غوته في حركةٍ أبدية.. عن الشعر الذي يصبح حقيقة
متبدلاً، محافظاً على ذاتي،
هناك وهنا، وهنا وهناك
ولدهشتكم
أظهر بهيئاتٍ جديدة
لنتذكر أنّ نصوص غوته الشعرية تحمل، دائماً، معاني مزدوجة، حتى عندما تُقرأ بلغتها
الأصلية. بقراءتنا الأسطر السابقة، يتكشف أحد جوانب رؤية الشاعر: قدرته على الاندهاش وامتلاكه بصيرة مذهلة لفنّ حسيٍّ - ساذج، شبه طفوليٍّ، قدّرها غوته عالياً، ليعززها بحكمته المعروفة في كثير من الحوارات: "المشاعر لا تخدع أبداً، بل الأحكام هي التي تخدع". إذا نظرنا بتمعنٍ إلى العالم من حولنا، فإننا سنكون قادرين حسيّاً على معرفة أسراره وألغازه، وسنتمكن عبر انعكاس الحكمة من رؤية كلّ ما هو مثاليّ، مطلق، وإلهيّ، لأنّ الخالق يتحدث إلى الأشخاص رمزاً أو كنايةً فقط. من هذه الأفكار، ستظهر مع مرور الوقت عند الشاعر مفاهيم حول تحوّل النباتات وصورها العليا. ففي حديقة النباتات (باداويه)، ستخطر على بال غوته فكرة تحول النباتات، التي سيصوغها لاحقاً بشاعريةٍ، ويبدأ بتطبيقها فعلياً لينشئ "الشعر والحقيقة" - أي سيرته الذاتية -، حيث سيولي فيها كثير من الاهتمام بالمعنى الرمزي لمسألة النمو والكشف الذاتي للشخصية بصفتها نوعاً فريداً من النباتات. الظاهرة النقية، الظاهرة الثقافية المميِّزة - هي مثل عليا، حقيقية مشابهةٌ لأحداث أرضية -. وهذه درجة أُخرى من درجات ارتقاء غوته سلّم لغز الإنسان. يعتبر غوته نفسه ذاتها لغزاً، فتارةً يشعر بسلطة الشيطان عليه، وتارةً يفكر بطبيعة إدراك العبقري، الذي يَخلُق جامعاً بين الوعي واللاوعي، على غرار ما يفعله النسّاج عندما ينسج بالتناوب خيوط السِّداء واللِحمة، ليشكّل بدّف نوله نقشاتٍ متنوعة. إنّه نموذجٌ عبقريّ شاعريّ سبق كثيراً من نظريات القرن العشرين في التحليل النفسي! أعطت هذه الأفكار غوته مبرراً ليعتبر نفسه أيضاً "بشكل رمزيًّ"، منتقياً الحقائق لـ"الشعر والحقيقة"، و"محوِّلاً تجربته إلى مَثَل، ونموذج" يُقتدى. كان هذا صحيحاً، إذا جاز التعبير، في "الاتجاه المعاكس"، في مجرى طقوس الحياة، عندما تكون الحياة نفسها خاضعةً لمهام فنية - أدبية محدّدة: يستحق أن نتذكّر - ليس فقط - ارتقاءه قمّة جبل "Brocken"، أو لقاءه بنظيره، بل وأن نتذكّر أيضاً تاريخ تأليف رواية "آلام فارتر".
بحسب ذكريات أصدقائه، كان الشاعر دوماً مختلفاً، فقد كانت أيقونته الواسعة تحتوي أكثر من مئة صورة - منتشرة في كلّ مكان -، كما لو أنّه كان بروتيوس "Proteus"(****) من الأسطورة الإغريقية. يغيّر مظهره، ليس بما يتناسب وسنِّه فقط، بقدر ما يتناسب مع المضمون الداخلي، ومع وجهة نظر الفنان. من الممكن افتراض أنّ أسلوب حياة غوته كلّه متوافق مع حكمة "ألكسي لوسيف"(*****)، الذي يقتبس من حضارات العصور القديمة القول: "أيّ شخص حيّ هو، بشكلٍ أو آخر، أسطورة". أمّا غوته، فيصبح: بالنسبة للمعاصرين أسطورةً شاعرية حيّة حقيقية، بالنسبة للأجيال القادمة نموذجاً يحتذى، وبالنسبة للتاريخ خارج زمنه. وبإدراك غوته انّه يكتب "من وجهة نظر الأبدية"، لذا يطلق على سيرته الذاتية تسمية "الشعر والحقيقة"، حيث تجعل الكلمات المكتوبة بهذا الترتيب من الممكن الاعتقاد بأنّ الشعر يعيد تشكيل الحقيقة.
في ما يتعلق بـ"الشعر والحقيقة"، فإنّنا نرى أمامنا ليس فقط صورة الشاعر المثالي، النموذج الأصلي للشاعر، بل وأيضاً النموذج الحقيقي للشخصية الإبداعية ككل: لأنّ نص السيرة الذاتية
بالمعنى النوعي يتجاوز القانون التقليدي - فهنا نجد الحكايات الخرافية، وهنا أيضاً وقائع الحياة الأدبية والسياسية في ألمانيا، ونشاهد تعليقات شخصية على حواشي مؤلفاته (ما بعد الحداثة الخالصة!).
على الرغم من تعرّض صورة غوته للتشويه، على غرار ما حدث لبقية الأساطير، فإنّ أسطورته لم تترك كثيرين ينعمون بالهدوء، وصولاً إلى نهاية القرن العشرين (ألمانيا - ما بعد الحرب – تقيم أكبر احتفال بمناسبة المئوية الثانية لمولده).
أهمّ ما يمكن استشفافه، لا يقتصر فقط على سعي الشاعر إلى إيجاد في كلّ الظواهر علاقةً حيّة روحية مرتبطة بحياة روح الإنسان، بل وأيضاً في تأكيد خلود هذه الروح النشطة على الأرض، التي عنت بالنتيجة نهايةً متفائلة لمأساة فاوست، وأخيراً، يمكن أن تكون درساً قد ينفعنا في القرن الواحد والعشرين.
في عام 1831، كتب غوته لصديقه، الموسيقار البرلينيّ (زيلتر/ Zelter) عن الجزء الثاني من كتابه "Faust/ فاوست"، قائلاً:
".. ألقيت بمهارةٍ، عامداً، رداءً على كلّ ما كتبته بحيث يكتشف كلُّ جيلٍ في هذه النصوص شيئاً ما جديداً". من هنا يأتي النداء لقراءة هذا الكاتب الكلاسيكي بعنايةٍ وانبهار، ومن هنا أيضاً تأتي الحقيقة الواضحة: صورة غوته/ Goethe ، كالكريستالٍ الثمين، يراه كلُّ جيلٍ من زاويته ليسلط الضوء على أسرار عالمنا الروحي، حيث تصبح الأساطير حقيقة.
هوامش:
ــ نيكولاي كارامزين (1766 - 1826): المؤرخ والكاتب الروسي الكبير في مرحلة الشاعرية. عمل كثيراً على إصلاح اللغة الروسية. أشهر كتبه: "ليزا المسكينة"، و"رسائل رحالة روسي".
ــ فاسيلي جوكوفسكي (1783 - 1852): شاعر ومترجم وناقد أدبي.
ــ كريستيان هاينه Christian Johann Heinrich Heine, (1797 - 1856): شاعر وناقد وكاتب ساخر ألماني من عصر الرومانسية المتأخرة. منظِّر حركة "ألمانيا الفتية". أحد أقارب كارل ماركس البعيدين. من مؤلفاته: "كتاب الشعر"، "بحر الشمال"، "رومانسييرو"، "ألمانيا. قصة شتوية".
ــ الأميرة فولكونسكايا (1804 - 1863): ابنة أحد كبار القادة العسكريين. تزوجت أحد "الديكابريين". قضت مدة 30 عاماً في المنفى/ سيبريا.
ــ الأخوين كيريفسكي (إيفان وبيتر): فيلسوفان، ناقدان أدبيان وناشران.
ــ ويليام تيكّر (1811 - 1863): روائي ساخر. من أشهر مؤلفاته: "معرض الغرور"، "روزا والخاتم".
ــ حركة "ألمانيا الفتيّة": حركة أدبية - سياسية ألمانية ذات توجّه واقعي في القرن التاسع عشر.
ــ «individuum»/ اللاتينية: شخصية واحدة لا يمكن تقسيمها.
ــ ج. أولبّورت": Gordon Willard Allport (1897 - 1967): عالم نفس أميركي، مؤلف نظرية ملامح الشخصية.
ــ ماسلو: Abraham Maslow (1908 - 1970): عالم نفس أميركي، مؤسس علم النفس الإنسانيّ. عرف بشكلٍ واسع من خلال نظريته المشهورة "هرم ماسلو"، الذي يمثل هرم الاحتياجات البشرية. ولاقى نموذجه استعمالاً واسعاً في الاقتصاد.
ــ يوري لوتمان (1922 - 1993): عالم آداب فنية، وعالم أنظمة الإشارات المستخدمة في التواصل الاجتماعي.
ــ بروتيوس Proteus: في الأساطير الإغريقية هو إله البحر (ابن الإله بوسيدون والآلهة هيرا)، اعتقد أنه يمتلك القدرة على التنبؤ والرؤيا، وله القدرة على الظهور بأشكالٍ مختلفة.
ــ ألكسي لوسيف (1893 - 1988): فيلسوف وعالم آثار يونانية ورومانية، ومترجم.
عنوان المقالة الأصلي: Вечное движение Гёте/ غوته في حركة أبدية.
صحيفة: ليتراتورنايا غازيتا.
رابط المقالة: https://lgz.ru/article/-49-6716-04-12-2019/vechnoe-dvizhenie-gyete/
ترجمها عن الروسية: سمير رمان.