رواية "العميل على أرض المعارك".. للجاسوس العجوز جون لوكارِّيه

ميخائيل لوبيموف 24 يناير 2020
ترجمات
لو كاريه (ديفيد كورنويل) في أوكسفورد/ إبكلترا (24/3/2010/Getty)
ما إن صدرت رواية الكاتب والجاسوس البريطاني، جون لو كاريه "العميل، الراكض في الفلاة"، حتى أثارت اهتمام الإعلام في الغرب. قبل ذلك، كان أوّل المهتمين برواية الكاتب البريطاني ذي الإنتاج الغزير، "الجاسوس الآتي من البرْد"، أحد معارفه الشخصيين، الجاسوس والكاتب الروسي ميخائيل لوبيموف(*).
عمريّاً، تجاوز الكاتب البريطاني جون لو كاريه ليف تولستوي. وفي عمر الثامنة والثمانين، أصدر روايته التالية. ولكن في واقع الأمر، كانت مرحلة طفولته وصباه مختلفتة جداً عن طفولة وصبا تولستوي: فقد كانت سنوات ديفيد كورنويل (وهذا اسمه الحقيقي) هذه مشوبةً بكثير من التراجيديا، إذ تركته أمّه ولمّا يبلغ الخامسة من عمره لتعيش مع زوجٍ آخر، وفي الوقت نفسه كان والد الكاتب نصّاباً كبيراً (الأمر الذي لم يحلْ دون وصوله البرلمان البريطاني)، ودخل السجن غير مرّة، وخضع لمحاكمات عدّة، وكان في الحياة يتصرّف بجنون. ورغم ذلك، أنهى الابن مدرسة خاصّة في (إيتون)(**)، جنّة ملوك بريطانيا ورؤساء الوزراء وكبار رجال الدولة، ومن ثمّ التحق بجامعةٍ سويسرية في مدينة بيرن. وهناك نزلت بالفتى محنة جديدة، إذ تمكنت الاستخبارات البريطانية من تجنيده لصالحها، وكلّفته بمهمة الإخبار عن الطلبة ذوي الميول الشيوعية (تحدث لو كاريه بشكلٍ رائع حول هذا الموضوع في روايته الذاتية "الجاسوس المثالي"). تولّى الجاسوس المهام ذاتها في جامعة أكسفورد، وحتى أنّه انتسب إلى نادي أكسفورد الشيوعي. من المحتمل أن تكون كلّ هذه الحركات المتقلبة والمضرّة بالروح قد خلقت في نفسه شعوراً منفراً، وأحياناً، شعوراً بالقرف من جميع وكالات الاستخبارات. كانت السنة التي قضاها في العمل بكامل الوقت في مقر الاستخبارات المضادة МI-5، والسنوات الخمس التي أمضاها مع الاستخبارات البريطانية МI-6 في برلين، ساهمت فقط في تعزيز رغبته الجارفة في أن يتخلّص من ارتباطه بالاستخبارات ويصبح كاتباً. حملت له روايته الثالثة "الجاسوس القادم من البرد" نجاحاً باهراً مكّنه من الانعتاق من مخالب الخدمة الحكومية، والانطلاق إلى فضاء الحرية وامتلاك الإرادة. منذ ذلك الحين، تتالت رواياته غزيرةً، فصدرت مجموعته "روايات الجاسوسية" الواحدة تلو الأُخرى. في حقيقة الأمر، ومن وجهة نظري الخاصّة، كانت القصص الجاسوسية، بكلّ ما فيها من تفاصيل صغيرة، تُمَوَّه بنجاحٍ بتحليلات سيكولوجية مترافقة مع ألاعيب القدر، وبروعة وحلاوة الأسلوب، وبشخصيات غير عادية البتة، مما جعل رواياته تحمل، أحياناً، صبغة روايات التحقيقات البوليسية، على غرار "الجريمة
والعقاب" لفيدور دوستويفسكي. بالطبع، كانت روايات كاريه في مرحلة الحرب الباردة تنتهي بانتصار الجاسوس الإنكليزي "جورج سمايلي"(***) على خصمه الجاسوس السوفييتي الشرير"كارلا"(***)!- فأيّة قيمةٍ تحملها رواية جاسوسية بدون بطلٍ منتصر؟! وإن كان لدى الغرب "جيمس بوند وسمايلي"(***)، فإنّ لدى الروس "شتيرليتس"(***) الطيب!
من دون أيّة مبالغة، يمكن تسمية لو كاريه بـ"عندليب الحرب الباردة"، فقد بدا وكأنّ شخصياته البسيطة قد اكتسبت، بفضل قلمه، ملامح إنسانية طبيعية، في حين، وبفضل المسحة الإنسانية والإيمان بالشخصية، حظيت أعماله بشعبية عريضة في جميع أرجاء العالم.
عُدَّت روايته "العميل، الراكض في الحقل" مهمةً بطريقتها الخاصّة. ففي هذه الرواية، يلعب "نيت"، العميل في المخابرات البريطاني، وابن حارس اسكتلندي مهاجرٍ من البيض الروس (خصوم البلاشفة - المترجم) تنس الريشة بانتظامٍ مع المدعو "إدّ"، وفي الوقت نفسه يقوم بدراسة إمكانية جرّه إلى التعاون معه. كانت زوجة "نيت"، وهي امرأة ساحرة ويسارية ناشطة في مجال حقوق الإنسان، تتمتّع بتأثيرٍ كبير على زوجها الذي لا يولي المبادئ الأخلاقية أيّ اهتمام.
تظهر الرواية أنشطة الاستخبارات البريطانية، في صورة لا تسرّ أبداً: فهي مؤامرات بلا معنى، أسماء مستعارة، أماكن لقاءات وكلمات مرور سريّة، مضارب تنسٍ بمقابض جوفاء لإخفاء قصاصات ورقية (وبكلّ جديّة لعبة أطفال مسلية). لا تولي الرواية أهمية للأسرار (القيّمة) التي تبذل كلّ هذه الجهود المضنية والمعقدة في سبيل الحفاظ عليها، ونستحضر مرغمين كلام سومرست موم "يكمن المعنى من وجود أجهزة الاستخبارات السريّة في سريَّتها".
ولنلاحظ أنّ جهاز الاستخبارات السري خرج من عتمة العمل السري، مع أنني أتذكر في تلك الأيام، التي لم يكن هذا الجهاز رسمياً بعد، عندما كان سائقو الحافلات يصرخون عند بوابة عرين الاستخبارات الواقع في شارع برودواي: "هنا يعمل الجواسيس البريطانيون!".
أظهر "نيت" الاستخبارات البريطانية وكأنّها تعتمد على العملاء الروس، وعلى ضباط الـ"كي. جي.بي" المنشقين الذين كانوا تواقين للمطر الذهبي، وعلى رجال الأعمال الروس الذين نهبوا
أموالاً طائلة أثناء حملة الخصخصة التي قادها "تشوبايس" في الاتحاد السوفييتي، والذين تمكنوا بعدها من الإفلات من الطوق السوفييتي.. إنّهم غير وسيمين إطلاقاً. وفي وقتٍ ما، "زار" الكاتب موسكو، وحاول توجيه اللصّ الثريّ "ديمو" إلى مسار الأعمال الخيرية. في حينها، ردّ اللصّ عليه بإشارة بذيئة من يده! غُرزتْ هذه الإشارة الشريرة في روح الكاتب، بحيث أصبحت تتجول عبر قصصه بأشكالٍ مختلفة. (تذكروا أنّ خالد الذكر، إيغور غايدار، أقنعنا أنّ الروس الجدد، مثلهم مثل قطاع الطرق في الغرب الأميركي المتوحش، سيتحولون تدريجياً إلى أناس راقين على غرار مورغان وآل روكفلر؟ هي السيمفونية ذاتها!).
يفهم "لو كاريه" قرّاءه بشكلٍ رائع، فيجعلهم ينغمسون في شتى أنواع الأذواق، فهو مسوِّق لا يُخطئ، وبالتالي فإنّ موضوع "صراع بوتين مع الغرب الليبرالي" يمرّ بشكلٍ رائع عبر
الكتاب. بالطبع، "إد" هو الموضوع الذي يعمل "نيت"، "الجاسوس الروسي" على إعداده، إذ لا يستوي الأمر بدون جاسوس روسيّ! وهو (إدّ). في الوقت نفسه، يتعاون مع الاستخبارات البريطانية المضادة، التي يصفها الجاسوس "نيت" بجملة فرنسية مسمومة «chers collegues» "زملائي الأعزاء" (مع زوجته يفضل استخدام لفظة مهينة "القوارض"). القارئ الذي أصبح محتاراً بالفعل، يتوقع شريراً جديداً مثل "كارلا، أو سوليسبري، أو حتى بشيروف، أو بتروف"، إلا أنّ القصة تأخذ منعطفاً غير متوقع إطلاقاً. يتضح أنّ لاعب تنس الريشة والجاسوس الروسي "إد" نقل إلى رؤسائه في موسكو مخطط الاستخبارات البريطانية الجهنمي الذي يحمل رمز "أريحا"، الذي يهدف إلى تفكيك الاتحاد الأوربي، وتعزيز عمليات الـ"بريكست". هذا الخروج يكرهه الجاسوس "نيت" بكل جوارح روحه الجاسوسية، ويسميه تحديداً "جِماعاً عنقودياً"، بما يشابه ما كتبه ألكسندر بوشكين لرئيس الرقابة: "اعذرني يا (شيشكوف)، لا أعرف كيف أترجم عبارة "«х...ня»- شتيمة روسية بذيئة - المترجم). لماذا تحتاج بريطانيا هذا البريكست؟ وهنا يتبيّن أنّ من يقف خلف عملية تسليم هذا المخطط إلى "أعداء الديمقراطية - البوتينيين" هو رفيق لعبة تنس الريشة، الذي أصبح تقريباً صديقه. يريد الإنكليز القبض عليهم، ووضعهم في السجن! آه يا الهي! لن يحصل هذا الأمر أبداً. وبرفقة زوجته المحبّة يقوم بعملٍ لا يصدقه وطني  في بريطانيا العظمى والخادم الأمين لجلالة الملكة.....
حقاً، لقد ارتقى جون لا كاريه فوق نرجسية الأخلاق البرجوازية، وظلّ وفياً لمثُل الخير والعدل، على هذا يستحق الشكر.

هوامش:
(*) ميخائيل لوبيموف- جاسوس سوفييتي متقاعد برتبة عقيد. كاتب روايات جاسوسية.
(**)(إيتون Eton College)- مدرسة داخلية مستقلة للذكور (13-18 سنة). أسسها عام 1440 الملك هنري السادس. توأم كينح كوليج في أكسفورد. يبلغ قسطها السنوي أكثر من 43 ألف جنيه. الاستيعاب: 1313 تلميذا عام 1919.
(**) جيمس بوند وسمايلي- أشهر جواسيس الاستخبارات البريطانية.
(***) ("كارلا")، "شتيرليتس"- من أشهر الجواسيس السوفييت.

اسم المقالة الأصليАгент – в поле воин/ العميلٌ في أرض المعارك.

عن صحيفة: ليتيراتورنايا غازيتا.

رابط المقالة: https://lgz.ru/article/-1-6720-15-01-2020/agent-v-pole-voin/

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.