وداع

فانغ ينغ ون 10 مايو 2019
ترجمات
رسم بالحبر الصيني التقليدي (Getty)
قبل 18 عاماً، في مركز المحافظة الصغير الموجود في مسقط رأسي، وداخل موقف الحافلات المتواضع القذر الذي يشبه حظيرة الخنازير، وتحديداً على ذلك المنحدر المألوف الموجود عند مخرج الموقف، طُويت صفحة مهمة من تاريخ حياتي إلى الأبد.
ففي ذلك العام كان موقف الحافلات الصغيرة في داخل منخفض، وكان يحتاج الخروج منه إلى صعود مطلع ارتفاعه أكثر من ثلاثين متراً. في الحقيقة هذا المنحدر لم يكن شديد الميل، يستطيع صعوده شخص بالغ دون سن الخمسين يركب دراجة إذا زوّد من همته. لكن، لو أرادت عربة نصف نقل قديمة الطراز تسلق المطلع، لا يمكن أن تفعل دون أن يُدعس على دواسة الوقود إلى أقصى درجة. استقليت حافلة قديمة ذات 38 مقعداً وغادرت المحطة. جلست في المنتصف، بالقرب من النافذة.
عندما تحركت الحافلة، مددت يدي بسكون مصافحاً خطيبتي لتوديعها. خطيبتي غير معتادة على عادات المدينة هذه، لأن في القرية، من يرتدون بدلة جونغ شان(*) فقط هم من يصافحون بالأيدي. وبالنسبة لخطيبتي فإن المصافحة، وخاصة بين الرجال والنساء، أمر غاية في الغرابة وغير مريح بالمرة، وكذلك حيلة لا تغتفر، تُحول كل ما هو عميق إلى سطحي. لكنها رفعت يدها، أمام يدي الممدودة، ليس لتصافحها، بل لتمسح دمعاتها المنسابة. لم يكن في عيونها ثمة دمع عندما كانت تمسحه بيدها، لكن عندما نحت يدها، رأيت قطرتان من الدمع تنحدران من عينيها. 

"أكتب لي جواباً عندما تصل إلى الجامعة".
"قطعا".

عند صعود الحافلة المنحدر، أطللت برأسي خارج النافذة، ولوحت لها مودعاً. كانت خطى المودعين تلازم صعود السيارة للمنحدر، أما خطيبتي، فظلت واقفة بلا حراك هناك لوقت طويل، تداعب ضفيرتيها السوداوين السميكتين المنسدلتين على صدرها. لكنها ابتسمت فجأة، وملامح وجهها التي فَقدتها عادت مرة أخرى، بل وأخذت تزداد قرباً مني كل مدى؛ لم أكن قد

استوضحت السبب بعد، وهو أن الحافلة قد عادت إلى الخلف، وصارت أمامها وجها لوجه. فتح السائق صندوق محرك السيارة، وأخذ يسب ويلعن تارة، وأخرى يفحصه يصلحه. بدا على وجه خطيبتي تأثر مغاير، وقامت بإضافة بضع جمل متلهفة ودون صبر. تحركت السيارة مرة أخرى. تشتت معظم المودعين، وغادروا الموقف من بوابة التذاكر.

"إن المدينة لا تقارن بالريف، عليك أن تستحم باستمرار".
"حسناً".

بدأت تتضاءل صورتها الجميلة مجدداً. عندما وضعت نفسي مكانها، اعتصر قلبي ألماً. لكن من يتوقع، فالسيارة تنزلق مرة أخرى من على المنحدر. أثناء تراجع الحافلة، رأيت يدا خطيبتي تدخل في جيب بنطالها بتوتر. توقفت الحافلة، لكنها لم تتوقف عن حرق الوقود، أخرجت خطيبتي فشاراً ووضعته في يدي، وذلك رغم أن حقيبتي كانت ممتلئة بفشارها. تحركت الحافلة بمجرد أن أخذته منها.

"افعل ما تفكر به".
"إن أفكاري ثابتة لا تتغير ولو بعد مئة عام".

عندما رأى بعض الناس السيارة تصعد المنحدر، أخذوا يركضون صوب دورة المياه، كانوا تارة يركضون، وتارة يفتحون سحابة السروال، في الحقيقة أنهم كانوا يخشون من تراجع الحافلة مرة أخرى، فيصيبهم ذلك بالحرج عند التقائهم بالمودعين ثانية. وحدها خطيبتي كانت تقف في قمة الولاء ثابتة في مكانها الأصلي دون أن تتقدم تماماً مثل شجرة الحور الصغيرة.
كان المنحدر هذه المرة سلساً. وطئت العجلتان الأماميتان للحافلة الأرض المستوية، أما العجلتان الخلفيتان الثقيلتان فجعلتا الحافلة تنسحب إلى الوراء وكأنه مقلب مأساوي. تبادلنا النظرات ضاحكين أنا وخطيبتي، كانت ضحكة خجولة جداً، ولم نملك ما نقوله.
الفراق، وخاصة فراق رجل وامرأة جمع الحب بينهما، هو المشهد الأكثر كآبة وأسى في الدنيا على الإطلاق، والسبب أنه في تلك اللحظة يكون تلاشي الشخص المغرمة به قلوبنا من أمام أعيننا، ولا ندري إذا كانت هناك احتمالية لقائه مرة أخرى في هذه الحياة واردة أم لا.
سبب أن الوداع يجذب المرء حد الغرق في لوعة الحزن، أنه شيء يحدث لمرة واحدة ثم ينتهي، لذلك يعاني المرء وكأن انفطر قلبه. ولكن كم كان طريقة فراقي أنا وخطيبتي المكررة مثل نسخة الكربون مزعجة! أفسدت مزاجنا كما لم يفسد بهذا الشكل من قبل، وكأن مشهد الوداع أشبه بأوركسترا تعزف سيمفونية ليانغ شان بو وجو ينغ تاي (**)، ولكن بقيادة جاو بن شان (***).
لذلك، عندما تحركت الحافلة ثانية، من أجل إنهاء هذا المشهد التعيس بشكل قاطع، صحت بخطيبتي قائلاً: "فلتعودي بسرعة". لكنها لم تتحرك، تماماً وكأنها إبرة خياطة غُرست في الأرض. أنا وخطيبتي وكل ركاب الحافلة، كنا ندعي بصمت من أعماق قلوبنا: "نتمنى أن تصمد الحافلة وتخرج من المحطة هذه المرة".
ومن ثم، تحركت الحافلة عكس ما تمناه الناس. يا له من منحدر لعين! فهذه الحافلة الوقحة، للمرة الرابعة تنزلق بشكل وحشي ودون رادع! عندما كانت تنزلق، اكتشفت أن خطيبتي كانت قد ولت وجهها منذ أمد.
"فلينزل الجميع لدفع الحافلة!"- أمر السائق قائلاً هذه الكلمات، فنزل الركاب جميعهم من الحافلة، بينما بقيت أنا فيها. رمقني السائق بنظرة، فرمقته بمثلها.
فقط شاهدتهم وهم يدفعون الحافلة. أما جسد خطيبتي، فالتوى إلى الأمام وصار أشبه بالهلال،

كانت تدفع الحافلة بكل قوتها وبكلتا يديها، وكأن رأسها انحدر إلى الأمام، وكأنها تريد أن تدفع بإله الوباء.
العجيب أن هذه الحافلة المعطلة كانت أشبه بدبابة قُطع سيرها، لم تكن تتحرك مهما حدث. في ذلك الوقت، دخل من البوابة جرار ضخم ناقل لبراميل الزيت، أوقف السائق الجرار، وقفز نازلاً لمساعدة الجميع في دفع الحافلة. وعلى غير المتوقع، دُفعت الحافلة فجأة، بإضافة قوة هذا الشاب.
لم أدر أين ذهبت خطيبتي، عندما كان الركاب يصعدون بصخب وفوضى متكدسين في الحافلة، وحينما زادت الحافلة من سرعتها على الطريق الممهد، جلت ببصري باحثاً عنها في جميع الأمكنة، لكنني لم أعثر على أي أثر لها. مددت يدي، ولكنني لم أجد شريكاً لمصافحته، فقط لوحت عبثاً مرتين صوب الأفق.
فور وصولي إلى الجامعة كتبت رسالة إلى خطيبتي التي تسكن ذلك الوادي القصي. ولكنها ردت علي بعدما كتبت لها رسائل لمدة 3 أشهر، قائلة: "في ذلك اليوم الذي ودعتك فيه، كان مزاجي سيئاً من الأصل، علاوة على ذلك فإن السيارة لم تصعد لعدة مرات، مما جعلني أفقد الرجاء. هذه الحافلة صارت عبئاً بشكل مطلق! فجال بخاطري، ألن أكون أنا أيضًا عبئاً ثقيلاً عليكَ لو تزوجنا؟".
بعد نصف عام، تزوجت خطيبتي. لم يكن زوجها هو أنا، بل سائق الجرار، ذلك الشاب الذي ساعدنا في دفع الحافلة في ذلك اليوم.

هوامش:
(*) بدلة جونغ شان: هي بدلة صينية تقليدية اشتهرت بعدما ارتداها القائد سون جونغ شان، هذه البدلة تعرف باسم بدلة ماو أيضاً، لأنه أكثر من الظهور بها.
(**) ليانغ شان بو وجو ينغ تاي: اسما بطل وبطلة لقصة رومانسية شعبية صينية.
(***) جاو بن شان: ممثل كوميدي صيني شهير، وذكر الكاتب له في هذا السياق يعبر عن أنه مشهد رومانسي ساخر.

***

فانغ ينغ ون: كاتب صيني معاصر وخطاط، يعيش في مدينة شي آن. ولد في عام 1958، وتخرج في قسم اللغة الصينية وآدابها في جامعة شي بيي. عضو في اتحاد الكتاب الصينيين. تتميز كتاباته بالطابع الفكاهي.

ترجمتها عن الصينية: مي عاشور.

كلمات مفتاحية

قصة قصيرة