فيرجينيا وولف.. عودة الكاتبة المخيفة
وراء كل كاتبة عظيمة رجل
ليونارد وولف هو اسم زوج فيرجينيا وولف، وقد نال احترام العالم حين نُشرت رسائلها، وأزيح الستار الأسود عن حياتها. كرّس ليونارد كل جهده كي تتفرّغ مؤلفة "غرفة تخص المرء
وحده" للكتابة الأدبية فقط، دون أن تنشغل بشيء آخر، كما أنه كان موجهّاً قوياً وفاعلاً في حياتها كاملة. ساعات قليلة قبل أن ترمي بنفسها في النهر، خاطبته في هذه الرسالة: "حبيبي، لقد منحتني أقصى سعادة ممكنة. أنت أفضل الرجال. لا أتصور وجود اثنين كانا أكثر سعادة منّا، إلى أن أُصبتُ بهذا المرض الفظيع". لقد كان الانهيار العصبي، الذي أشارت إليه في هذه الرسالة الاخيرة، هو مأساة حياتها الكاملة. لقد ظلّت تصارعه في كلّ لحظة. "وهذا ربّما ما ساهم في إبعادنا عن عملها وغذّى أسطورتها"، تكتب ألكسندرا لوماسون. وتضيف أنه حان الوقت لطرد الأفكار الجاهزة التي تكوّنت حولها، ورفع الحجاب الأسود الذي غلّف حياتها من أجل اكتشاف الروائية في حقيقتها المتعدّدة والمليئة بالمفارقات أحياناً.
الأحداث والأشياء المتتابعة هي سماد كتبها
تشكّل سيرة ف. وولف الذاتية "لحظة من حياة" الضوء الوحيد الذي يمكن تسليطه على حياتها من أجل تبديد كل ما راج حولها. يتشكّل الكتاب من خمسة نصوص كُتبت في فترات متفرقة، لكن ما يجمعها كونها كلها سيرذاتية، كتبتها فيرجينيا بخيال قوي، برعب، بسخرية، بشراسة، متناولة فيها عدّة مراحل من حياتها، راصدة القسوة والوحشية التي سادت حياة تبدو في الظاهر متحضّرة جدّاً، وهي في سنّ الخامسة والعشرين في نص "ذكريات" (1908)، وفي الثامنة والخمسين في "محاولة لرسم الماضي" (1939). يمكن القول إنها تسرد نفس الحكاية، حكاية طفولتها، شبابها، وتصرخ بنفس الشكوى.
وُلدت ف. وولف سنة 1882 في كَنَف أسرة فكتورية نموذجية، بدأت حياتها باستمتاعها الشديد بالأصياف التي كانت تقضيها في العديد من الجزر البريطانية، بعد قضاء عدّ أشهر ماطرة بلندن، التي كتبت عن ضوئها في رواياتها: "إنها أجمل بداية يمكن أن تكون في حياة". ويمكن الرجوع إلى الرسائل التي وجهتها فيرجينيا لأختها فانيسا تصف فيها السعادة نفسها التي طبعت طفولتها، والتي ظهرت في أعمالها المستقبلية. بل يمكن القول، كما جاء في مقالات الملف، إن طرق الكتابة عن فيرجينيا وولف تلتقي في جنّة الطفولة المفقودة.
في سنة 1895، فقدت فيرجينيا والدتها. بدأت حالتها النفسية في الانهيار. بعدها فقدت والدها. وبعد سنتين مات شقيقها الأقرب إليها ثوبي، فبدأت من جديد تعاني من مشاعر متناقضة،
أصبحت فريسة ضغط قوي دفعها إلى محاولة الانتحار بالارتماء من النافذة. لذلك نجدها تؤكّد بنفسها "إن تلقي الصدمات هو ما جعل مني كاتبة". كل هذا الحداد المتتابع ضاعف من هشاشتها. لكن فيرجينيا وولف، رغم ذلك، فهمت أن هذه الصدمات المتكرّرة هي أصل موهبتها. كتبت، في فترة لاحقة، بأن هذه الصدمات هي قوتها ككاتبة: "ما يميزني هو تلقّي الصدمات المفاجئة. وأنا اليوم أرحّب بها، وما أن مرّت المفاجأة الأولى، شعرت في كل مرّة بأنها كانت ثمينة جدّاً".
هكذا عاشت فرجينيا وولف، وتعايشت، مع مرض الضغط النفسي، الذي لم يتمّ تشخيصه في تلك المرحلة، فبالأحرى معالجته. من هذه الهشاشة النفسية صنعت الروائية قوة ظهرت في كلّ كتبها. لكنها اتبعت، رغم ذلك، قاعدة "وضع جدار بين الكاتب وكتابه"، بمعنى عدم الكشف عن أي شيء يخصّها. الشيء الوحيد الذي أصبح معروفاً والذي ساهم في تنظيم حياتها هو زواجها بطالب شاب بجامعة كامبريدج يُدعى ليونارد وولف.