مقاطع من "جن إيراني"

بهرام صادقي 4 مارس 2018
ترجمات
حروفية للفنان الإيراني محمود بوزرجي

مقطع من أول الرواية

 

انطلقت سيارة الجيب مسرعة في الشارع الوحيد المسفلت وسط المدينة، بينما مصابيح الشارع الصغيرة والخافتة رسمت، على امتداد مسافة بعيدة، بقعاً مستديرة صفراء اللون على الإسفلت. على جانبي السيارة، كانت البيوت الصغيرة والطوابق العلوية المنطفئة تفر مختلطة بالعتمة. وحدها هرهرة محرك الجيب تكسر خيوط الصمت المطبق، بينما تجفل هاربة من أمام السيارة بضع كلاب شريدة وهزيلة.

ترجّل رفاق السيد مودّت قبالة منزل الدكتور حاتم وعيادته وسحبوه إلى تلك الناحية. كان مصباح البيت يحترق. خرج الدكتور حاتم بلباس النوم، وقد هدّه التعب والسهاد وأجبراه على التثاؤب، وبادلهم التحية. ما عدا الرجل المجهول الذي كان قدر رآه في السابق ويعرفه، كان يبدو على الصديقين الآخرين علامات الحيرة والذهول من مشاهدة حالة الدكتور وملامح وجهه؛ كان رجلاً طويلاً ومربوع القامة ذا هيكل ملائم ونشيط، يتمتع بخفة وجمال فتى بلغ لتوه مرحلة الحُلُم. غير أنك لن تجد في العالم بأسره رأساً وقفا أكثر ذبولاً وشيخوخة من رأسه وقفاه. فَرَقَ شعره الرمادي الكث إلى نصفين متوازيين وأسدلهما من ناحية رأسه الضخم إلى الخلف. وتراءى مفرق رأسه الفاصل بين طرفي شعره أصلع برّاقاً. منذ الوهلة الأولى، أحس السكرتير الشاب أن هذه الكتلة تشبه الشارع الإسفلتي المحدودب الذي امتدت على جانبيه، إلى مالا نهاية، سلسلة أشجار كثيفة ومتشابكة. وكان ينفجر ضحكاً من هذا الوصف.

دلف الجميع إلى عيادة الدكتور. تملك الرجل البدين إحساس بالنشوة من مشاهدة جبهة الدكتور حاتم البارزة وعينيه الحارقتين المليئتين بالفروع ومنخاره العقابي ولحيته الضئيلة وقفاه الغليظة التي علتها التجاعيد والانكماشات. سأل الدكتور حاتم:

-  حسنٌ أيها السادة، ما الأمر؟ هل ثَمِل؟ هل تناول مخدّراً؟

استعان بالسكرتير الشاب ليُرقد السيد مودّت على الفراش ويفتح أزرار قميصه وسترته. كان السيد مودّت مستسلماً يرمق كل الأشياء وكل الأنحاء بنظرة ملؤها الحيرة، فيما جلس المجهول على كرسي، استأذن البدين، الذي تعرّق وراح يتنفس بصعوبة، في الخروج إلى صحن العيادة ليتنشق هواء طلقاً لأنه لم يكن يقدر على تحمل التعب والعمل الشاق وكان يخشى إذا أجهد نفسه أن ينقص وزنه وتفتر شهيته وتستحيل حمرة وجنتيه برتقالية وما إلى ذلك...قال الدكتور حاتم:

- حسنٌ، لم تقولوا ماذا دهى الرجل ؟ يجب أن تشرحوا لي بتفصيل ودقة.

تنحنح السكرتير الشاب. أمسك الدكتور حاتم فم السيد مودّت في يده والتفت بوجهه ناحية مخاطبه وواصل كلامه بانشراح وأمل، ربما ليكسر حاجز خجله:

-  كثرت العلاّت هذه الأيام، وازدحم عليّ السقيم والسليم. لكني تعبت أيضاً، تصوروا أني أعيش في هذه المدينة الصغيرة لسنوات في الحجرة ذاتها وبالوسائل نفسها ومع الناس أنفسهم والكلام ذاته...قبل لحظات نامت زوجتي. إنها تتحسر لرؤيتي أزداد ذبولاً وشحوباً يوماً بعد آخر، وتقترح عليّ، كما العادة، ترك العمل، والسفر إلى مكان حتى أختلي بنفسي. سأقوم بهذا العمل بكل تأكيد.

 

 

*** 

  

اليوم التاسع :

ألفيته في غرفته. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بربع ساعة. عاد للتو من عند الفيلسوف والشاعر المجهول الذي صار صديقاً ومريداً له منذ مدة. كان فانوس غرفته يحترق بضوء شديد أخاذ. في الخارج، كانت تثلج والصقيع والبرد قد ضربا كل شيء ولفّت عاصفة هوجاء دهاليز القصر وممراته الملتوية. غطّ ساكنو القصر في النوم منذ فترة. تناولت الفانوس وخرجت من غرفتي. فجأة، زحف "شكو" أمام رجليّ بلا صوت مثل كلب، وتمدد ظله على الأرض. أومأت إليه بالذهاب للنوم فأطاع الأمر، لكن نظرته الشريرة الفضولية تعقّبتني كما العادة، كان يتبعني كالظل. نزلت السلالم ووصلت إلى الطابق الثاني. أنار الفانوس الممر الكبير الذي ينتهي إلى باب القصر الحديدي المشبك، رفعته عالياً قليلاً لعلّي أرى من بعيد قبر زوجتي. تدفّق خيط من الضياء وكسّر العتمة وبعث بريقٌ مبهم الروحَ في نهاية الممر. لكن ما الفائدة ؟ كنت أعلم أن قبر زوجتي هناك وكنت أراه ثاوياً بين ثنايا نور مغبرّ. قبر شخص أحببته لسنوات طويلة، لكني لم أحس بشيء من هذه الحالة ولم يلفّ شغاف قلبي حزن أو عذاب جديد، فضلاً عن ذلك أحسست ببرد، برد شديد للغاية.

أرخيت يدي مع الفانوس فانغمس الممر في ظلمة قاتلة. أسرعتُ الخطو وفتحتُ باب غرفة ابني على حين غرة. كان يجلس على حافة فراشه بمعطفه وحذائه، معتصراً رأسه بين يديه وقد أجهش في البكاء بهدوء. لم يلتف إليّ، حدّقت فيه بصمت كما كنت أفعل في الليالي السابقة لما كان يرجع متأخراً من عند الفيلسوف الغريب، ولم أشأ تكرار الكلام واللوم والالتماس ذاته، مثل كل ليلة. كنت أرى الشخص الوحيد الذي تبقى لي في هذه الدنيا وفي هذا الزمان، الشخص الذي أحببته وعشقته أكثر من أي شيء وأكثر من أي أحد، بعد أمي وزوجتي، إلى جانبي ومقابلي وحيداً غريباً متقوقعاً على نفسه، بعيداً عني. آه ! لمَ لا يحكي غمه وألمه لأبيه ؟ كنت أدرك جيداً أنه لم يعد مِلكي، وكان هو قد صرّح بهذا مراراً وتكراراً.

كان شعره الطري الفتي يبرق بياضاً من تساقطات الثلج، وعلى حاجبيه ارتسمت قطعتان بلوريتان بيضاوان. سقط الفانوس من يدي فانطفأ بينما ظل هو، كما كان، صامتاً ولم يرفع رأسه. ماذا كان بوسعي أن أفعل ؟ لم يكن يملأ باطني غير السواد والفراغ ويقيني بأن الله بعيد عني في هذه اللحظة فراسخ وفراسخ كما كان هو كذلك، هو أعز شخص في حياتي وأملي ويقيني وولدي الوحيد. وكنت أعلم أنه بعيد عني وعن روحي بقدر بعد هذه الليلية الشتوية الباردة الظلماء.

سحبتْ يدي المصمِّمة والعاجزة الخنجر الحاد من تحت إبطي. كان ولدي ولم يعد، لا شيء كان مهماً بالنسبة إليه، ولم يكن يفكر في حياته وحياتي. في هذه اللحظة، تبادر إلى ذهني كل الكلام الذي سمعته بصورة مبهمة عن ذلك الفيلسوف المجهول. هو من أثّر على ولدي ولقّنه أفكاراً جوفاء وعبثية وأقنعه بالانتحار. في الواقع، منذ شهور وابني لا يعيش حياته ولا يوجد في هذا العالم. غدا عبوساً ومنعزلاً عن الناس دائم البكاء ومنطوياً على ذاته. كان ينظر إليّ نظرة غضب وسوء ظن، ويترك أسئلتي بلا جواب، يعصر كل لحظة شفتيه بلا رحمة.

تقدمت صوبه ورفعت بيدي ذقنه عالياً حتى لا تقع عيناي على عينيه. انبسطت شفتاه  الغريبتان، لثانية، بابتسامة ساخرة، لكن نظراتنا لم تلتق ولو للحظة. حينذاك غرزت الخنجر في قلبه واستللته. نضح الدم فوّاراً من ثقب معقوف. صاح : "آخ ! لمَ تخلّيت عني أبي؟..." وسقط أرضاً فتبعثر شعره الأسود. ضربته ضربة أخرى على ظهره ثم قطعت أذنيه. خضل السجّاد وصار لزجاً، وصاح ثانية: "آخ! أبي العزيز...". جفّ الدم بسرعة على شاربه الأسود الجميل. كان الثلج فوق رأسه وحاجبيه يستحيل ماءً ويسيل على الأرض ممتزجاً بقطرات الدم الساخن.

حينئذ جلست فوقه كما يجلس الجزّار فوق ضحيته ووضعت الخنجر تحت بلعومه وضغطته قليلاً. لم يستطع التفوه بشيء غير: "أرحتني...شكراً لك". أحسست بآخر ارتعاشاته البريئة تسري في كامل كياني مثل تيار كهربائي. كان صوته في اللحظات الأخيرة يرجف وقد غدا ذابلاً وواهناً لكنه ظل بطهارة وحرارة تلك الأيام التي كان يخلد فيها للنوم على حضني ويطلب مني قص المزيد من الحكايا. بعدها أخذتني الرجفة وأدركت أنه بدأ يبرد، وفي هذه الآونة بالذات جززت رأسه. فجأة، زحف شكو إلى الداخل مثل كلب، بهدوء ودونما جلبة، وشرع يشتمّ ومقلتا عينيه تتذبذبان، لكن مع أنه كان له لسان لم يتنهد بآهة واحدة...وحدها حدقة عينه! اللعنة، كم كانت مرعبة! كنت موقناً أن هذه الحدقات أغلظ وأفظع وأوسع وألغز حدقات يمكن العثور عليها في الدنيا. استويت واقفاً فنطّ هارباً، ركضت خلفه في كل الممرات والسلالم والغرف. كان الخدم لا يزالون يغطون في النوم. وفي الأخير وصلنا معاً إلى الفناء. كان الثلج قد كفّن البساتين والمسابح والفناء بأكمله وكأن المكان تحوّل إلى مقبرة واسعة، ممتدة وطويلة...في هذا العالم الأبيض نزلت العاصفة على وجهي ورأسي، رجعت فإذا بها تضربني بسياطها. وفي الأخير عثرت على شكو تحت بوتقة الورد الكبيرة التي باتت الآن أشبه ما يكون بتمثال. أخرجته من ذلك الكوخ الجميل الذي كانت زوجتي قد صنعته لولدنا. كان الضوء المبهم البائد الذي ينتح من خلف زجاج غرفة ولدي يحيل الكوخ شبه مضاء. استسلم شكو بين يديّ القويتين الداميتين وأوغل في أعماق روحي السوداء بنظرته الملتمسة، وهزّ رأسه مستعطفاً متضرعاً عدة مرات، وسالت قطرات دمعه الساخنة على يدي، بينما تدفق دم لسانه الحار القرمزي واشماً على الثلج بقعة واسعة.