.

[17]  يحيى، 1964، الجزء الثاني، ص. 541؛ ابن عربي، ب.ت.، ص. 135؛ نفسه، 2006، ص. 20 (السلسلة F)، 25.

[18]  الزبيدي، مخطوط.

[19]  ابن حجر العسقلاني، 1968-1972، الجزء الثاني، ص. 272.

[20]  الجيلي، 2005b، ص. 38.

[21]  الخزرجي، 1983، الجزء الثاني، ص. 248.           

[22]  عن العلاقة بين الملوك الرسوليين والمتصوفة، انظر: KNYSH، 1997، الباب التاسع.

[23]  أنسكلوبيديا الإسلام،2 "الرسوليون".

[24]  KNYSH، 1997، ص. 242.

[25]  هذا الأمير تخلى عن العرش في نهاية حياته لابنه. وحسب الخزرجي، 1983، الجزء الأول، ص. 232-233، كان الرجل عالما بالحديث والتفسير.

[26]  حسب القارئ البغدادي، 1959، ص. 64، كان الناصر يملك عددا هائلا من مصنفات ابن عربي.

[27]  الخزرجي، 1983، الجزء الثاني، ص. 197.

[28]  أنسكلوبيديا الإسلام2، "الفيروزأبادي".

[29]  نص الفتوى مثبت في القارئ البغدادي، 1959، ص. 64-72.

[30]  KNYSH، 1997، ص. 246-261.

[31]  أتلاغ، 2000، ص. 22.

[32]  من المخطوطات السبعة الباقية، تم طبع ثلاثة منها بالنص الكامل: قاب قوسين، الذي أثبته النبهاني، 1998، الجزء الثاني، ص. 261-264، ولدى البرهاني (توفي عام 1983)، من دون تاريخ النشر، ص. 44-67 (وإلى هذه الطبعة تحيل هوامشنا)، ونسيم السحر، المنشور بالقاهرة، ب.ت.ن وفي ما بعد في مجموع (الجيلي، 2005 a، ص. 65-106، يحوي العديد من الرسائل الأخرى، خاصة منها مراتب الوجود (نفسه، 2005b، ص. 36-62)، ومنشور أيضا في: النبهاني، 1998، الجزء الرابع، ص. 290-310؛ وأخيرا لوامع  البرق، 2010. أما كتاب سرّ النور المنْكمِن، فلم يتم نشره إلا جزئيا في: النبهاني، 1998، الجزء الرابع، ص. 284-290.

[33]  أتلاغ، 2000، ص. 59-60.

[34]  منشور بعنوان: الإنسان الكوني (الجيلي، 1975).

[35]  توجد الانتقادات التي يوجها الجيلي لابن عربي في الأبواب: 17، 18، و19.

[36]  CHDOKIEVICZ، 2002.

[37]  نفسه، الهامش 41. وحالة الجيلي هنا يمكن مقارنتها بحالة ست عجم التي بأمر من ابن عربي حرّرت شرح المشاهد القدسية، لكنها سمحت لنفسها بانتقاده بعبارات متعجرفة (ست عجم، 2004، ص. 16، 222، 250، 362).

[38]  ابن عربي، الفتوحات المكية..، 1911، الجزء الثاني، ص. 24، 324.