في رحيل المؤرخ مارك فيرو.. نافس نجوم التلفزيون بالتاريخ

بوعلام رمضاني 26 أبريل 2021
تغطيات
مارك فيرو في منزله في سان جيرمان أونلي(22/9/2015/فرانس برس)
لا يُعدُّ رحيل المؤرخ الفرنسيّ، مارك فيرو، الذي توفي ليلة الأربعاء الماضي عن عمر يناهز السادسة والتسعين عاديا. لماذا؟ أردُّ، ببساطة شديدة وبسرعة، لأنه لم يرحل ككُلِّ المؤرخين الذين بقوا أسرى أكاديمية نخبوية وضيِّقة جعلت من مادة التاريخ محل اهتمام شريحة اجتماعية متعلمة بالضرورة، وشَغُوفة بمادة يَهتمُّ بها عادةً المهوسون القلائل بالتاريخ "الثقيل" والصعب، كما يرى محدودو المستوى من الشباب.
لافًا لمؤرخين خاطبوا النُخبتين الفكرية المتخصصة العامة والجامعية الخاصة، انفرد الراحل فيرو بحضور سوسيولوجي وسيكولوجي مكَّنَه من إدخال التاريخ إلى بيوتِ ملايين من الجماهير بالشكل الذي يَجدُ فيه أعداء بيار بورديو فرصةً للانقضاض عليه، بسبب تركيزه على الدور السلبي للتلفزيون، كوسيلة اتصال تَخْدِم حتمًا جماعات ضغط يهمُّها الرِّبح، معتمدة على إقبال المشاهد كمعيار مطلق ووحيد.



فقيد التلفزيون والسينما أيضًا

مارك فيرو المدير المشارك لمجلة Annales، ورئيس معهد العالم السوفييتي وأوروبا الوسطى (18/2/1987/Getty)       


انطلاقًا من الحقيقة الثقافية المذكورة التي ميَّزت حياةَ وعطاءَ وشخصية الراحل مارك فيرو، لم يكُن إجماع الصحافة الفرنسية بكافة توجهاتها المتنافرة والمتصارعة على خصوصية الراحل، إلا دليل موضوعية ومِهنيّة يتجاوز أصحابُها الخلافات السياسية تحت وطأة اعتراف بعطاء متميز شكلًا ومضمونًا، وكمًّا ونوعية في الوقت ذاته.
الفقيد مارك فيرو الذي تُوفي متأثرًا بكورونا، لم يُقدِّم التاريخ عبر كتب نخبوية ورصينة تعجب الكهول والأساتذة والمسنين فحسب، بل انتزع حُبَّ الملايين من الناس البسطاء الذين راحوا يُتابعون برنامجه التلفزيوني الشهير "تاريخ مواز"، كما يتابعون مسلسلات العشق والهيام، أو مسلسلات الماء الوردي، كما يطلق عليها شعبيًا. فإلى جانب تأليفه 65 كتابًا حول تخصصه في الاتحاد السوفييتي، وفي روسيا، وفي حروب القرن العشرين، والاستعمار، والسينما، بتوجه يساري، استطاع أن يُخاطب الماكثين في البيوت من عامة الشعب من خلال مُعالجة تلفزيونية مدروسة، عَرَف كيف يستغلها مسؤولو قناة "ارتيه" الفرنكو ألمانية لتكريس خصوصية هذه القناة الثقافية التي تلتهم كثيرًا من وقت كاتب هذه السطور.



لم يقدم الراحل التاريخ "الثقيل" خلال 12 عامًا بروح أكاديمية فجَّة وتقليدية، كما يمكن أن يُقدَّم لطلبة الجامعات، ولعبت شخصيته المرحة، ووجهه الصبوح، وأسلوبه الآسر، دورًا حاسمًا في تحويل المادة الثقيلة كوجبة علمية إلى وجبة خفيفة يُقبل عليها من كان يتردد على تناولها، كما ارتبط وجهه، أيضًا، بالسينما، التي تخصص فيها، أيضًا، الأمر الذي ترك اسمه يتعدى دائرة التاريخ السياسي والحربي.
فيرو الذي عاش شغوفًا ومتيمًا بالتاريخ حتى آخر نفس من حياته، كما جاء في بيان عائلته، لم يتوقف عن تنفُّس التاريخ إلا عندما قرَّر فيروس كورونا المشؤوم وضعَ حدٍّ لمغامرةٍ مهنية نادرة جمعت بين عمق وجدية التخصص، وبين خصوصية الشخصية والأسلوب والوسيلة وأهمية المرمى والأفق.



شباب في عز الحرب العالمية الثانية
فيرو الذي تخصص في الاتحاد السوفييتي، وروسيا، وفي حروب القرن العشرين، وفي الاستعمار، والسينما، كما ذكرنا، من مواليد عام 1924 في باريس، وابن جاك فيرو، الإيطالي واليوناني الذي اشتغل في مصرف مالي، وأوديا فريدمان، الأوكرانية اليهودية التي احترفت مهنة الخياطة الراقية في مؤسسة وورث. ضرب موعده الأول مع التاريخ في عز الحرب العالمية الثانية، وهو في سن العشرين، حينما شرع في تحضير أول شهادة في التاريخ والجغرافيا عام 1944، وكاد أن يلتحق بخدمة العمل الإجباري لولا آني كريغل، التي وظفته في صفوف المقاومة، لتمكنه من اللغة الألمانية، واستطاع أن يَفِرَّ من ملاحقة النازيين في باريس إلى مدينة غرونوبل الواقعة وسط غرب فرنسا، والتي كانت منطقة غير محتلة يومها.
التحق في بداية شهر تموز/ يوليو بالمقاومة في منطقة فيركور (سلسلة جبلية تقع جنوب شرقي فرنسا بمحاذاة مدينة ليون) مُكلفًا بمهمة ترقُّب تحرك العدو اعتمادًا على إجادته قراءة الخرائط. واضطر لأن يعود إلى بوردو إثر وصول القوات الألمانية إلى فيركور، قبل أن يشارك في تحرير مدينة ليون يوم الثالث من سبتمبر (أيلول) من عام 1944، ويستأنف دراسته، ويتخرج كأستاذ في التاريخ.



بعد أن تزوج إيفون فرانس بلونديل عام 1948، عمل في وهران عاصمة الغرب الجزائري أستاذًا للتاريخ في العام نفسه، وحتى غاية 1956. فيرو الذي كان يعيش وضعًا اجتماعيًا مريحًا في الجزائر المحتلة، اكتشف بسرعة عنصرية الاستعمار الفرنسي الذي تجلى يوم رد طلبة ثانوية لامورسيار على إعلان اتخاذه قرار تعليم الثقافة العربية: "لكن العرب غير متحضرين".
تحت وقع الصدمة، اكتشف المؤرخ الذي تخصَّص لاحقًا في الاستعمار حقيقةَ الجزائر الفرنسية الظالمة والاستيطانية، ورفض مزاعم قادتها، إلى درجة دفعت به إلى المشاركة في تأسيس حركة الأخوة الجزائرية، وهي الحركة التقدمية التي اختارت الطريق الثالث الذي ينص على "مناهضة النظام الكولونيالي، وراديكالية جبهة التحرير الوطنية الجزائرية"، كما جاء في أدبيات الحركة يومها.
فيرو الذي تعلَّق بالجزائر، مثلَه مِثْل ألبير كامو، أشهر مثقفي فرنسا أثناء الحقبة الاستعمارية، ولكن بدرجة أقل، وبموقف مختلف عن الأول، عاد إلى فرنسا مضطرًا بعد تعيينه أستاذًا للتاريخ في ثانوية مونتاني بباريس، ثم في ثانوية رودان. تسلق بسرعة سلم التدريس والإدارة، بعد أن عمِل أستاذًا في المدرسة المتعددة التقنيات، فأصبح مدير الدراسات في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية، ومُشرِفًا على قسم الأبحاث في السينما والتاريخ، قبل أن يعينه عام 1970 المؤرخ فرناند بروديل، صاحب مؤسسة دار علوم الإنسان، نائب مدير مجلة "لي زانال" الشهيرة، واختتم مشواره العلمي الأول باقتدار لافت، حينما تبوأ منصب مدير معهد العالم السوفييتي وأوروبا الوسطى، ويدخل الأكاديمية الأوروبية.



الثورة الروسية أو بداية مشوار غير مسبوق
شقَّ فيرو طريقه نحو الشهرة الأكاديمية في انطلاقة ثانية واعدة أثبتت صِحَّتها الأيام اللاحقة، إثر تخصصه في مطلع الستينيات في التاريخ السوفييتي، بتشجيع وتوجيه من أستاذه، بيار رونوفان، الذي اقترح عليه دراسة الثورة الروسية.



وحسب الدارسين لتوجهه البحثي الخاص بهذه الثورة، فإن فيرو لم يتردد في كسر عظام محللي ما يسمى بالمدرسة الأيديولوجية الشمولية المسيطرة، وفعَلَ ذلك من خلال أرشيف سمعي بصري ومكتوب يؤكد أن الثورة البروليتارية لم تكن ثورة الطبقة العمالية فحسب، بل ثورة نساء، وجنود، وفلاحين، أيضًا. من هذا المنطلق، اعتبر فيرو ثورة أكتوبر سياقًا اجتماعيًا كاملًا، وليست مجرد انقلاب بلشفي: "لأنها غير منفصلة عن حركة ثورية وشعبية شاملة"، على حد تعبيره. كما أنه رأى مسار الحكم الشمولي اللاحق نتيجة لانحراف طال القاعدة والقمة على السواء.
هو تلميذ المؤرخ فرناند بروديل، رغم فشله في الحصول على التبريز في مجال تخصصه. راح يصنع الفارق العلمي بعشرات الكتب المرجعية في المجالات المذكورة التي تخصص فيها، وبقي ينتج ويبدع حتى سن الخامسة والتسعين، وعالج في كتابه الأخير "الدخول في الحياة"، الذي صدر العام الماضي، مصير عدد كبير من الشخصيات التاريخية.
إلى جانب كتبه العديدة الهامة، أدخل الراحل التاريخ بيوت مختلف الشرائح الاجتماعية، باستنطاقه الأرشيف السينمائي الخاص بأهم فترات التاريخ المعاصر، في وجه عام، وفترة الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، بوجه خاص، قبل أن يُعمِّق ذلك المنحى من خلال التلفزيون. بهذه الطريقة التي ميزت مساره المهني، استطاع أن يُوَظف السينما والتلفزيون بوجه غير مسبوق، كوسيلتين ومصدرين لنشر التاريخ بشكل بيداغوجي على أوسع نطاق اجتماعي ممكن، بعيدًا عن وظيفة التسلية والترفيه اللصيقة بهما في تصور كثيرين. وحسب المؤرخة إيزابيل فيرا ماسون، في مقالها الذي نشرته عن الراحل في صحيفة "ليبراسيون" عام 2008، فإن المؤرخ فيرو "تمكَّن من استخدام الصورة السينمائية والتلفزيونية كبؤرتي ذاكرة تسمحان بكتابة التاريخ، الأمر الذي يؤدي إلى نشر المعرفة التاريخية على أوسع نطاق اجتماعي ممكن، وإخراجها من حلقتها الأكاديمية والنخبوية الخاصة بالصفوة".
أصبح فيرو ضيفًا اجتماعيًا على عامة الناس، متجاوزًا شهرته الأكاديمية، انطلاقًا من عام 1989 تاريخ شروعه في تقديم برنامج تلفزيوني على قناة السابعة قبل بثه على قناة "أرتيه" لمدة 12 عامًا، اعتبارًا من عام 1992.
إلى جانب مقاربته الثورة الروسية من منظور غير شيوعي أخرجها من نطاقها الأيديولوجي الشمولي، تميز مجددًا بمقاربة مقتل عائلة القيصر نيكولا الثاني في كتاب لافت نشر عام 1990، وترجم الى عشرات اللغات الأجنبية. وأكد فيرو، في هذا الكتاب المثير، أن القيصر وحده قد قُتل مع ابنه ألكسيس في تموز/ يوليو عام 1918، في أيكاتنمبروغ، في حين نجت زوجته مع بناتها الأربع من الموت، قبل أن يعود عام 2002 مقدمًا فرضية نجاة القيصر بدوره من الموت، وظهوره لاحقًا في الاتحاد السوفييتي. وعزز قراءته الجديدة لمقتل عائلة رومانوف القيصرية في كتابه "حقيقة مأساة آل رومانوف"عام 2012.
توزعت كتب فيرو بين قضايا الشيوعية، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية، وروسيا، والعالم العربي والاستعمار، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والتاريخ والسينما، والكتابة عن التاريخ، وبين قضايا تاريخية أخرى. من بين أهم عشرات الكتب التي تناول فيها القضايا المذكورة نذكر: "الثوار الكبار"، و"الغرب أمام الثورة السوفييتية"، و"خمسون فكرة هزت العالم"، و"ثقافة وثورة"، و"ولادة وانهيار النظام الشيوعي في روسيا"، و"النازية والشيوعية"، و"روسيا"، و"شعوب وحضارات"، و"تاريخ الاستيطانات"، و"من الغزو إلى الاستقلال"، و"صدمة الإسلام"، و"الكتاب الأسود للاستعمار"، و"شرح الاستعمار للجميع".. علاوة على كتبه الهامة حول الحربين العالميتين، وعن علاقة السينما بالتاريخ.
من كتبه الهامة حول قضايا عامة أخرى، نذكر: "فهم أفكار القرن العشرين"، و"عشرة دروس عن تاريخ القرن العشرين"، و"المجتمعات مريضة بتقدمها"، و"الحقد في التاريخ"، و"عالم الإقطاع"، و"جدار برلين وسقوط الشيوعية"، و"انقلاب التاريخ".. فضلًا عن كتب أخرى خلَّدت اسمه في مسار ومسيرة المؤرخين الكبار.