مؤلفة "تشرنوبيل": أحببتُ دائماً قصص النّاس العاديين (1)

28 يوليه 2019
ترجمات
البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش في باريس (2/11/2015/ فرانس برس)
تحبّ سفيتلانا أليكسيفيتش (1948، ستانيسلاف) وصفَ أعمالها بأنّها "مشروع اجتماعي"، عملت على تطويره لمدّة 40 عاماً. تقول إنّه "مشروع اجتماعي" بغير قليل من التواضع والتحفّظ في ما يتعلّق بهذا المفهوم، وهذه ميزة مرحّب بها دائماً في عالم يسوّق باستمرار لعجرفة ما لا يحصى من الأسماء الثقافية الكبيرة، لكنّه مع ذلك مفهوم لا يكفي لتحديد طبيعة عملٍ استثنائيّ وأساسيّ في الأدب وفي التاريخ، يتجلّى بوضوح من خلال كتب أليكسيفيتش الّتي قدّمت بشكلٍ رائع صورة عن العالم المعقّد والمأساوي المحيط بها، عندما اختارت لكلماتها أن تنقذ أصواتَ رجالٍ ونساء كانوا من أبطال تلك التجربة الاجتماعية والسياسية والتاريخية العظيمة الّتي تمخّضت عن الثورة الروسية عام 1917.
صاحبة نوبل الآداب عام 2015، المنحدرة من أسرة تمتهن التعليم، درسَت الصحافة في الجامعة، وعلى مرّ السنين أصدرت العديد من الكتب التي تمثّل مجهوداً هائلاً وأصيلاً، يستند فقط إلى الموهبة والمثابرة والحساسية، من بينها: "ليس للحرب وجهٌ أنثوي" (1985)، حيث لأوّل مرّة تعبّر النساء الرّوسيات عن وجهات نظرهنّ بخصوص ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية؛ "فتيانُ الزنك" الّذي تروي فيه أمّهات الجنود قصّة الغزو السوفييتي (1989)؛ "صلاةُ تشيرنوبيل" الذي يعدّ بمثابة وصف كوراليّ صادم لمأساة النّاجين من الكارثة النووية الّتي وقعت في أبريل 1986. (1997)؛ "نهايةُ الإنسان الأحمر" الّذي يروي تفكّك يوتوبيا الإنسان الجديد (2013)؛ "آخر الشهود" الذي يتضمّن شهادات أطفال الحرب العالمية الثانية (2016).
إذا كان معظم القرّاء في العالم قد تعرّفوا على اسم سفيتلانا ألكسيفيتش عام 2015، عندما قرّرت الأكاديمية السويدية منحها جائزة نوبل للآداب، لأوّل مرّة عن مجموعة أعمال غير روائية، فإنّ هذا الاسم الذي كان نسيه البعض سرعان ما عاد بقوّة إلى الواجهة مع بداية هذا العام، والسبب كتاب "صلاة تشيرنوبيل"، الّذي أثار الكثير من الفضول والجدل وصار مطلوباً من طرف القرّاء والمشاهدين على السواء، وذلك بعد عرض مسلسل درامي جديد بعنوان "تشيرنوبيل"، تمّ اقتباسه من الكتاب، والّذي اقتفى عبر خمس حلقات آثار واحدة من اللّحظات الدراماتيكية في القرن العشرين: الكارثة النّووية الشهيرة الّتي وقعت عام 1986، والّتي في نظر الكثيرين كانت من بين الأسباب الّتي سرّعت بانهيار الاتحاد السوفييتي، خمس سنواتٍ بعد ذاك.
كثيراً ما صرّحت ألكسيفيتش إنّه بسبب الصّمت الّذي فرضته السّلطات، وعدم وجود توجيهات بخصوص الحديث عن هذه الكارثة، فقد كان من السّهل عليها نسبيّاً القيام بتحقيق والحصول على شهادات مجّانية وتلقائية عن "تشيرنوبيل". لقد حظي هذا المسلسل بشعبية كبيرة - هو الّذي قامت حبكته على قصّة مستوحاة من شهادات وردت في كتاب ألكسيفيتش- لأنّه يسهم في استرجاع لحظة تاريخية مأساوية فشلت كلّ محاولات طمسها حتّى الآن، بحسب رأي الصحافية الروسية المرموقة ماشا جيسن في مقال لها نشر في مجلة "نيويوركر".
في ما يلي، نقدّم ترجمة كاملة لآخر حوارٍ حصريّ مع هذه الكاتبة البيلاروسية العظيمة،
أجري معها قبل فترة وجيزة، وتحدّثت فيه عن تصوّرها الخاصّ للأدب ولوظيفته، وعن التّحقيق الذي أجرته حول كارثة "تشيرنوبيل"، ورأيها في المسلسل الشهير الّذي عرض هذا العام، وعن السّبب في حنين البعض إلى الشيوعية، وشعبية بوتين بين الرّوس حتّى اليوم، فضلاً عن بعض النّصائح الأساسية للصحافيين، وغيرها من المواضيع:

 

تأثير أصوات النساء
(*) قلتِ ذات مرّة إنّ الوقت لم يعد مناسباً للكتابة عن الأبطال، بل لسردِ حكاية الرجل الصغير. كما أنّك كتبتِ أيضاً أن مهمّتك هي سردُ ما لا يحسب له حساب في العادة، أي تاريخ المشاعر والروح الإنسانية. كيف ومتى بدأتِ الكتابة بهذه الطريقة؟
ولدتُ في الريف، ونشأتُ في الريف، ودائماً كان لقصص النساء تأثيرٌ كبير عليّ، وهي قصص بسيطة كنّ يحكينها لي عندما كنتُ طفلة، وكلها تتعلّق بالحرب. لقد قرأتُ العديد من الكتب عن الحرب، لكنّني اعتقدتُ دائماً أنّ قصصهنّ أكثر قوّة، أي كانت تتمتّع بقوّة أكبر من أيّ فيلم أو أيّ كتاب. كنتُ دائماً أنصتُ إلى حكايات وأصوات هؤلاء النّسوة اللّائي تركتهنّ الحرب بلا رجال. وبما أنّني أمضيت طفولتي في الريف، في منازل أجدادي- إذ لديّ جدّة أوكرانية وأخرى بيلاروسية - كان دائماً لأصوات النّساء تأثير كبير عليّ، لأنّها في نظري كانت مثيرة للاهتمام. لقد بدا لي دائماً أنّه ليس من العدل أن لا يعرف أحد قصّة جدّتي الأوكرانية، على سبيل المثال، أن لا يعرف أحد مأساة حياتها، وكيف فقدت زوجها، أو كيف قتلوه، لتتكفّل لوحدها بتربية خمسة أبناء. يبدو من الظّلم أن لا يعرف أحد كيف نجت وكيف روت قصّتها في ما بعد.
عندما تخرّجتُ من كلّية الصحافة في مينسك - وقد عملتُ لاحقاً في إحدى الصحف - سافرتُ كثيراً لأستمع إلى قصص أشخاص بسطاء: لقد أحببتُ دائماً الإنصات إلى قصص الناس العاديين. ثم طرأت لي فكرة، لماذا يجب أن يكون شكل الرواية تقليديّاً، على غرار "الحرب والسلام" مثلاً؟ لقد تغيّر الزمن كثيراً عن السابق، إذاً، لماذا لا يتغيّر شكل الرواية أيضاً؟

كعادتي دائماً، كانت ذاكرتي تحتشد بأصوات هؤلاء الأشخاص الّذين حكوا لي قصصهم منذ الطفولة، فقلتُ لنفسي: لماذا يجب أن أخترع قصّة، أو أبتكر شخصيات؟ لماذا لا يمكن أن يكون هناك أناس حقيقيّون يروون قصصهم؟ لماذا لا أكتب رواية فيها أناسٌ حقيقيّون؟
من جهة أخرى، في ثقافتنا، كان لدينا دائماً تقليد عريق من القصص الإنسانية. وبما أنّ الحرب كانت تحتلّ دائماً مكاناً مهمّاً جدّاً في حياتنا، وما تزال تحتلّ مكانة مركزية في حياة العديد من العائلات، فكّرتُ في أن أكتب كتاباً مختلفاً عن الحرب، يكون كتاباً قاسياً، وفظيعاً، يزرع الخوف في القلوب.


(*) لقد خلقتِ من المحادثة مع هؤلاء الناس الموضوع الرئيس لجنسٍ أدبي جديد. إذا طُلب منك أن تقدّمي نصائح أساسية لصحافيّ أو كاتب يرغب في البحث عن معلومات حسّاسة من مصادر لا تظهر في وسائل الإعلام، بماذا تنصحين؟
أوّلاً، لسماعِ شيءٍ جديد، يجب عليكِ أن تطرحي سؤالاً جديداً، أي يجب أن تتعلّمي كيف تطرحين السؤال بطريقة جديدة. ثانياً، عليك أن تعاملي هذا الشخص كما لو كان صديقاً، لأنّك لا تحاولين أن تحصلي على المعلومات فحسب، بل عليك أن تتحدّثي معه عن الحياة بشكل عام. في كُتبي، على سبيل المثال، لا أقصد أن أسرد الأحداث الّتي وقعت فقط، ولكن خلف هذه الأحداث أشير إلى المصير، وإلى الشّخص، وإلى الثقافة، أي أنّه يوجد هناك سياق عميق. وإذا حضرتِ هذه المقابلة باعتبارك شخصاً صادقاً يرغب في الحديث مع شخص آخر مثير للاهتمام، فأعتقد أنّ هذه المحادثة سوف تسير على ما يرام.
وبالتّالي، فإنّ الفكرة ليست هي القيام بتجميع القصص، لأنّ هناك الملايين من هذه القصص، ولكن عليك أن تبحثي عن نهجٍ مختلف في روايتها. مثلاً، في كتابي الأوّل عن الحرب، قرّرتُ التفكير في كيفية سرده، لأنّني اعتقدت أنّ لا أحد يعرف ما تفكّر فيه النساء بخصوص ما حدث. بمعنى آخر، يحتاج الأمر إلى اتّباع أسلوبٍ جديد وإعادة التّفكير في الحقائق.


(*) عندما كنتِ بصدد تأليف كتاب حول "تشيرنوبيل"، هل اتّخذتِ تدابير حماية خاصة أثناء المقابلات مع الرجال والنساء الّذين كانوا من بين مصادرك؟ هل كنت خائفة من التعرّض للتلوّث؟ هل تعاملتِ معهم باحتراز، من مسافة معينة، أم تورّطتِ بلا خوف؟
لا، لا على الإطلاق، أنا لم أتّخذ تدابير حماية خاصة. مثلاً، لقد سافرت إلى هناك رفقة صحافي ياباني وآخر ألماني، كانا يرغبان في معرفة حقيقة ما جرى. لكن عندما حان موعد الغداء، قام بعض الأشخاص بدعوتنا إلى طاولتهم لتناول الغداء معهم، فقال الصحافيان: "لا، لا شكراً"، ثمّ أخرجا بعض الشّطائر والأباريق وكؤوس البلاستيك وغيرها وانتبذا ركناً بعيداً عن الجميع. لكن لو أنّني فعلت مثلهما، لكان الاتّصال انتهى هنا: لا يمكنكِ أن تطلبي من سيّدة أن تحكي لك "كيف ماتت ابنتها" من دون الجلوس معها على طاولة الطعام لتناول الغداء، إذا قامت بدعوتك لذلك. لستُ متأكّدة من أنّني فعلت ذلك أيضاً، لأنّه كانت لديّ طفلة صغيرة في تلك الفترة. لذلك لا أعرف إذا كنت قد تصرّفتُ بشكلٍ صحيح، عن طريق المخاطرة بنفسي في تلك اللحظة. لكنّني نشأتُ في حضن التقاليد والثّقافة الروسية، ولا أعرف ما إذا كان يمكننا التّعامل مع شخص ما بطريقةٍ أخرى.


عن مسلسل "تشرنوبيل"
(*) هل شاهدتِ مسلسل "تشيرنوبيل"؟ ما رأيك فيه؟ هل انزعجتِ من التغييرات الّتي أُدخلت على القصة الأصلية، وبعض الإضافات والتعديلات على بعض الحقائق؟
لا، لم يزعجني ذلك على الإطلاق: إنّه فيلم، وليس فيلماً وثائقياً، لذا من الواضح أنّ المؤلف كان له الحقّ في إجراء بعض التعديلات. ما أفتقده قليلاً في هذا الفيلم هو الجزء الفلسفيّ، لأنّ الخط الرّئيسي في كتابي، أي تصوّره الفلسفي، كان ذلك الافتقار إلى عدم الاستعداد لكوارث مروّعة من هذا الحجم، ذلك لأنّ قدراتنا التقنية اليوم صارت متفوّقة على صفاتنا الأخلاقية كأشخاص. كانت هناك الكثير من الأكاذيب في تلك الفترة، وكان هناك نقص في المعلومات وقتَ حدوث الانفجار، لكنّ الشيء الأكثر أهميّة هو أنّنا لم نكن مستعدّين لمواجهة الحقائق.


(*) ما رأيك في اختيار فاليري ليغازوف، كبير مستشاري الكرملين، بطلاً للقصة؟
أعتقد أنّ ذلك كان عادلاً تماماً. أظنّ أنّها قصة مأساوية، وأفهم تماماً لماذا تسير هاتان القصّتان

جنباً إلى جنب: قصّة كتابي، وهي قصّة لودميلا، زوجة رجل الإطفاء، وقصّة ليغازوف.


(*) هل تعتقدين أنّ نجاح المسلسل يرتبط، بشكلٍ أو بآخر، بحقيقة أنّ النّاس الآن أكثر وعياً بإمكانية التّدمير الذاتي للإنسانية؟
بالطبع، أنا متأكّدة من أنّ هذا يرجع بعض الشيء إلى الضّمير البيئي الجديد. نحن نعيش وقائعَ نتحمّل مسؤوليتها بأنفسنا: البشر يطلقون شياطين لا نستطيع السيطرة عليها. أتذكّر عندما كنتُ في فوكوشيما (شمالَ شرق محطّة الطاقة النوويّة اليابانية المتضرّرة من حادث نووي وقع سنة 2011). مثلاً، قبل وقوع هذه الكارثة، كان الجميع يقول عن تشيرنوبيل: "هؤلاء الرّوس يعيشون في حالة من الفوضى"، أو "هذا لا يمكن أن يحدث إلّا للرّوس"، ثمّ حدث الأمر نفسه في فوكوشيما باليابان، لأنّه كانت هناك الكثير من الأكاذيب في فوكوشيما أيضاً. نحن لا نعلم شيئاً عن حقيقة ما يرمونه في المحيط هناك وما إذا كان من الممكن السيطرة على ما يفعلونه. لقد شاهدتُ الموقف نفسه الّذي واجهناه سابقاً: أشخاص اضطرّوا للتنقّل من أماكنهم، وأشخاص اضطرّوا إلى مغادرة منازلهم، مثلما حدث في تشيرنوبيل، كما أنّ الأشخاص الّذين كانوا يعملون في المحطّة يعانون اليوم من جميع أنواع الأمراض، وهذه هي الأكاذيب نفسها الّتي مررنا بها، دون أن ننسى أنّ الناس لم يكونوا يتوفّرون على أقلّ قدر ممكن من المعلومات حول ما حدث.




*أجرت الحوار هيندي بوميرانيك. 
ونشر في الموقع الإخباري الإسباني "إنفوبايي" يوم 7 يوليو/ تموز 2019.

 
ترجمه عن الإسبانية: نجيب مبارك.