كيف نجا يان مواكس من "تهمة" معاداة السامية؟

بوعلام رمضاني 7 سبتمبر 2019
تغطيات
يان مواكس وغلاف روايته (أورليان)
لم يعد الأمر يتحمل السكوت على أحدث تراجيكوميديا انتصر بطلها الرئيس على الجميع، وكلمته هي التي توقف كل من يتجرأ على الاستمرار في مناقشة قضية فكرية أو أدبية أو فنية تمس من قريب أو من بعيد تاريخ وطبيعة وهوية مفهوم معاداة السامية من منطلق فرنسي يعاقب عليه القانون ولا يعد حقاً في حرية التعبير.
أيام معدودة بعد الصفح الإعلامي عن فيلسوف مغمور أكد إسلاموفوبيا اعترف بها بلباقة دبلوماسية الكاتب المعروف مارك هالتر، جاءت قضية أدبية في الظاهر وأيديولوجية في العمق لتؤكد نهاية الأدب والفكر في فرنسا بشكل غير مسبوق، رغم أن باسكال بونيفاس قد فضح قبل سنوات سلطة وسطوة من أسماهم المثقفين الإعلاميين المزيفين الذي يصنعون المطر والطقس الجميل على حد تعبير الفرنسيين.
إن الجديد هذه المرة لم يتمثل في بروز اسم برنار هنري ليفي - المفتي الأيديولوجي في كل شيء وعبر كل وسائل الإعلام والذي يفرض رأيه في جمهورية موليير وفولتير للحريات الجماعية والفردية - بل في الضحية المتهمة بمعاداة السامية والتي نجت بسهولة مذهلة من المصير الجهنمي الذي يعرفه كل "وقح وقذر" يتجرأ على فتح ملف قضية تاريخية وفكرية حسمها القانون الذي يجرم المناقشين للهولوكوست والمنتقدين لإسرائيل جهرا ما دام انتقادهم يصب "آليا" في منطق معاداة  السامية في كثير من الأحيان، وذلك ما جاء في كتاب بونيفاس الذي أكد فيه "أنه من الصعب اليوم  انتقاد إسرائيل دون أن نتهم بمعاداة السامية".. وسكت
بونيفاس ولم يكرّر ذلك منذ أن هدد بالقتل في مطار بن غوريون، كما كتبنا في هذا المنبر في مقال سابق.


أصل الحكاية رواية بديعة
خلافاً لقضايا أخرى يعتبرها الكثيرون في العالم الأنجلو ساكسوني وقليلون في فرنسا تجريحاً يتناقض مع حرية التعبير، وخاصة حينما يتعلق بوصف الإسلام بأنه الدين الأكثر حمقا على حد تعبير ميشيل ولبيك أشهر الروائيين حاليا، تحولت رواية "أورليانز" التي صدرت عن دار

غراسييه يوم الرابع عشر من آب/ أغسطس للكاتب يان مواكس، الذي اعتبره جل النقاد أحد أبرز المواهب الروائية، من تحفة أدبية إلى لعنة على الإبداع الروائي إثر تقمصه دور سيلين الصغير، في إشارة إلى فرديناد سيلين الكبير صاحب جوهرة "سفر حتى نهاية الليل" والروائي الفرنسي الأقدر والأكثر موهبة في نظر الروائي الجزائري رشيد بوجدرة، صاحب المسار الإبداعي والفكري والسلوكي المثير للإعجاب والنفور في الوقت نفسه. وعوض مقاربة رواية يان مواكس البالغ من العمر 51 عاما من منظور المعايير النقدية، راح الصحافيون والنقاد وبعض المفكرين الإعلاميين يتبارون ويتسابقون على بلاتوهات واستوديوهات أشهر القنوات الإذاعية والتلفزيونية ليس لمناقشة الإضافة الروائية النوعية للكاتب، الذي لفت أنظار المتخصصين بروايته، لكن للبحث عن الأساليب والصيغ المثلى كمحامين وقضاة وليس كإعلاميين مطالبين بالموضوعية التي يتشدق بها الجميع والتي تعوضها ذاتية ناطقة بمواقف تتجاوز الأيديولوجيات المتناحرة في الداخل الأوروبي وتتقاطع حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن إسرائيل، وتلامس وتعانق الشللية التي أصبحت تضم المؤيدين لها في كل الأحوال والمنتقدين لها كنظام عنصري استعماري عند آخرين يهود وغير يهود ويؤمنون بحقها في الوجود وفي الدفاع عن نفسها ضد  العرب والمسلمين المتطرفين الذين يريدون بحسب ادعائهم رميها في البحر ونسفها من الأرض  بروح نازية حديثة.
الرواية التي أشاد بها كل النقاد في نهاية الشهر الماضي وفي مطلع الشهر الجاري في إطار ما يسمى بـ"الدخول الأدبي" لم يعد اسم صاحبها لحظة كتابة هذه السطور مرادفا للإبداع اللافت والمتميز الذي يجمع بين قوة السرد وخصوصية الموضوع، وأضحى مصدر إحراج وإزعاج

ونفور وتقزز واستياء وحماية  تطلب تغيير مجرى الحدث الأدبي من إبداع كاتب هللت له الأسرة الأدبية إلى محاكمة مكارثية لكن ليس ضد كاتب أو فنان شيوعي كما حدث في بلاد العم سام في عز الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لكن ضد كاتب اتهم بأنه أشاد بمعاداة السامية حينما كان شابا نازيا يبلغ من العمر 21 عاماً.
تحول حديث النقاد عن الرواية البديعة من تناول مهني مفترض داخل الإطار الأدبي الخالص إلى مسلسل تراجيكوميدي ما زالت آثاره وتداعياته تثير اللغط والهرج والمرج في الأوساط الأدبية والفكرية حتى ساعة كتابة هذه السطور. وبلغ المسلسل منعرجا إعلاميا امتزجت من خلاله كافكاوية غير مسبوقة وممزوجة بالمصالح الشخصية والمالية داخل الأسرة الواحدة المسيطرة على المشهد الإعلامي الذي ذاب وتحلل فيه الخلاف التاريخي بين اليسار واليمين. وكاللهيب الذي ينتشر في الهشيم، أحرقت الحرب التي اشتعلت بين الكاتب مواكس وبين شقيقه ألكسندر ووالده كل هامش يسمح بمناقشة المنظور الروائي لكتاب "أورليانز"، وأدت إلى تبادل التهم بين أفراد عائلة عرفت عنفا مارسته كل الأطراف على بعضها البعض إذا استندنا إلى تصريحات يان الكاتب والشقيق ألكسندر والوالد الذي أنكر ممارسته العنف على ابنه الكاتب. وحسب تصريح يان، فإن انتقام شقيقه ألكسندر نتج عن تواطؤ مع والده بتسريبهما إلى مجلة "الإكسبرس" من خلال أصدقاء ينتمون إلى اليمين المتطرف حسب أحد ضيوف إذاعة "أوروبا 1" رسوماته وكتاباته عندما كان شاباً والتي اعترف بها قبل أن ينكر ذلك في برنامج صديقه لوران روكييه "لم ننم بعد". ويان الذي كان حتى وقت غير بعيد أشهر معلق في البرنامج الأشهر والذي يعد سلاح القناة العمومية "فرانس تلفزيون" في وجه القنوات الخاصة، وجد نفسه ضيفا على صديقه القوي بنفوذه وشهرته ودره الربح للقناة العمومية الأمر الذي فرض على صديقه النجم مجاملة تقفز إلى العيون على حد تعبير الفرنسيين أيضا، وكانت هذه المجاملة حسب تحليلنا لرد فعل إدارة ومنتجة برنامج "لم ننم بعد" صفقة فرضها المنشط الشهير على الجميع لكي يغطي ويدافع عن صديقه المتهم بمعاداة السامية خلافا لما يحدث مع آخرين لا يحظون  بحماية تحتمها المصالح كما هي الحال في العلاقات الدولية بين دول قوية تدعي تمثيل الديمقراطية والعدل وتمارس ما يسمى بالسياسة الواقعية أو البراغماتية  مع دول ديكتاتورية وتحكم شعوبها بالحديد والنار.


ليفي المفتي والمنقذ الثاني
لأنه لم يعد من الممكن اليوم في فرنسا تصور ضجة سياسية أو أدبية أو إعلامية دون بروز الفيلسوف برنار هنري ليفي، الذي قال لي عنه ضحيته ديودونيه الممثل الكاميروني الأصل: "إنه وزير ثقافة فرنسا في كل الأوقات"، فإن عدم ظهور وزير ثقافة الرئيس ماكرون منذ انفجار المسلسل التراجيكوميدي لا يمكن إلا أن يؤكد صحة قول هذا الممثل الكبير الأكثر موهبة بعد بيار دوكروب وكولوش حسب الكثير من المتخصصين. وخلافا لديودونيه المتهم هو الآخر بمعاداة السامية والذي استمر في تحدي برنار هنري ليفي رغم كل أنواع التعتيم والتهميش

والمطاردة، فإن الكاتب يان مواكس لم يكن أمامه غير خيار الاعتذار لليهود وللإنسانية ولبرنار هنري ليفي الذي قبل اعتذاره وصفح عنه ما دام قد أبدى توبة صادقة عن ماضيه النازي على حد تعبيره، وحينما يفتي ليفي في مثل هذه الحالات لا يمكن أن يطعن أحد في فتواه، ويمكن فعل ذلك بعيدا عن الأنظار والجدران التي يمكن أن تتنصت في الكثير من الأماكن. وهكذا نجا يان مواكس من المطاردة الإعلامية والسياسية التي قضت على ديودونيه، وعلى المفكر طارق رمضان.
ولم يوقف مواكس حملته الإعلامية لروايته إلا بعد أن نصح بنسيان حلمه بالحصول على إحدى الجوائز الأدبية التي سيعلن عن مرشحيها قريبا، وخاصة بعد أن صرح برنار بيفو، النجم الآخر والناقد الأدبي الشهير وعضو الأكاديمية الفرنسية، عن عدم إدراج رواية "أورليانز" في قائمة المرشحين لجائزة "غونكور".