في محترف القصيدة: روني شار دائماً

ترجمات
شار الأول من اليمين وقوفاً مع مجموعة من السرياليين(Getty)
عندما صدرت الأعمال الكاملة لروني شار في سلسلة لابلياد عام 1983، نشر لي أحد المحررين في جريدة ليبيراسيون موجزا نقديا أشدت فيه بروني شار كأحد أعظم الشعراء طيلة قرون من الفرنكوفونية. أرسلت المقال إلى روني، وانتظرت. وافق روني أن يستقبلني؛ وكان استقباله شيئا ما وديا وحذرا جدا. "لقد كان مقالا مكتوبا من قبل صائد الحنكليس"، قال لي مُودعا بطريقة ملغزة. بعد مضي وقت طويل في تفسير اللغز، اكتشفت أن صائدي الحنكليس يضعون العديد من السنانير في نفس الخيط لمحاولة اصطياد الأسماك، من جميع الجوانب، وهم الديماغوجيون.
أمام عتبة بيته بقرية السورغ، استقبلني رجل فارع الطول (الأجيال القادمة ستعرف أن روني كان يحتذي مقاس 48)، مفتول العضلات، وجبهة عالية على غرار سيزان، ووجه مستطيل بضخامة ملامحه العميقة، فيما العيون متأملة ووديعة، ملابسه محتشمة لدرجة لا تجعلنا نشعر على الفور أنها غير مصنفة.
معنوياً وجسدياً، كان روني شار وحشاً عملاقاً؛ يتميز الفرد أولا وقبل كل شيء باحتياطه من الطاقة، كما السيارات بعدد الخيول.
كان روني خليطا أو تعاقبا بين القسوة والرقة، النرجسية والسماحة، بُغض الجنس البشري والإيثار، الزهد والشهوانية، أحلام اليقظة المتعالية والحس السليم الهائل.
أحياناً كثيرة، عند غروب الشمس، كان يتجاهل محادثه، مستغرقا في رؤاه، في حالة حلم اليقظة، أو يأخذ في التمتمة بلغته؛ تلك اللغة الغريبة التي كان المتحدث الوحيد بها. فيكتشف شهوده رجلا آخر. لا أتذكر مغنية الأوبرا المشهورة، التي قيل إنها حُوت ابتلع عندليبا. حسنا، روني ذلك العملاق المزاجي المتسلط كان بداخله عندليبا.

[بول فاين]

*****

في هذا الملف الخاص سنرافق الشاعر الفرنسي روني شار، 1907- 1988، في مقتطفات باذخة من المقابلة الوحيدة التي أجراها في حياته مع فرانس هوسر، حيث يتحدث عن الشعر والحب وملابسات تشكل القصيدة وهندسة مجموعته الشعرية الأولى "آرتين" تحديدا.
ومباشرة بعد ذلك نتوقف مع باقة من تعريفات روني شار للشعر والحب على حد سواء.
وفي الأخير وقفة مع قصيدة "آرتين" التي افتتحت مجموعته الشعرية الأولى، ورسالة الوداع الموقعة من الشاعر إلى المرأة الملهمة. 

في محترف القصيدة (مقابلة)

تشكلت مجموعتي الأولى "آرتين" من خلال شخصيتين: تلك الفتاة التي ماتت غرقا، لُولا آبا، والفتاة التي قابلتها قبل ثلاث أو أربع سنوات، في ساحة حلبة سباق الخيل، المكان الأكثر روعة، الذي كنت أتردد عليه كما لو أنه أرض مغناطيسية. عندما كنت شابا، غادر للتو سن المراهقة، غالبا ما كنت أذهب إلى سباقات الخيل، وكما العادة بمفردي. لا زلت أرى نفسي،

مستندا على حواجز قياس الوزن، عندما أتت للاستناد على السياج بجانبي، فتاة جد شقراء، ممّن توصف بالفاتنة. ابتسمت لي. انحنى أحدنا على الآخر وتبادلنا القبلات. لكن والدها نادى عليها، بعنف، ورغم أنني بحثث عنها وسط الحشود، لم أتمكن من إيجادها مرة أخرى.
قُرعت الأجراس، وانطلقت الخيول الأصيلة، وهرع المراهنون الأثرياء المستنفرون إلى الأكشاك. تركت لي شعورا عميقا عمّا كان يمكن أن يحدث وتم رسم خطوطه فقط.
في ما بعد، في الوقت الذي لم أعد أفكر فيها، رأيتها رفقة والدتها في عربة كابريوليه تهرول على الطريق المؤدي إلى أفينيون. كان زمن الفتيات بأشرطتهن الواسعة، المتموجة حول الخصر وأهداب العقدة الحقيقية أو المزيفة. كانت الأمهات أجمل من بناتهن بسبب بساطة زيهن. كما كان يتم التعرف على الفارق بين الأعمار بهذا الاختلاف فقط. إحداهما في العشرين من عمرها والأخرى في الأربعين. كانت الأم تقود العربة. لكن لم تكن تثير الريح منها شيئا، مشدودةً في بذلتها المخططة الملتصقة، بينما كان كل شيء في البنت يتطاير ويجلد الهواء حتى ردفيها الصغيرين. أبدت السماء استحسانها، والأشجار أيضا.
بعد عامين أطلعني شخص على اسمها: لقد تزوجت. عندما طلب مني بروتون نصا يتناول خلود اللعنة في اللامتوقع، فكرت أن أقدم له قصيدة أنهيتها للتو، لها علاقة بفتاة حلبة سباق الخيل ولُولا آبا. لكن بعد إعادة النظر، آثرت تأجيل ذلك لاحقا.
منذ تلك اللحظة، رافقتني الفتاة آرتين على مدى فترات متباعدة، ولم تتحول أبدا إلى رماد. كانت تتجلى في أحوال مختلفة على مشارف الخفي، عابرةً للأفق برقبتها الشامخة. كما حدث في سيراز عام 1943، بينما كنت أغادر مخبأي في القرية العتيقة، فوجئت مفزوعا بفتاة غجرية تتسلق الدرج الحجري للزقاق، لأن الزي الرائع الذي كانت ترتديه شكل خطرا كبيرا عليها، بوجود إبادة ممنهجة للغجر من قبل الألمان.
كانت موديلا جديدا تماما في تدرجات الأخضر والوردي المشوب بغلالة رمادية ينتهي بشريط الحاشية الزعفراني. على بعد متر مني رفعت بصرها للأعلى. أحسست في هذا الوميض أننا أمام حدث معدّ سلفا، ناجز للتوّ. دونما كلمة، مددت نحوها يدي التي أمسكت بها. ولم يعد المخبأ مجرد مخبأ بل تحوّل إلى غرفة حب. عندما تركتني، أصغيت لخطواتها، بجفون مغمضة، تبتعد وسط الأحجار وهالة ذلك النهار.
في عام 1943 كانت تلك الغجرية شقيقة لُولا آبا وفرنسواز دي إم. أضفت إلى قصيدة "آرتين" صفحة ناقصة لكنها ستبقى بيضاء فارغة. هكذا تشكلت هذه الباقة من "المكونات"، حيث القيادة للزمن، الذي يتحول إلى حشد من القصائد في قصيدة واحدة لا ترتوي. عدة مرات أخرى ظهرت نزيلة أخاديدي المستحوذة عبر الأخيلة المؤتلفة في ندى اللقاء الفضي؛ والتي لم يتسرب إليها الجفاف أبدا. كان ثمة عالم ينضج، عنقودا داميا من القبل.
لا جدوى من الشرح، علينا الموت في الموعد المحدَّد، وتوديع القصيدة إلى الأبد بعد ولادتها: سوف تواصل النقطة المضيئة الترحل في نظراتنا كما السحاب في قوس قزح الفصيح.
هل نحن إزاء مشهد يحتاج للتفسير؟ لكننا لا نريد الإيضاح، فالليل يتمدد عليه مبكرا دائما برقصة باليه الحبر والضوء. نحن نكتب في حالة الطوارئ: والقوة التي ترحِّلنا تُلزمنا

بإحباطات معقودة. تماما كما يمنحك شخص رائع ابتسامة مضاعفة لم تكن تنتظرها؛ يهبك الشعر الوجه المكتمل لإلهتين اتحدتا أخيرا. يطأ حافة الهذيان، ولا يتجاوزها.
ليس بمقدور العقل فقدان شعور الرفاه بلا ندم. الشعر في منتصف الطريق ليس حرية. الحقيقة والحرية، دون إعداد مسبق، تسود بينهما علاقات عدم التسامح. لكن فجأة يتحدان في كيان واحد؛ وفي هذه اللحظة يصنعان الجمال، برجا من الأجراس تخترقه عربدة الرياح، ولا يضعف تحت السيطرة.
في نهاية هذا الربيع المطير، كان "الشفافون" يرتدون أحذية متينة مع أنها بالية قادمة من المخازن الحربية القديمة. لكن عند ديانا، تنتظرهم النعال المجدولة بأوراق الدخان البيضاء المجففة. أصبحت سرعتنا الأولية وتفاصيل حياتنا، تحت نعال الشِعر، غبارا ذهبيا بين سيقان الزنابير العاملة في زوايا النوافذ...
لم يتسن لي، كما رغبت، مرافقتها كفاية، لكنني مع ذلك أتذكرها جيدا. كانت تمتلك طريقة متفردة للغاية للاختلاء غالبا وحدها في الأماكن المضاءة بالأقحوان، بقطن الحور، بالأطلال الغامضة، وغيرها من الزهور المنثورة، على بعد بضعة أمتار من خليج السورغ الصغير. وثانيا ديانا لم تكن تغادر بيتها، الذي خصصته لإصلاح أغراض رجل مستعملة، أو غسل ثياب حائلة الألوان.
في كنيسة سان برنابا، كانت تضع زهور شبّ الليل والقرنفل البري. في الأيام المشمسة كانت تغني، وفي الصباحات الغائمة كانت تدندن بألحان لا أفهمها. كثيرا ما تذوقنا الحليب، الكستناء، والبيض المسلوق، من أناملها الجميلة. شريحة الخبز تتغطى برقاقة من الزبدة وطبقة من الشوكولاتة، تينتان تطلان من جيب بلوزتها. رأيت أو سمعت في محيطها أربع دجاجات وديك يتجولون بحرية، زهور الكبَر كانت تنشر سحر عبيرها النفّاذ جنوب البيت.
الزيارات الوحيدة التي استقبلتها ديانا كانت من أصدقائها "الشفافين" الذين لم يكونوا يخفون مغازلاتهم لها وحبهم. كنا نداعبها، نقبلها بضع قبلات، ثم ننزل السلم وكان الصمت عاريا قليلا. أبقيت نفسي على مسافة، خوفا من أن أطرد؟
اعتدت الصيد في إحدى شعاب النهر، الأكثر جفافا على الإطلاق. كنت أخلع قميصي في الهواء، حواف سروالي المصنوع من النسيج المحبوك مرفوعة. على مسافة مائة متر، كنت أمسح المياه الباردة، ممررّا يدي، بأصابعي المتقاربة، تحت الجذور حتى أشعر بخفقان بطن سمكة. كنت أتقدم ببطء، مداعبا خياشيمها، وفجأة تلتف يدي. إنها طريقة متوحشة في الصيد، كان التيار يبللني حتى الأذنين.
كانت ديانا الوحيدة التي تستمتع بهذه اللعبة. كانت تطلب مني التوقف آنذاك عن الاستحمام والخروج للتنشف بصدريتها. كنت أتظاهر أني لا أسمع شيئا. فكانت تلف بالحشائش سمكة البوري التي تلقتها فيما كانت تبتعد نصف متوثبة، نصف مقطبة في الاتجاه المعاكس حيث كان قميصي وسروالي يفشيان نهاية طفولتي.
عصفورا هازجة، في الجزيرة الصغيرة المجاورة، يرفعان عاليا، مملكتهما من السوسن والقصب. أحببت تغريدهما الجوهري، المنتشر، الممهِّد على غالبية عصافير ضفاف الأنهار. "ما تعنيه المرأة، الله ينساه"، قالت مرة أخرى، على مرمى السمع، ديانا الهازلة. انتبهت منذ الوهلة الأولى إلى خصلاتها الفوضوية والنظيفة للغاية، دونما شعرة بيضاء واحدة، كانت ستزيدها جمالا، وعنقها الطويل في كنزتها المقطبة.
أمضيت صيفين في رفقة "الشفافين"؛ أبلغتهم تحيتي، وتلقيت تحيتهم. عيون ديانا الخضراء

اليشبية، على مر الأيام، الأحداث، والتقاربات، كانت تشيع انعكاس أشعتهم على الولد الذي يغادر طفولته.
شجيرة دُرَيْدار أزهرت في الساحة. كنا في شهر تموز، اتسعت الدورة المحمومة للفصول. لقد كانت ديانا "الشفافة" وكانت أيضا امرأة القرابين الغامضة والفسيحة. ديانا مدينة لبعض الآلهة بحراستها، لكنهم دون حاجة إلى اقناع، يستريحون الآن ليس بعيدا عنها، على شجرة الميْس، الشجرة الوحيدة التي تطل على نافذة غرفتها. بالنسبة لي، أنا الذي كنت مقموعا في عائلتي، أربكني أن ديانا بقيت وفية بقلبها لرفاقها. مواقفهم لم تتغير. كنت في الرابعة عشرة، ولم يكن لدى ديانا سوى عمر الرغبة التي كانت تستثيرها.
عشت على ندائها، صيادا بئيسا ومهرجا مزعجا، وكان رائعا حقا. لويس كوريل، الرجل المتمرس الذي كان مهتما بها، همس لي بكلمة في إحدى الليالي: "امرأة وحيدة وسط مشاة القمر، ومخلصون لها أيضا، ديانا ملاك شهواني، لكن بالتأكيد لا يمكن أن تعرف معنى ملاك".
أما الشفافون، فكانوا يهرولون على المنحدرات الصخرية، وراء شرعية بعيدة المنال ربما أفلحت الشمس في مجاورتها. كان للحياة والموت هناك مصب للحرية. سأنضم إليه فيما وراء ظل غدي. هذا الليل الذي يستمر يرتفع في الفضاء مثلما أصم أبكم يعدّ خطواته في الصحراء.

[يتبع...]

كلمات مفتاحية

الحداثة الشعرية الشعر الشعراء والنص شعر حديث شعر فرنسي شعر مترجم