الكاتبات الإسبانيات يعدن المجد لروايات الرعب
وأخيرًا، ظهرت موجة جديدة من الروائيات، انحزن إلى الرعب كوسيلة للتعبير عن أفكارهن تجاه العالم، ليس من أجل كسب قارئ فحسب، إنما لإطلاق صرخة تخص المرأة، حتى لو بدا لنا من عالمنا العربي أن المرأة الغربية لا تحتاج إلى هذه الصرخة. بمعنى أوضح، ليست صرخة عالية، إنما هذه الصرخة الفنية، العميقة والجمالية، التي تجسد الخوف وتسرسبه إلى القارئ عبر وسائل الفن وليس وسائل الصراخ المزعج. هذا الاتجاه "النسوي" الجديد اعتبره النقاد "قفزة نسوية في رواية الرعب"، فيما تراه الكاتبات "انعكاسًا للواقع الذي استحوذ عليه الرجل لوقت طويل".
أسبوع الرعب في خيخون
تُخصص إسبانيا أسبوعًا كل عام لمهرجان أدب الرعب، تستضيف فيه الكتاب والقراء والنقاد. هذا العام كان الحضور النسائي أكبر من المعتاد. اللافت أن أوراق المهرجان تناولت "رواية الرعب تعيش في فترة مضطربة"، رغم ما تعيشه من انتعاش، إنها نظرة النوع إلى نفسه ومساحته في الوجود، اقتناعه بأنه خير ما يعكس العالم المثير للخوف وبؤس المجتمعات البشرية. هل المسألة في النوع أم في الكاتب؟ الملاحظ أن حال كاتبات الرعب ارتفع كثيرًا في 2018، حتى أن 10 كاتبات كن في القائمة النهائية في الجوائز التي يقدمها المهرجان، مقارنة بغياب أي اسم نسائي عام 2016.
ما الذي حدث لينجم عنه طفرة نوعية؟ تقول إليثيا خيمينيث بارتليت لجريدة الباييس: "النوع تطور لأن نساء شابات استطعن تحقيق نجاح كبير. الاستيروتايب تغير أيضًا والشخصيات باتت تكتسب أدوارًا جديدة. لكن الحقيقة أن على النساء أن يكن أكثر صلابة ليصلن إلى ما وصل إليه الرجال". خيمينيث تمثّل الاتجاه الجديد، إنها الكاتبة التي اشتهرت بسلسلة "بيترا ديليكادو"، وكانت محققة في البوليس الوطني، وبدأت الكتابة منذ عشرين عامًا حين لم يكن هناك هذا النمط من الشخصيات.
فيما تؤكد بيرنا جونثالث هاربور أن "المجتمعات تطورت، لكن رواية الرعب لا تتطور بالطريقة نفسها". على أي حال هي تلقي الذنب على الكتاب الرجال لأنهم يستحوذون على الفضاء، رغم أن النساء قارئات كبيرات وبينهن كاتبات مبهرات، "لكن المشهد الثقافي لا يمثل الحقيقة". هاربور تتحدث أيضًا من موقعها كناشرة، وترى أن اختيارها "يفتقد للتوازن" في ظل هذا الوضع، وأن الحل على الدوام هو البحث عن أصوات جديدة ورؤى جديدة.
كلاوديا كاسانوبا، اسم آخر في هذا التيار، تضيف أن "الأدب ملتصق بما يحدث في المجتمع وليس العيش في برج عاجي"، كاسانوبا الفائزة بالمركز الثاني في جائزة أفضل رواية تاريخية ترى أن الرعب هو الالتصاق بهذا العالم.
المهرجان الذي بدأ دورته الأولى عام 1988 بامرأة وحيدة هي لوردس أورتيث، كمدعوة على مهرجان لا يضم إلا قراءً، غدا اليوم مكتظًا بعشرات الأسماء أغلبها أسماء نسائية. أسماء لم تفكر أن تكتب بأسماء مستعارة أو بحروف أولى، بل قادرة على مواجهة العالم وكتابة "الرعب الجرائمي"، وهو أحد أشكال تدوير الواقع والحدث الواقعي داخل حدوتة فنية.
كاتبات، قارئات وناشرات
المهرجان المكتظ بالنساء لم يتناول فحسب أدب الرعب، أو أدب الرعب النسائي، بل قضايا المرأة انطلاقًا من هذا النوع. ما السبب مثلًا في ظهور المرأة بشكل باهت في روايات الرعب التي يكتبها الرجال؟ من هنا قررت المرأة أن تكون هي الراوية لتبرز دور النساء، لسن مجرد ظل للرجل، إنما يستطعن كتابة عمل أكثر رعبًا وثراءً، فما الذي ينقصهن؟ هنا الكاتبات يتفقن على أن أعمالهن تمثيل للعالم وليس لعالم الرجال فحسب.
الصراع بين الرجل والمرأة في عالم الثقافة، والذي تجلى في مهرجان خيخون، هو صورة أخرى للصراع في المجتمع الإسباني بخاصة من جانب النسويات اللواتي يرين أن المرأة ينقصها الكثير لتتساوى مع الرجل، رغم التساوي في الكفاءة. من هنا كان دخول عالم الكتابة هو استرداد الحق في الرواية التي احتكرها الرجل منذ آلاف السنين، فكان صانع التاريخ وصانع الأدب. كيف يمكن أن تكون رواية الرعب حين تستسلم المرأة لصوت الراوي؟ نحن أمام مخاوف مختلفة، رؤية أخرى للعالم قد تتقاطع أو تفترق عن رؤية الرجل. ربما يكون هذا بالتحديد ما تطمح إليه رواية الرعب النسائية.
لكن، على عكس ما يبدو من اللافتة، لا تتطلع الكاتبات لمجرد المنافسة فحسب، إذ السؤال الفني بخاصة سؤال البنية، ما يشغلهن. من ناحية أخرى، لم يكن هدفهن كذلك كتابة رواية رعب بالمعيار القديم، بل توسل الرعب للذهاب بعيدًا داخل المجتمع، وكشف المستور والمتواري بطرق فنية، أثناء ذلك كان "الرعب" وسيلة لتجسيد الهواجس المجردة، والتوغل في عالم الجريمة التحتي لتقديم طبقة أخرى عادة ما تغيب في روايات الأدب الرفيع. المكسب الفني هنا مضاعف، رواية رعب من وجهة نظر النساء، وتكنيك فني لا يحصر الرعب في بث الرعب السطحي، إنما التعمق أكثر في الذات الإنسانية وكشف عوارها.
السؤال المطروح الآن عن مدى تأثير هذا التيار النسائي في المشهد الأدبي الإسباني، وهل من الممكن بالفعل أن يُحدِث جدلًا أوسع ويشغل مساحة أكبر؟ بالتأكيد سيكون الاقتراب من القارئ عبر ثيمات تجارية من ناحية، والاقتراب من الأدب الرفيع من حيث الجدية في التناول وقوة اللغة من ناحية أخرى، وسيترك أثرًا إيجابيًا على التيار، بخاصة أنه يقدم منظورًا آخر للعالم.
مهرجان خيخون خطوة هامة لتكريس مفاهيم أدب الرعب النسائي، لكن التقدير النقدي والقرائي سيكون له الكلمة الأعلى في بقاء التيار أو زواله.