مختارات من روبنسون جيفرز.. شعرٌ ضد الحداثة
عودة
إن في كلامي شيئًا من التجريد،
وشيئًا من الحكمة.
حان الوقتُ كي نقبّلَ التراب مرة أخرى،
حان الوقت كي نجعلَ الأوراق
تُمْطر من السماوات،
حان الوقت كي نجعل الحياة الغنية
تجري إلى الجذور ثانية.
سأعرّج على أنهار "سور" الجميلة
وأغمسُ ذراعيَّ فيها حتى الكتفين،
سأعثر على حساباتي حيث ترتعش
أوراق أشجار الحور
في ريح المحيط
فوق جلاميد النهر.
سألمس الأشياء
وأبتعد قدر استطاعتي عن الأفكار،
التي تتناسل كذباب أيار الذي لا فم له
و يعتم السماء، سأبتعد عن سحب الحشرات
التي تعمي صقورنا المتحمّسة
فلا تستطيع أن تضرب أو أن تحلق.
إن الأشياء هي طعامُ النسر
ونبيلٌ هو الجبل.
آه يا جبل بيكو بلانكو النبيل،
يا موجةً بحريةً رخاميةً شاهقة.
موسيقى طبيعية
صوتُ المحيط القديم،
زقزقةُ طيور الأنهار الصغيرة،
(منحها الشتاء ذهبًا لفضّتها
كي تلوّن مياهها، والأخضر العشبي
للونها البني كي تخطط ضفافها)
وكي ترتّل من حناجر مختلفة لغةً واحدة.
وهكذا أظن أننا لو كنا أقوياء بما يكفي وأصغينا
دون مقاطعات الرغبة والخوف
لعاصفة الأمم المريضة،
ولغضب المدن المبتلاة بالجوع
لسمعنا تلك الأصوات أيضًا
نظيفةً كصوت طفل،
أو كتنفّس فتاة ترقص وحيدةً
على شاطئ المحيط
حالمةً بالأزهار.
الحي من الميت
ماتت الأرواح والأوهام،
والعقلُ العاري
يعيشُ في جمال الأشياء الجامدة.
الأزهارُ تذبل،
الأعشاب تيبس،
الأشجار تذوي،
الغابة تُحْرَق
لكن الصخور لا تحترق.
يتضوّر الظبي جوعًا،
تموت عصافير الشتاء على أغصانها
وتتمدّد على الثلج
في الفجر الأزرق.
والغريب أن الحاجة سلبت البشر من المروءة
كما جعلهم الرخاء وضيعين.
لكن انظروا إلى نبالة العالم التي بلا حدود،
إلى المياه التي تتدفّق لوحدها،
إلى الصخور الحافظة للأسرار،
وإلى السماء الجارية.
السرير الذي قرب النافذة
حين بنينا المنزل
اخترتُ السريرَ الذي في الطابق السفلي
قربَ النافذة المطلّة على البحر
كي يكون سريرًا لموتي.
وها هو يتوضّع منتظرًا
لا ينام عليه أحد طيلة السنة إلا إذا جاءَ ضيفٌ،
ونادرًا ما يشتبه الضيف بهدفه الحقيقي.
وفي غالب الأحيان لا أنظر إليه
بكراهية أو رغبة: بل بمزيج متكافئ منهما
بحيث تعطلان بعضهما ويبقى أمر واحد جلي
نحن بمأمن كي ننهي ما يجب أن ننهيه،
وبعدها سيبدو الأمر أشبه بالموسيقى
حين يأتي الشيطان الصابرُ
من خلف شاشة البحر الصخري والسماء
ثم يضرب بعصاه، وينادي ثلاثًا:
"تعالَ، يا جيفرز".
الليل المجلبب
في الليل، على شفا الفجر،
انطفأتْ أضواءُ الشاطئ كلها،
وهبّت ريحٌ. استيقظت وانطلقت في الظلام
قوةُ المحيط الغافية،
التي لم تعد كالوحش بقدر ما هي كالإنسان،
هذه التي لا تُقارن
اندفعت لوحدها،
أما نَفَسُها الذي نُفُخَ باتجاه الشاطئ
فقد غلّف العالم بالضباب.
ما من نجوم ترقص في السماء،
ولا ترنو أضواءُ سفينة.
أرى الأجرام الغرانيتية العريقة
لصخور الأرض الرأسية،
التي توضعت هنا قبل أن يكون لدى مصر أهرامات،
ضخمة تحت السماء الرمادية،
وخلفها انبثاقات الأشجار الفتية
التي زرعْتُها في عام سلام "فرساي"،
لكن هنا، السلام الأخير غير التافه. هنا، قبل الإنسان الأول
كانت الصخور والمحيط وأشجار السرو،
والمنطقة الشاحبة في قبة الضباب الحجرية الرخامية
حيث القمر ينحدر إلى الغرب. هنا تتجلى الحقيقة
وما تبقى أطياف عابرة.
وبعد أن تهدأ تسليات الحيوان الباحثُ
يبدأ المجد المظلم.
انحسار المد المسائي
لم يهدأ المحيط هكذا لفترةٍ طويلة.
خمسة طيور بلشون ليلية حلّقت فوق الشاطئ
دون أن تصدر صوتًا في الجو الساكن
فوق هدوء انحسار المد
الذي عكس أجنحتها إلى حد ما.
كانت الشمس قد انحدرت،
والمياه قد انحسرت
عن الصخور المقمّطة بالأعشاب،
لكن جدار الغيوم البعيد ارتفع.
وهَمَسَ الجزر،
ومن شقوقٍ في شاشة العالم
توهّجَ لون ذهبيّ
وانزلق نجمُ المساء فجأة
كمشعلٍ طائرٍ،
كما لو أنه ليس لنا كي نراه،
كما لو أنه يؤدّي دورًا خلف شاشة العالم
لجمهورٍ آخر.
راقبوا الضوء وهو يبهت
رماديًا، بلون الفولاذ،
وملطّخًا بظلال السحب
كان المحيط يمتصّ آخر أضواء المساء.
عاليًا كان الصوت
والزبد بلون الرصاص
وطوفان المد يلتهم الرمال.
منتصبًا، كحجر قديم، هنا
يراقب الأضواء تشحب
ويسمع صوت البحر.
الكراهية والحقد يسودان في أوروبا
ورياح البحر تهب باردة.
خيّمَ الليل: سيُخيّم الليلُ على الجميع،
لم يتغيّر العالم،
بل صار أشد عريًا فحسب:
الأقوياء يتصارعون على السلطة،
والضعفاء يُدفئون قلوبهم البائسة بالضغينة.
خيّم الليل: ادخلْ إلى المنزل
أدرْ قرْص المذياع على آخر الأخبار.
هؤلاء الآخرون هم أصوات أميركا:
الساذجون
والأقوياء،
الزائفون،
الذين مسّهم المصير.
إلى متى؟ بعد أربع أم أربعين سنة؟
لماذا ينبغي أن يتغذى حجرٌ قديم على المستقبل؟
قفْ على شاطئك، أيها الحجر القديم،
كن رابط الجأش
حين تملّح ريحُ البحر رأسكَ وتبيّضه.
أمواج تشرين الثاني المتكسرة
كل عامٍ، في يوم سعيدٍ من أيام تشرين الثاني، تستيقظ أمواجٌ عاتية
وتُجَرُّ من الغرب كجبالٍ متوهجة يتصاعدُ منها الدخان
ثم تندفع غاسلةً بعنفٍ الجُروف ببياضها. فجأةً
تتخلص الصخور الغرانيتية القديمة من تراكم نصف عام من الأوساخ:قش
ور البرتقال وقشور البيض والأوراق والأسمال وكتل الروث في زوايا الصخور،
والأغماد المستخدمة التي تجعل الحب الخفيف آمنًا في المساءات.
تُغْسل جميع بقايا متسكعي الصيف في نشوةٍ شتائية.
أظنُّ أن هذه القارة المُثْقَلة تحسد جروفها…. لكن في جميع الفصول
تواصلُ الأرض، في نومها النبويّ الذي كنوم طفلٍ،
الحلمَ بعاصفة تغسلُ ساحل المستقبل الطويل
كي يصبح أكثر نظافةً من حدودها البحرية:
ذلك أن المدن تهدمت، وقلّ البشر، وازداد عدد الصقور،
الأنهار نقية من المصب إلى المنبع،
وها هو الحيوان الثديي ذو القدمين
أحد أكثر الحيوانات نبلًا، يستعيد
كرامة المكان، ويعرف قيمة الأشياء النادرة.
علامة إرشاد
أيتها المتحضّر، يا من يتساءل كيف يمكن أن يصبح إنسانيًا من جديد:
أصْغ إليَّ كي تعرف كيف:
انطلقْ إلى الخارج، أحببْ الأشياء لا الرجال، وانأَ بنفسك حالًا عن بني البشر،
اتركْ تلك الدمية تحتضر. فكّر إذا شئت كيف تنمو الزنابق،
تمدَّد على صخرةٍ صامتة إلى أن تشعر بقداستها
اجعل شرايينك باردة،
انظر إلى النجوم الصامتة، اجعل عينيك
تتسلقان السلم الكبير خارج حفرة نفسك وحفرة الإنسان.
إن الأشياء رائعة الجمال، وسيتبعُ حبُّك عينيكَ.
إن الأشياء هي الله، وستحبّ الله، وليس هذا عبثًا،
ذلك أننا نكنّ مشاعر لما نحب ونقاسمه طبيعته.
وإذا ما نظرتَ إلى الخلف على امتداد أشعة النجوم سترى
أن هناك مكانًا تحت قبة السماء حتى للبشرية، تلك الدمية المسكينة.
وها هي صفاتها ترمّم فسيفساءها حولك،
وعناصر قوتها ومرضها،
وأنت حرّ الآن كي تصبح حتى بشريًا
لكن بعد أن تولد من الصخر والهواء،
وليس من امرأة.
قبرُ كلبِ المنزل
غيّرتُ طُرقي قليلًا، لا
أسْتطيعُ أن أَرْكُضَ معكَ الآن
في المساءاتِ على الشاطئ،
إلّا في نوعٍ من الحُلُم،
وأنتَ، إذا حَلُمْتَ للحظةٍ
ستراني هناك.
اتركْ، اتركْ من أجْلِ هذا لوَهْلةٍ،
علاماتِ بَراثِني على البابِ الأماميِّ
الذي اعْتَدْتُ خَدْشَهُ أثناء دخولي وخروجي
وحينها كنتَ تفْتَحَهُ في الحال،
اترُكْ، اتركْ على أرضيةِ المطبخ
علاماتِ إناءِ شُرْبي.
لا أَسْتطيعُ أنْ أَرْقُدَ قُرْبَ نارِكَ كما اعْتَدْتُ أنْ أَفْعَلَ
على الحَجرِ الدافئِ،
وعلى قدمِ سَريركَ. كلّا، طَوال الليل
أَستلقي وحيدًا.
لأنك تحبني دفنتني على بُعْد أقلِّ من ستةٍ أمتارٍ
خارجَ نافِذَتِكَ حيثُ غالبًا ما يَلْعَبُ ضوءُ النار
وحيثُ تجلسُ كي تَقْرأ (أو غالبًا كي تَحْزَنَ عليَّ، كما أَخْشى)
في كلِّ مرةٍ يتوضّعُ فيها ضوءُ مِصباحكَ مكاني.
أنتما، كرجلٍ وامرأةْ، تَعيشان طويلًا، ومن الصَعْبِ
التَفكيرُ بأنّكُما سَتَمُوتانِ يومًا ما
لكنَّ كلبًا صغيرًا سيتعبُ من العيش طويلًا.
آمَلُ حين تستلْقيانِ
تحتَ الأرضِ مِثْلي، أنْ تبدو
حياتُكُما جيدةً ومَرِحةً كحياتي.
كلّا يا عزيزيَّ، هذا إفراطٌ في الأَمل: فأنتما لم تنالا من العناية
ما حظيتُ به أنا.
ولمْ تَعْرِفا أبدًا حالاتِ الإخلاصِ العاطفيةِ الصَادقةِ
التي عَرفْتُها.
ربما كان ذِهْناكُما نَشيْطَينِ،
ومَشْغوليْن بأشياءَ كثيرةٍ
لَكِنَّكُما صادقانِ بالنسبة لي.
لم تكونا سيّديْنِ أبدًا، بل صَديقينْ. وكنتُ صديقًا لكما.
أَحْبَبْتُكُما جيدًا، وأَحْبَبْتمُاني. إنَّ الحبَّ العميقَ يَستمرُّ
إلى النهايةِ وإلى ما بَعْدَ النهايةِ بكثير. وإذا كانت هذه نهايتي
فأنا لا أشعرُ بالوَحْدَةِ. ولستُ خائفًا. فأنا ما أزالُ لكما.
نار على التلال
كان الظبْيُ يقفز كأوراقٍ طيّرتْها الريح
تحتَ الدخان وأمام زئير موجةِ نار الأجمة.
فكرتُ بالحيوات الأصغر التي علقتْ.
إن الجمالَ ليس مُحَبَّبًا دومًا.
كانت النار جميلة.
وكان ذعر الظبي جميلًا.
وحين عدتُ نازلًا على المنحدرات السوداء
بعد أن خمدتْ النار، رأيتُ نسرًا جاثمًا
على نتوء شجرة صنوبر محترقة
متغطرسًا ومتخمًا،
مكسوًّا بعاصفتيْ جناحيه المطويين.
جاء من مكانٍ بعيدٍ من أجل صيدٍ غانم
وكانت النار مثيرةَ طرائده.
السماء زرقاء بلا رحمة
والتلال سوداء بلا رحمة
وبينهما كان الطائر الضخم المُريّش بالوقار
يغفو بلا رحمة.
آلمني التفكير،
لكن العقل الكلي
الدمار الذي يُحْضر نسرًا من السماء
هو أفضل من الرحمة.