فرناندو بيسوا بين الشيطان واللامبالي

نزار آغري 14 أغسطس 2018
تغطيات
فرناندو بيسوا

 

 

 

نزار آغري

 

الصندوق الخشبي الذي كان فرناندو بيسوا قد خبأ مخطوطاته فيه ما زال يحفل بالأسرار. إنه صندوق العجائب الذي يسحر المرء بلا انقطاع ويشبع فضوله أيما إشباع. هو "الصندوق الأسود" للمؤلف الغامض الذي أخذه الموت قبل أكثر من سبعين سنة، وكان دزينة من الأشخاص في شخص واحد.

قصة قصيرة بعنوان "ساعة الشيطان" وأخرى بعنوان "اللامبالي"، صدرتا في كتابين منفصلين في ترجمة نرويجية ضمن مشروع لترجمة الأعمال الكاملة لبيسوا تتولاه دار سولوم للنشر، بدعم من وزارة الثقافة النرويجية ومؤسسة غالوست غولبنكيان البرتغالية. هذه أول لغة تترجم إليها قصة ساعة الشيطان، أما قصة اللامبالي فقد ترجمت إلى الإنكليزية بعنوان "تربية اللامبالي" بمقدمة لأنطونيو تابوكي.

ويبدو أن قصة "ساعة الشيطان" تستند إلى مشروع قصة قصيرة كان بيسوا قد وضع خطوطها العريضة أثناء وجوده في ديربان في جنوب إفريقيا حين كان في السابعة عشرة. في دفتر ملاحظات "البرتغالي الإنكليزي"، كما كان بيسوا يسمي نفسه في تلك المرحلة، هناك مخطط لقصة قصيرة بعنوان "صوت الشيطان". كما أنه كتب قصيدة بعنوان "مناجاة الشيطان" بتوقيع ديفيد ميريك وهذا أحد الأسماء التي كان يوقّع بها كتاباته في تلك المرحلة. في تلك الفترة من عمره كتب بيسوا أشياء كثيرة باللغة الإنكليزية بأسماء مختلفة، مثل: تشارلز روبرت أنون، جيمس فابر، ألكسندر سيرتش، إضافة إلى ديفيد ميريك. وهو جمع هذه الكتابات تحت عنوان "حكايات رجل مجنون". بعد عودته إلى البرتغال اخترع مؤلفاً برتغالياً باسم فيشينتي غويديس، تولى ترجمة تلك الحكايات إلى البرتغالية مع نبذة عن حياة مؤلفيها.

ريكاردو رييس، اسم آخر من أسماء الكتابة لفرناندو بيسوا، كان كتب قصة قصيرة بعنوان "ماركوس ألفيس". وكتب بيرو بوتيلو عن شخصية تحرّ بوليسي اسمه أبيليو كاريسما الذي قام بدوره بتأليف عدد من القصص البوليسية. في قصيدة يقول ريكاردو رييس: نحن مؤلفون نكتب عن مؤلفين.

منذ صغره شغف فرناندو بيسوا بلعبة الوجوه المتعددة هو الذي كان خجولاً ومنزوياً. كأنه كان يريد التعويض عن انطوائه وانزوائه بخلق شخصيات وهمية تتقمص كيانه وتتكلم بصوته. بهذه الأصوات الخفية أراد أن يدون القلق والأمل واليأس والرجاء في "كتاب اللاهدوء". ثم تتبع رحلة شخصياته الوهمية وجعل لكل واحدة منها سيرة حياة ووجهة نظر بل وحتى تفاصيل جسدية.

شخصيات بيسوا كانت تكمل بعضها بعضاً: تشير، تومئ، تتناقض، تلغي، ولكنها تشكل كلاً متكاملاً. في الممارسة بعثر بيسوا مفهوم صوت المؤلف الواحد وحطم سلطته. كان بيسوا ينتقل على حدود الشخصيات التي صنعها، أو خلقها، مثل انتقال المياه من جرف إلى جرف.

أقام بيسوا بعض الوقت عند جده اليهودي وتأثر بأفكاره فاتخذ موقفاً صارماً من الكنيسة الكاثوليكية التي كان قد نشأ في كنفها على يد والديه. وقد كتب أكثر من مرة أن الشيطان ليس أسوأ من بطريرك الكنيسة الكاثوليكية. في فقرة من القصة القصيرة يقول الشيطان: منذ الأزل أساؤوا إليّ واغتابوني. حتى الشعراء، الذين هم بطبعهم أقرب الناس إلي، نعم حتى الشعراء، لم يتحملوا عناء الدفاع عني. أحدهم، وهو إنكليزي يدعى ميلتون، جعلني أخسر معركة لم أخضها أبداً. وآخر، ألماني يدعى غوته، أناط بي دوراً بائساً في تراجيديا ساذجة.

تتحدث القصة عن رحلة غامضة تقوم بها امرأة تنتقل من الواقع المحيط بها إلى واقع آخر غريب مع أنها بالكاد تبرح مكانها. إنها تستقل قطاراً وتسافر بعيداً وتنزل في آخر محطة ثم تكتشف أنها المحطة القريبة من بيتها. وتمضي إلى بيت هو بيتها. ثمة حفلة تنكرية حيث تلتقي المرأة، وتدعى مريم، برجل يدعى مفيستو وآخر يدعى فاوست، الشخصيتان في مسرحية غوته. ولكنها تلتقي بشخص آخر، ذكي وبارع في الكلام. يتكلم هذا الشخص كما لو أنه يحاور نفسه. من أنت؟ ولماذا لا تلبس ثياباً تنكرية مثل غيرك؟ تسأله السيدة. أنا يا سيدتي الوحيد الذي لا يلبس الثياب التنكرية. أنا لا أرتدي القناع أبداً. أنا، يا سيدتي، الشيطان. هناك من يحاول أن يقلدني، في الأرض وفي السموات، ولكن عبثاً. فأنا صادق مع نفسي ومع الآخرين، أملك وجهاً واحداً لا وجهين. شكسبير، الذي لطالما ألهمته، كان الوحيد الذي ينصفني. قال عني إنني المنقذ. لذلك لا تخافي يا سيدتي. ففي رفقتي ليس ثمة ما يبعث على الخوف. أنت في أمان.

ينأى بيسوا بنفسه عن الأديان والعقائد. إنه أقرب إلى غنوصي شكاك منه إلى مؤمن قنوع. يكتب: أن تؤمن هو أن تموت. أن تشكك هو أن تحيا.

قبل أن يموت ببضعة أشهر، وفي 30 آذار/ مارس، كتب بيسوا ملاحظة في دفتر يومياته: أنا مسيحي غنوصي وبالطبع أنا مقاوم لكل الكنائس والمؤسسات الدينية، ولا سيما الكنيسة الكاثوليكية.

اللامبالي هو عنوان "المخطوطة الوحيدة التي تركها بارون تفايس". في المقدمة يكتب البارون: "أشعر أن نهايتي دنت، والسبب في ذلك أنني أنا نفسي أرغب في ذلك. في اليومين الماضيين صرفت كل الوقت في حرق مخطوطاتي، واحدة بعد الأخرى، والسبب الذي جعل الأمر يستغرق هذا الوقت الطويل هو أنني عمدت إلى قراءة هذه المخطوطات برويّة وتأنٍ".

في ملاحظة الناشر، وهو طبعاً خيالي ومن صنع بيسوا، نقرأ أن البارون انتحر بعد أن أحرق مخطوطاته. فمراسل صحيفة "دياريو دي نوتيسياس" وهذه أيضاً خيالية يكتب:

"يوم أمس انتحر السيد ألفارو كويليو دي أتايدا، البارون العشرون لتايفي، في منزله في ماسييرا. وقد أحدثت النهاية الحزينة للبارون الحزن لدى الجميع، ذلك أن المرحوم، الذي ينحدر من أسرة عريقة في المنطقة، كان مثالاً للرقة والدماثة. كتاب اللامبالي كراس صغير 70 صفحة من القطع الصغير، ويتألف من مقاطع صغيرة، على غرار كتاب اللاهدوء، يسجل فيها البارون تأملاته في الحياة والموت والزمن. انتحر البارون لأنه عجز عن تحقيق ما كان يصبو إليه في الحياة. وهو أدرك عبثية العيش والوهم الذي يمسك بتلابيب الإنسان من مولده إلى مماته". في قصيدة يقول:

"كم أنا لست، كم لا أستطيع أن أكون،

كم لو أصبحت، لما جاوزت العبث

الآن، أعترف، أريد أن أشعر

مرة واحدة وإلى الأبد بأنني لا أحد

وأن أعتزل نفسي بفخر

لأنني لم أتصرف بما يليق بي

فشلت في كل شيء، مع أنني لم أبذل جهداً،

كنت لا شيء، لم أجرؤ على شيء، لم أفعل شيئاً

ولم أقطف من أشواك عمري

زهرة السعادة المزعومة".

ثم يقرر: "أن أكون شاعراً ليس ما أطمح إليه، ولكنها طريقتي كي أكون وحيداً".

لم يكن فرناندو بيسوا شاعراً كبيراً فقط، بل كان ناثراً بارعاً أيضاً، وفي أكثر من مناسبة أظهر ولعه بالنثر أكثر من الشعر. وكتب ذات مرة: "أفضّل النثر على الشعر لسببين: الأول شخصي خاص وهو لأنني غير قادر على الاختيار، والسبب الثاني عام وهو يمسّ المفهوم الخاص لقيمة الفن بكاملها.

وهو نظر إلى الشعر كشيء وسيط، خطوة من الموسيقى باتجاه النثر. ففي رأيه أن الشعر، مثل الموسيقى، محكوم بقوانين إيقاعية محدّدة. بينما في النثر نتحدث بحرية، في إمكاننا أن نضمن إيقاعات شعرية، وأن نوجد خارجها. وهو اعتبر أن تسرب إيقاع شعري معين بصفة عرضية إلى النثر لا يعوق النثر، لكن تسرّب إيقاع نثري عرضاً إلى الشعر يعوق الشعر.