كيف هيأت معاهدة "فرساي" للحرب العالمية الثانية

يفغيني كروتيكوف 10 ديسمبر 2019
ترجمات
ويلسون وكليمنصو بعد توقيع معاهدة فرساي في فرنسا(يونيو 1919/Getty)
قبل أكثر من 100 عامٍ، وفي الثامن والعشرين من تموز/ يوليو 1919، تمّ التوقيع على معاهدة فرساي للسلام، التي وضعت حداً للحرب العالمية الأولى.
وتعدُّ هذه الاتفاقية من غرس الغراس، التي تحولت في ما بعد إلى الفاشية الألمانية، وأدّت بالتالي إلى نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن، هل كان ذلك واقع الأمر؟ والأهمّ، ما الدور الذي لعبته في هذه الأحداث معتقدات السياسيين الأميركيين التبشيرية (المسيحية)؟
لم يكن التفاوض هو الهدف من مجيء الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، إلى باريس، وهو نجل قسّ أميركي مهووس، بل للتبشير في أوساط الوثنيين الأوروبيين. في بعض الحالات، تمكن من تحقيق بعض النجاحات في أوساط النسق الثاني من الساسة الأوروبيين، الذين عدوا نسخة الـ(14 بنداً)، المتضمنة المنصّة الأوليّة لإعادة تنظيم العالم على طريقة ويلسون، أيقونة، أو تحفة نادرة: فقد حملوا الوثيقة في صناديق مخملية مذهّبةٍ خاصّة، أو كانوا يحملونها معهم أينما ذهبوا، وكانوا يقتبسون منها بمناسبة، أو من دون مناسبة. كما سجّلت حالات ركوع جنود إيطاليين مسيحيين كاثوليك أمام صورة رئيس الولايات المتحدة الأميركية وهم يتلون الصلوات ووجوههم إلى بنود الوثيقة الـ14.
هنالك رأيُ يقول إن دافع معاقبة ألمانيا لأسبابٍ دينية قد لعب دوراً مهيمناً على الوعي الجماهيري الفرنسي أثناء الأحداث اللاحقة، إذ ترسّخ في وعي الجماهير الفرنسية، بصورةٍ لا لبس فيها، اعتقادٌ يقول: غزا الألمان بلجيكا، ودمّروها تماماً، ثمّ فعلوا الشيء نفسه في شمال
فرنسا، فقتلوا ملايين البشر، ولذلك يجب إنزال العقاب بهم! غير أنّه كان لدى النخب الأوروبية، ومن بينها الفرنسية، مزاجٌ أكثر براغماتية، ولكنّه مزاجٌ غاضبٌ جداً أيضاً.
يكفي أن نتذكّر جورج كليمنصو، وهو ابن ناشطٍ معادٍ للقساوسة، يحمل شهادة الطب، وهو خصمٌ عنيد للكاثوليكية، كان على رأس "الأكثر تعطشاً للدماء بين جميع الفرنسيين المتعطشين جميعهم للدماء". لم يكن كليمنصو يسترشد بأيّة مفاهيم دينية، أو عقائد، عندما كان يضغط حتى النهاية على حلفاء فرنسا (في ما كان يسمّى مجلس قيادة الدول المنتصرة الأربعة) بهدف تركيع ألمانيا. وفي الوقت نفسه، لم يكن كليمنصو يطيق الأميركيين، وكلّ ما هو أميركيّ، وبشكلٍ خاصّ وودرو ويلسون، الحالم المتعصّب.
كانت فرنسا على حافة الإفلاس. وكان وزير المالية في حكومة كليمنصو، لوي ليوسين كلوتس، يتطلّع إلى تحويل التدفقات المالية الألمانية من ألمانيا إلى فرنسا. اعتقد الوزير الفرنسي أنّ بلاده هي التي تحمّلت الكلفة الرئيسية، وعانت أكثر من غيرها من العدوان الألماني، وبالتالي تستحق غالبية التعويضات. وللسبب نفسه، احتجت فرنسا بشدّة على إبرام برلين معاهدة (بريست - ليتوفسك) مع البلاشفة، واتفاقية بوخارست مع رومانيا.
في حقيقة الأمر، كانت الحكومة البلشفية قد بدأت بدفع الجزية للألمان ذهباً وبترولاً، في حين كانت باريس تتوقع أن تحصل أوتوماتيكياً على كلّ هذا. تذرعت برلين بأنّ اتفاقياتها مع البلاشفة والرومان هي اتفاقيات ثنائية، وأنّه لا علاقة للجبهة الغربية بها. في نهاية الأمر، نجح كليمنصو من إدخال بنودٍ على الاتفاقية النهائية ألغت بموجبها اتفاقيات برتسك وبوخارست السلمية. بالإضافة إلى ذلك، استغلّ الفرنسيون احتلال أوكرانيا ودول بحر البلطيق لأهدافٍ دعائية: أنظروا - هذا دليلٌ واضح على عدوانية الشعب الألماني، فعلى الرغم من استسلام ألمانيا الشكلي، يستمرّ الألمان بالاستيلاء على أراضي الغير.
من جانبٍ آخر، لم تكُ الحرب، ولا كلّ ما يتعلّق بها، يحظى بشعبية لدى الجمهور البريطاني. وحظيت سياسة التجنيد الإجباري بكراهية خاصّة، لأّنها لم تكن يوماً تقليداً متبعاً في بريطانيا. إرضاءً لمشاعر الشعب البريطاني، قام رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج، بإلغاء الدعوة العامّة للتجنيد، ولكنّه واجه سؤالاً كلاسيكياً بالنسبة لبريطانيا: كيف سيقوم بموازنة الفرص إذا كانت القوات البرية البريطانية هي الأصغر في أوروبا، بالإضافة إلى أنّها مبعثرةً على كامل مساحة الإمبراطورية البريطانية الشاسعة. لهذا السبب أصرّ لويد جورج على تقييد تعداد الجيش الألماني بـ100 ألف عنصر فقط، وفرض حظرٍ تامّ على الأسطول البحري والجوي الألماني. كما حاول، عبثاً، تقييد تسليح جيوش الدول، وأشباه الدول الجديدة، التي نشأت كنتيجةٍ للحرب، وحصلت على إمكانيات عسكرية ضخمة: على سبيل المثال، اليونان، تشيكوسلوفاكيا.
جلب ويلسون معه إلى باريس جمهرةً من "الخبراء في الشأن الأوروبي"، تمّ جمعهم على عجل من الكليات والجامعات الأميركية، الأمر الذي أرسى تقليداً مبالغاً فيه لعلاقة الولايات المتحدة الأميركية بالأكاديميين، وعلماء الشؤون الدولية. فقد صار يُنظر إليهم الآن باعتبارهم نخبةً بين النُخب. كانت أفكار ويلسون حول الوضع في العالم مثيرةً، حتى بالنسبة للتصورٍات المعاصرة، فقد كان يعتقد بصدقٍ أنّ إحجام الولايات المتحدة الأميركية عن دعم الحكومات الأوروبية سيؤدي حتماً إلى سقوطها الفوري، لأنّ أوروبا كانت مفلسةً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولأنّ حكوماتها مفلسةً أخلاقياً.
غير أنّ الأمر الأكثر غرابةً في فلسفة نيلسون أنّها تقول إنّ "الحكومات المنتخبة من الشعب" لا تميل إلى محاربة بعضها البعض. فدعونا إذاً نفعل كلّ شيء على غرار ما هو في أميركا
تماماً، وسيحلّ عندئذٍ السلام والأمن في أوروبا.
ليس في الإنجيل، الذي كان ويلسون يقتبس منه باستمرار، شيءٌ من هذا القبيل. في الإنجيل كلّ ما يخطر على بالك، ولكن ليس عن "الحكومات المنتخبة من الشعب". ويلسون، وصف هذا المبدأ بالأميركي، ولكنّه اعتبره في الوقت نفسه "عالمياً"، وكان يعتقد صادقاً أنّه يتحدث باسم البشرية جمعاء. وأصبحت النخب الأميركية على ثقةٍ تامّة أنّ مبادئ الحياة الأميركية ذات طابعٍ عالميّ، وأنّهم (الأميركان) يجلبون السلم والازدهار للبشرية. كلّ هذا من إبداع الرئيس ويلسون عام 1919!
وفي الوقت نفسه، كان ويلسون، وسائر أعضاء الوفد الأميركي، يتصرّفون بوقاحةٍ وفجور في باريس، حيث كانوا أطرافاً دائمين في فضائح تافهة وكبيرة، سواء مع الفرنسيين، أو الأميركان. على سبيل المثال، أراد الفرنسيون اصطحاب ويلسون وأعضاء وفده في زيارةٍ إلى مواقع المعارك، ولكنّ الرئيس الأميركي رفض بطريقةٍ فظّة للغاية، معتبراً الأمر عنصر ضغطٍ عليه. وبهذه المناسبة، قال ويلسون: "حتى لو كانت فرنسا كلّها عبارة عن حفرٍ سبّبتها قذائف المدافع، فإنّ هذا لن يغيّر رأيي حول مبادئ تشكيل العالم"، مما أثار موجة سخط في فرنسا وصلت حدّ الكراهية والانتقام الجسدي. نصف فرنسا الشمالي كان قد محي من على وجه الأرض، ومات ملايين الفرنسيين، وها نحن نرى وافداً جلفاً يتفوّه بأشياء لا تطاق.
كان الوفد الأميركي يرثي لحال البؤساء الألمان. فقد كان موقف ويلسون يتلخص في ضرورة إطعام وإكساء هؤلاء المساكين انطلاقاً من تصورات إنسانية بحتة. وبالفعل، كانت المجاعة قد بدأت في ألمانيا. وفي حين كانت السفن الأميركية المحمّلة بالخبز قد بدأت تتجه إلى ميناء هامبورغ، وقف "الفرنسيون المتعطشون للدماء" يعارضون هذه السياسة بكل قوة. في واقع الأمر، كانت مفاهيم "ويلسون الإيفانجيلية" قد تعزّزت بمطالبة مفهومة وجّهت إلى برلين تسديد ثمن هذا الخبز من بقايا الذهب الألماني الاحتياطي! لم يعجب الأمر الفرنسيين، لأنّهم أنفسهم كانوا يتطلعون للاستحواذ على هذا الذهب، كونه المصدر المضمون الوحيد تقريباً للحصول على تعويضات. عند هذه النقطة بالذات، استقرّ ويلسون بالفعل في قصر فرساي، وكان يجلس إلى طاولة نابليون بونابرت.
بنتيجة منازعاتٍ طويلة، تمّ تقسيم الذهب وفق حصصٍ غير متكافئة، ووصلت سفن الخبز الأميركي إلى هامبورغ. حتى ذلك الوقت، بقي الفرنسيون الغاضبون الدولة الوحيدة تقريباً التي بقيت تحتفظ بقواتٍ احتلالٍ ضخمة على الأراضي الألمانية. حتى في برلين، أصبح واضحاً تماماً أنّ فرنسا بالتحديد هي من تدفع في اتجاه إنزال أقسى الإجراءات الانتقامية ضدّ ألمانيا، في حين وقف البريطانيون مترددين، أمّا الوفد الأميركي فكان يهيم في غماماتٍ تبشيرية غامضة.
أفسدت المسألةُ الماليةُ الصورة بشكلٍ كامل. فقد أدركت لندن بسرعة أنّ باريس قد تولّت عملياً جميع التعويضات، وعلى بريطانيا أن تفعل شيئاً ما بهذا الخصوص. جاء مخرجٌ أنيق على يد رئيس جنوب أفريقيا، يان سميث (الصديق المقرّب لتشرشل، ولاحقاً أحد منظمي عصبة الأمم والأمم المتحدة). اقترح سميث تكليف ألمانيا بدفع معاشاتٍ تقاعدية لأجلٍ غير مسمّى للمعوقين البريطانيين، وللأرامل البريطانيات، وغيرها من أشكال التعويضات (على سبيل المثال، حصول زوجات الجنود على تعويضاتٍ عند الانفصال عن أزواجهنّ). ببساطة، كان من المستحيل
احتساب هذه التعويضات برقمٍ مادّيّ، لأنّه كان يبدو وكأنّه ممتد في الزمن. علاوةً على ذلك، كان الغضب الألماني موجّهاً بالكامل ضدّ فرنسا، التي تريد "تدمير ألمانيا بشكلٍ ثأريّ".
ومع نهاية عام 1921، أصبح ممكناً احتساب إجمالي قيمة التعويضات، التي شكّلت حوالي 132 مليار مارك ذهبي، أي 6.5 مليار جنيه إسترليني، أو 32 مليار دولار. مبلغ كبير، ولكنّه ليس بالحرِج. كان كليمنصو يحبّ ترديد "الألمان 70 مليوناً، والفرنسيون 40 مليوناً فقط"، سيصمد التيفتونيون (الألمان)! كانت باريس تعاني من نقصٍ في إمدادات الفحم، والحليب، والخبز. كانت الأماكن التاريخية الفرنسية، ومن ضمنها الأماكن في "آرتوا"، و"برابانت"، أنقاضاً. ولم يتبقَّ من بلجيكا سوى الخرائب (80% من معالم بلجيكا السياحية بنيت بعد الحرب). في مكانٍ ما، كان الألمان محقّين في وصف كليمنصو بالثأريّ. وهم، بالفعل، استحقوا أمثاله!
قانونياً، تمّ صياغة كلّ هذا في بنود شهيرة تضمنتها معاهدة فرساي، التي اعتبرت بمرور الوقت "إهانة لألمانيا"، وولدت الفاشية التي تسبّبت في الحرب العالمية الثانية. في ألمانيا بشكلٍ خاصّ، يدعمون هذه الرؤية، لأّنها تسقط، جزئياً، عن الألمان وهتلر الذنب عن كلّ ما جرى في ما بعد. فقد أُهين هؤلاء الناس اللطفاء (الألمان) في فرساي، وفوق ذلك أجبروا على دفع التعويضات لمن أهانهم!
تقول المادة 231 (بند المتسبب بالحرب) من معاهدة فرساي، بمسؤولية ألمانيا وشعبها الكاملة عن إشعال الحرب والأضرار الناجمة عنها. كما تدين المادة 227 الإمبراطور الألماني فيلهيلم الثاني شخصيّاً؟
نظراً لمحدودية الموارد التي يمكن لألمانيا تخصيصها لدفع التعويضات، جاءت المادة 231 لتضع حدوداً للأضرار التي لحقت بالحلفاء. هذه المادة بالذات، قام بصياغتها شخصيّاً أصغر أعضاء الوفد الأميركي سنّاً، جون فورستر دالاس (الذي سيتولى تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيةC.I.A  في ما بعد). كان المفترض أن تحلّ هذه المادة مكان المادة 231، التي
رفض الأميركيون في البداية إدراجها، ولكنّ الفرنسيين والبريطانيين طالبوا (جبهةً واحدةً) بإدراج سندٍ قانونيّ بمسؤولية ألمانيا وحلفائها. وفق المادة 116، اعترفت ألمانيا باستقلال كافة الأراضي التي كانت في السابق جزءاً من أراضي الإمبراطورية الروسية، في حين التزمت برلين وفق المادة 117 بعقد مباحثاتٍ سلامٍ مع جيرانها الحدوديين.
على المستوى الإقليمي، كانت بولونيا، التي ظهرت مجدداً، أبرز الرابحين. وحصلت بلجيكا وفرنسا على أراضٍ أصغر نسبياً، ولكنّها مهمة جداً من الناحية الاقتصادية والأخلاقية. في أوروبا الوسطى والشرقية، بدأت عملية تمزّقٍ، حيث لم يتمكن ويلسون وجيش مساعديه من التعبير بوضوحٍ عمّا كانوا يعنونه بـ"الأمة"، التي تمتلك "حقّ تقرير المصير".
عموماً، لم يفهم ويلسون تعقيدات أوروبا التاريخية، كما هو الحال الأميركان في أيامنا، حيث يفضلون عدم تدريس التاريخ مع الجغرافيا، ولا يحبذون الخوض في "الظروف المحلية". لقد ساهم غياب التاريخ في أميركا في استمرار عدم رغبة الأميركيين بفهم الأوروبيين.
غير أنّ ما يثير الدهشة حقاً أنّ معاهدة فرساي لم تأخذ في عين الاعتبار أي نوعٍ من أنظمة الرقابة على ألمانيا. فلم يتمّ احتلال أراضيها، باستثناء منصاتٍ فرنسية على نهر الراين. كما لم تتضمّن المعاهدة آليات للرقابة على "الجيش الألماني الذي يبلغ عديد عناصره 100 ألف"، ولا على تصنيع الأسلحة. على سيبل المثال، عمد Werner von Braun (فيرنر فون براون) إلى تطوير فرع الصواريخ، ببساطةٍ لأنّ معاهدة فرساي لم تشر، من قريب أو من بعيد، إلى أيّة صواريخ. وقام هتلر بإلغاء كافة القيود التي فرضتها اتفاقية فرساي، دون أن يعارضه في ذلك أحد. فبكلّ بساطة، لم يكن هناك أيّة آليات لذلك! بالفعل، مرّت ألمانيا في عشرينيات القرن العشرين بسنواتٍ لم تكن الأفضل عبر تاريخها كلّه، فقد كانت أعباء دفع التعويضات عبئاً اقتصادياً ضخماً للغاية، ولكن لم يحاول أحدٌ من الدول المنتصرة متابعة ما يجري في الرايخ الثالث المقبل. في المحصلة، لم يكن النازيون بحاجةٍ لبذل كثير من الجهد لتمزيق شروط معاهدة فرساي للسلام، وكأنّها كانت مجرّد ورقة تافهة.
في الوقت نفسه، يجب أن نتذكّر أنّ الأميركان دخلوا الحرب في نهايتها تقريباً، وقد احتفظ الفرنسيون والبريطانيون بالفرق الأميركية لعدة شهور بعيداً في الاحتياط، لأنّ الجنود الأميركيين كانوا في حاجةٍ إلى من يعلّمهم كيف يمسكون بالبندقية، ولم يكونوا يعرفون ماذا تعني المدفعية ذات السبطانة.
يعود نفور الفرنسيين والبريطانيين من موقف الأميركيين إلى فكرة مفادها:
لقد حاربتم أقلّ من عامٍ واحد، وها أنتم الآن تودون فرض قيمكم علينا، بالإضافة إلى ذلك، تعتبرون أنفسكم مبشرين مسيحيين، فتتصرفون كفيلٍ هائج في مخزن خزف صيني! وكلّ هذا فقط لأنّكم قدمتم لنا قروضاً، أي أنّكم ربحتم منّا أموالاً. اعلموا أنّ هناك أشياء أهمّ من النقود.
إنّ الفكرة القائلة بأنّ معاهدة فرساي هي وحدها، ووحدها فقط، التي أوصلت الفاشيين الألمان إلى السلطة، وبالتالي أدّت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، هي فكرةٌ أقّل ما يمكن وصفها به أنّها فكرة مبالغ فيها، ومناسبة تماماً للألمان ليتنصلوا من تهمة تسببهم في الكارثة.
لقد وجدت الأفكار النازية في ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى بوقتٍ طويل. إضافةً إلى ذلك،
كانت الأفكار النازية موجودة بشكلٍ منظمٍ لا تشوبه شائبة فلسفية (يكفي في هذا الصدد أن نتذكر Haushofer/ هاوس هوفر ودائرته، التي كان كثير منها في ألمانيا). ورغم أنّ التوتر الاجتماعي والدمار الواسع ساهما بالفعل في خلق سريعٍ للشروط التي منحت النازية الهتلرية تلك الشعبية التي حظيت بها. ولكم لو لم يكن هناك هتلر، لوجد كثير غيره من المهووسين. المسألة هنا ليست في "عبودية فرساي"، بل تكمن في ذاك الفكر الذي كان يسود الأرض الألمانية منذ زمن بيسمارك.
لم تكن معاهدة فرساي مثالية، بل جاءت كحلٍّ وسط يمثل مصالح الدول المنتصرة، وفوق ذلك، جاءت تحت ضغط رجلٍ - نصف مجنون، كان يعاني من نوبات اكتئابٍ، ومن أمراض غامضة (سيمنح لاحقاً جائزة نوبل للسلام)، واسمه وودرو ويلسون! لم يكن أحدٌ يريد احتلال الأراضي الألمانية، خوفاً من مقاومةٍ منظمةٍ قد تظهر (رغم أنّ الفرنسيين لم يواجهوا أيّة مقاومة في منطقة الراين). ولم يكن أحدٌ يرغب أن يكلّف نفسه عناء الرقابة على التسلح، أو التدخل في الحياة الداخلية العاصفة في برلين وهامبورغ. كان يجب أن يتمّ كلّ هذا قبل كلّ شيءٍ آخر، وليس الانشغال بتقاسم حصص الذهب، وضمّ المستعمرات. كانت هي الطريقة الوحيدة لتجنّب محاولات الانتقام، وليس التباكي في ما بعد على "الألمان المساكين"، الذين تعرضوا للإذلال بغير وجه حقّ.

***

ــ عنوان المقالة الأصلي:
Как Версальский договор подготовил Вторую мировую войну
(كيف هيأت اتفاقية فرساي للحرب العالمية الثانية)
ــ صحيفة (فزغياد) الروسية.

رابط المقالة:
https://vz.ru/society/2019/6/28/984717.html-

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.