ردود الفعل غير العقلانية القاسم المشترك بين جميع الأوبئة

كاترين فنسون 23 مارس 2020
ترجمات
لوحة طاعون أثينا، بريشة فرنسوا بيرييه (1640)
من الطاعون إلى فيروس كورونا مروراً بالكوليرا، طالما أثارت الأوبئة موجات من الذعر الجماعي. فما هي الملامح المشتركة بين هذه الأمراض؟ كيف تطورت الأوبئة مع تطور العقليات، ومع التقدم الطبي؟
في أواخر فبراير/شباط الماضي، أجرت صحيفة "لوموند" الفرنسية اليومية هذا الحوار مع آن ماري مولين الطبيبة والفيلسوفة، للتعرف على الأوبئة عبر العصور.
آن ماري مولين Anne ­Marie Moulin  هي طبيبة وفيلسوفة؛ متخصصة في الأمراض المدارية ومديرة البحث في مركز CNRS  للأبحاث. صدر لها بالفرنسية من قبل كتاب "طبيب الأمير... رحلة عبر الثقافات" Le Médecin du prince. Voyage à travers les cultures )Odile Jacob, 2010).



(*) بمجرد الإعلان عن وجود حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد في فرنسا، بدأنا نطالع ردود أفعال عنصرية ضد الجالية الآسيوية. كيف يمكننا فهم هذه السلوكيات العنيفة وغير العقلانية؟
ـ بسبب عدم القدرة على مهاجمة الفيروس مباشرة، تنجذب الأنظار إلى مَنْ يمكن اعتبارهم "الحاملين المحتملين": يصبح الأشخاص ذوو الملامح الآسيوية هدفاً مناسباً، يسمح بتركيز الخوف عليه. إن ردود الأفعال غير العقلانية هذه هي القاسم المشترك بين جميع الأوبئة. في الماضي لاحظنا هذا مع ظهور "طاعون أثينا" «peste d’Athènes»، وهو أقدم أنواع الأوبئة التي يمكننا العثور على بعض المعلومات عنها.

(*) ما الذي تُعلمنا إياه هذه الحلقة من التاريخ القديم، عن مخاوفنا الجماعية؟
ـ ظهر هذا الوباء على موجات في الفترة من 430- 426 قبل الميلاد. لا أحد يعرف ماذا كان العامل المُسبب للمرض، لكن ما يبدو إلى حد ما مؤكداً، مُقارنة بالأعراض الموصوفة، أن المرض لم يكن نتيجة لنشاط البكتيريا العصوية المعروفة باسم Yersinia pestis – وصفها كل من اليونانيين والرومان باسم الطاعون «peste».

حكى المؤرخ "ثوسيديس"  (460-397 قبل الميلاد) بشكل جيد عن رد فعل مجتمع أثينا آنذاك في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ حرب بيلوبونيز"- Histoire de la guerre du Péloponnèse. حصد الموت أرواح الآلاف، وينقل المؤرخ ما حدث من "اضطراب أخلاقي متصاعد". توقف الأطباء عن معالجة المرضى، الحكام أضربوا عن الحكم، أنكر المواطنون روابط الصداقة والتعاضد فيما بينهم، الآلهة لم تعد محل احترام، وحتى عملية دفن الموتى كانت تتم كيفما اتفق... سنشهد هذا السلوك اللامعياري، حسب تعبير دوركهايم، والذي يعني سلوك غياب القانون، بعد ذلك في الأوبئة اللاحقة.     

(*) في كتاب "الخوف في الغرب"- «La Peur en Occident» - يرسم المؤرخ جان ديلمو مشهداً للعزل الصحي لمدينة حاصرها المرض، وأصبحت "مهجورة وصامتة بشكل غير مألوف"، أثناء حقبة الطاعون الأسود، الذي قتل من 30% إلى 50% من سكان أوروبا في الخمسة أعوام بين (1347-1352)، أي حوالي 25 مليون شخص... موقف مشابه لما عاشه سكان مدينة ووهان الصينية، التي بدأ منها وباء كورونا... أليس كذلك؟



ـ نعم، والفارق بين الماضي والحقبة التي نحيا فيها، أنه لم تعد المدن فقط هي التي تُعزل صحياً، لكن أحياناً البلد بأكملها. في هذه الحالة تُصبح البلد عرضة لأزمة اقتصادية، تُضاف إلى أزمتها الصحية. هذا ما حدث في الهند عام 1994، في سبتمبر/أيلول، في سورت، المدينة الصناعية التي تقع شمالي بومباي وكان يسكنها حوالي مليوني شخص، معظمهم من المهاجرين القادمين للعمل في مناجم الماس والأحجار الكريمة.

كان الوباء عبارة عن نوع من الطاعون يُصيب الرئة، لم يتمكن أحد من تصنيفه، لكنه عُرف على هذا النحو. بسبب الفزع، فرّ العشرات من الآلاف عائدين إلى بلدانهم. تفرقوا في كافة أنحاء البلاد، وهو ما جعل السلطات تخشى من انتشار البكتيريا العصوية المُسببة للطاعون. بعد عدة أسابيع، وبفضل اتخاذ إجراءات ناجعة للوقاية وللعلاج، تم التحكم في الوباء. لكن في الأثناء، لم تكن الجهود التي اتخذتها السلطات الهندية كافية للمجتمع الدولي، الذي أبدى قسوة لا تُصدق إزاء الأزمة. تصرفت كل بلد، على نحو منفرد، بهدف حماية حدودها. قررت الإمارات العربية المتحدة تعليق كل الصادرات الزراعية القادمة من الهند؛ إجراءات أخرى تم اتخاذها في المطارات الغربية لتحديد البضائع، والأشخاص، والعائلات الذين وجدوا أنفسهم أمام ظروف مُخيفة، وحتى المواد الغذائية تعرضت للفساد... وقعت كارثة إنسانية وبالمثل اقتصادية. في المجمل، تلك التصرفات المبالغ فيها كلفت الهند حوالي 600 مليون دولار، برغم أن طاعون سورت أصاب أقل من ألف شخص، وسبب أقل من 60 حالة وفاة.    

 (*) يترافق مع تصاعد المخاوف الجماعية من الوباء، فكرة البحث عن مذنبين. كيف تطورت فكرة "كبش الفداء" هذه مع الوقت؟
ـ كبش الفداء هي فكرة متكررة بالفعل. في الأزمات الكبرى، يصبح اتهام الآخر هو رد الفعل الأول. "تسمية المذنبين هي في الواقع عملية تستهدف إعادة ما لا يمكن تفسيره إلى نطاق المٌفسّر"- هكذا كتب جان ديلمو، مميزاً بين القلق والخوف، ومعتبراً أن الأول يصعب احتماله، لأنه يتوجه إلى المجهول، بينما للخوف موضوع محدد يمكننا مواجهته. من أجل التحكم في الانفعالات الجماعية، يتم تعيين هدف يسمح بتحويل القلق إلى خوف. وهذا هو دور كبش الفداء. خلال الأربعة قرون بين 1348 إلى 1720، وهي الفترة التي شهدت ظهور الكوليرا بشكل متواصل في أوروبا، بقي هؤلاء المُتهمون هم أنفسهم بصورة حساسة؛ كانوا من الأجانب، والمهمشين، والمتشردين. وكذلك من اليهود: فقد قتلوا المسيح، وكان من السهل الوصول إليهم بصفتهم يعيشون في غيتوات مغلقة، لقد مثلوا هدفاً مثالياً. وبالمثل أشارت أصابع الاتهام إلى الدول المجاورة، بالأخص تلك التي كانت في حالة حرب. حين تم التعرف على مرض الزهري، في أوروبا عصر النهضة، كانت له أسماء مختلفة حسب كل بلد، بالنسبة للإيطاليين هو "مرض الفرنسيين"، وبالنسبة للفرنسيين إنه "مرض نابولي"...

غلاف كتاب "طبيب الأمير... رحلة عبر الثقافات"  2010


















(*) بسبب قصور التفسير الطبي، ارتبطت الأوبئة لزمن طويل بالغضب الإلهي. الاعتقاد الذي لم تتوقف الكنيسة عن استغلاله خصوصاً في العصور الوسطى، وسّيرت بسببه مواكب ضخمة من المُنشدين، مثلت هي نفسها مصدراً للإصابة والعدوى أحياناً. هل تراجعت هذه الفكرة؟
ـ نعم ولا. يمكن لتقديم المعلومات العلمية المُفسرة لمرض ما، أن تبدو كمسألة مُطمئِنة. في الوقت نفسه، عندما تمكنا من ملاحظة البكتيريا العصوية المُسببة للطاعون بالميكروسكوب، عرفنا أنها نوع من البكتيريا، أنها تتواجد خارجنا، وعلى المستوى النظري يكفي اتباع إجراءات الصحة العامة لكي نُحصن أنفسنا منها. لكن مع الفيروسات، القلق أكبر بكثير. فهو عالم اكتشفناه حديثاً، يمكن رؤيته فقط عن طريق المجهر، إنه أكثر خبثاً من البكتيريا لأن الفيروس يحتاج إلى استخدام خلايا أجسادنا كي يتكاثر. لذلك فتعريفه العلمي يبدو مُقلقاً، الفيروس يسكننا، وقد يبقى صامتاً حتى النهاية بصورة خبيثة. "الحامل السليم" هو الاسم الذي نستخدمه لوصف هذه الحالة. وقد يحدث الأمر نفسه في حالة العدوى البكتيرية، كما عرفنا من حالة "ماري تيفوئيد" Mary Typhoïde التي أثارت ذعراً كبيراً في نهاية القرن التاسع عشر.

(*) ماري تيفوئيد؟
ـ هذا ليس اسمها الحقيقي. تُدعى ماري مالون  Mary Mallon 1869-1938، وقد سُميت بماري تيفوئيد لأنها اعتُبرت أول حامل سليم لحمى التيفوئيد، وكان العامل المسبب للعدوى معروفاً آنذاك. اشتغلت الطباخة الإيرلندية في الولايات المتحدة، وقد نقلت التيفوئيد إلى كل العائلات التي عملت لديها دون أن تُصاب هي نفسها أبداً. نقلت العدوى لأكثر من خمسين شخصاً، توفي من بينهم ثلاثة. في النهاية اكتٌشفوا أنها تحمل السلامونيلا المسؤولة عن المرض، دون أن تعلم. تحفظت سلطات الصحة العامة عليها في أحد المشافي، وتوفيت هناك إثر الالتهاب الرئوي بعمر 69 عاماً. مُعدية، وليست مريضة؛ حقيقة بثت الذعر، ولم يكن هناك من حل لتفادي الخطر سوى عزلها.

(*) تُعتبر إنفلونزا سنة 1918 من أخطر أوبئة العصور الحديثة، وقد عُرفت بـ"الإنفلونزا الإسبانية". ظلت تنتشر في العالم أجمع حتى العام 1919، وهناك تقديرات تقول إن الوفيات تراوحت بين الخمسين مليون إلى مئة المليون وفاة، وهذا رقم أضخم مما خلفته الحرب العالمية الأولى. كيف كانت ردود الأفعال إزاء هذه الفاجعة؟
ـ مقارنة بخطورته، يبدو غريباً أن هذا الوباء لم يؤدِ إلى إثارة رعب حقيقي، والكلام هنا يخص أوروبا. كانت الحرب تهيمن على تفكير الناس. سُميت الإنفلونزا الإسبانية بهذا الاسم، لأن إسبانيا التي لم تشارك في الحرب، كانت أول دولة تنشر المعلومات بحرية حول الموضوع، ويمكننا بشكل ما اعتبار هذا الوباء "الوباء المنسي".

الإنفلونزا الإسبانية 1918 


















في كتابه غير المُترجم The Pandemic Century. One Hundred Years of Panic, Hysteria and Hubris [W.W. Norton & Co, 2019, non traduit], يؤكد المؤرخ البريطاني مارك هونجيسباوم Mark Honigsbaum على انعدام الخوف والمزاج الرواقي لدى المواطنين الإنكليز، بعد أن ملأت الصحف الموالية للسلطة نفوسهم بالكراهية ضد الألمان. يتحدث المؤرخ عن صلابتهم، وشبه بلادتهم إزاء الوباء، ثم عن نسيان العدد الكبير للضحايا. بمعنى أن الخوف الجماعي بقي تحت السطح ولم يُعبر عنه. في عام 2009 عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن إنفلونزا الطيور قد يصبح وباء عالمياً، أعادت بذلك إحياء ذكرى الإنفلونزا الإسبانية. شاع اضطراب أكبر من الذي حدث في الماضي، لأن الفيروس كان ينتقل عن طريق العصافير، والحيوانات التي كان من الصعب احتواء حركتها بين الحدود... كنا في هذه الحقبة نأمل أن نتخلص سريعاً من معظم الأمراض المُعدية، على الرغم من أن وباء الإيدز قد أثبت لنا في الثمانينيات أن هذا الحلم غير قابل للتحقق.

ووهان الصينية حيث بدأ الوباء 
















(*) المعلومات التي تبثها وسائل التواصل الاجتماعي عن فيروس كورونا على مدار الساعة، هل تُضخم القلق؟
ـ بكل تأكيد. والأسئلة التي من المستحيل الإجابة عليها مثل ما هو عدد الوفيات التي سيُسببها؟ وهل من المحتمل أن يتحور قريباً؟ لن تؤدي سوى إلى تغذية القلق.

من هذا المنظور، يبدو من الصادم معرفة أن ميرس MERS، وهو فيروس من سلالة كورونا يُسبب أعراضاً مرضية حادة، ظهر في شبه الجزيرة العربية عام 2012، ما زال يُخلف ضحايا دون أن يتحدث أحد عن الأمر. لا تبدو الإمارات العربية المتحدة مرتعبة من المرض برغم تعداد سكانها الذي يزيد عن التسعة ملايين نسمة. أما الصين، فهي أمر آخر. وبمساحتها الكبيرة، وديموغرافيتها، وقوتها الاقتصادية، ونظامها الديكتاتوري، فهي تثير الذعر حقاً. وهذا أيضاً من عوامل شهرة فيروس كورونا المُستجد.

ترجمة عن الفرنسية: أريج جمال.

كلمات مفتاحية

الصين الأنظمة الشمولية اليهود علم الاجتماع العصور الوسطى الإنتاج المعرفي الأنتروبولوجيا الثقافيّة التاريخ