في ذكراه الـ 85: لوركا الشاعر الأندلسي الأخير

أحمد عبد اللطيف 25 أغسطس 2021

أسباب كثيرة تجعلنا نهتم بالذكرى الخامسة والثمانين لاغتيال لوركا، لنعيد قراءة أعماله ونقلّب في سيرته لتزداد وهجًا كالنار. ومنها أنه الشاعر الأندلسي الأخير، من عثر في نفسه على هذا الخليط العربي والإسباني، وشعر أنه ابن بار لابن زيدون وولادة بنت المستكفي. حين تفتح إدراكه في غرناطة على قصر الحمراء وتاريخ امتد لثمانية قرون قبل مولده، وعلى حكايات شعبية تشير إلى العرب والمسلمين، وعلى كلمات عربية في اللغة التي ينطق بها، والشعر الذي يموج في روحه، انتبه إلى الإرث الثري الذي وصله عبر قرون، ليستقر في النهاية في أشعاره وموقفه من الحياة؛ ومنها أنه شاعر تعرض للاغتيال، وقتل شاعر، مهما كانت الأسباب، جريمة لا تغتفر، لأنه قتل لصوت الناس وقمع لمشاعرهم. ولأن الاغتيال جاء من رصاصة عسكري تلقى أمرًا من ديكتاتور، ولأن هذا الديكتاتور، فرانكو، نعته بالشيوعي وبالمثلي، وادعى أنه في ثورة تطهير لإعادة إسبانيا إلى كاثوليكيتها وقوميتها، ما ثبت بعد ذلك أنها دعوة للقمع والعزل والتسلط، دفع ثمنها الشعب، لقرابة أربعين عامًا، مرارة السجن والمنفى؛ ولأنه كان شابًا، شاعرًا وموسيقيًا ومسرحيًا، وأحد مصابيح البشرية في سنوات الظلام والحروب. لقد كان مقتل لوركا بابًا انفتح على الجحيم، كأن القدر أراد أن ينتقم من الأرض التي صمتت على قتله، وتصب لعنتها على قاتليه.

ولد فيديريكو غارثيا لوركا عام 1898 بقرية فوينتي باكيروس بغرناطة، وانتمى جيليًا لجيل 27، وبعد حياة ثقافية وفكرية صاخبة، ساهم فيها بمسرحيات ودواوين شعر ومقطوعات موسيقية ولوحات، تلقى رصاصة في قلبه أودت بحياته في 18 آب/ أغسطس 1936 بجانب شجرة زيتون، حين كان في طريقه من قرية بيثنار إلى الفاقار (كلتاهما بغرناطة) بعد أن علم أن جنود القوميين يبحثون عنه لقتله. ومنذ ذلك التاريخ، وكما يقول الناقد رفائيل ناربونا (*)، ثمة شعور ثقيل بالخطيئة الجماعية، إذ لم تكن لحظة الاغتيال منفصلة عن واقع سياسي مؤلم، تنهار فيه الديمقراطية الناشئة أمام قوى السلاح والديكتاتورية الغاشمة. لحظة اغتياله كانت بالأحرى لحظة دخول إسبانيا في نفق مظلم وطويل. وفي محاولة لتخفيف مسؤولية الفاعلين الماديين والمثقفين، انتشرت روايات كثيرة عن أسباب الاغتيال: أن قتله كان بالخطأ، إنه ثأر عائلي لا دخل لـ فرانكو به، ولم يستطع الجناة أبدًا أن يعترفوا بالحقيقة، فاستسهلوا تزييف الواقع. لقد قتلوا لوركا لما يمثله: احتمالية إسبانيا حرة ومتسامحة، "بدون قساوسة ولا عسكر ولا ذباب"، بتعبير الكاتب الكلاسيكي بيو باروخا. مثّل لوركا "بهجة البحر المتوسط وإسبانيا، بدون أي بيوريتانية ولا تصلب. ولم يكن مضادًا للمسيحية، وإنما يدعو لوثنية مضيئة وملونة" ما يرى ناربونا أنها "أثارت حفيظة القطاعات المحافظة". يقول الشاعر لويس ثيرنودا في رثائه، في قصيدة "إلى شاعر ميت": قتلوك/ لأنك خضرة في أرضنا القاحلة/ زرقة في هوائنا القاتم". وكانت إزاحة لوركا سلاحًا ذا حدين: التخلص منه وبث الرعب في أمثاله، ممن وصفهم فرانكو بالحمر المخربين.


أغان غجرية: النبش في الثقافة

ولد فيديريكو في عائلة مستريحة، لأب صاحب مزارع وأم مدرسة. درس البيانو في شبابه والتحق بكلية الحقوق والفلسفة والآداب، لكن التعليم الأكاديمي لم يرق له. مع ذلك استفاد أثناء إقامته في المدينة الجامعية بتعرفه إلى رفائيل ألبرتي ولويس بونويل وسلفادور دالي، الذين اتفقوا على أنه يشبه المغناطيس في كاريزميته، ووصفه ثيرنودا بأنه "مثل النهر: دائمًا نفس الشيء، ودائمًا مختلف، يسيل بلا تعب، ويضم في كتابته ذاكرة متغيرة لعالم يعشقه". بيثنتي ألكساندر وصفه بأنه "كائن وُلِد من أجل الحرية"، ومن أجل الحرية أيضًا، مات. بزغ نجم فيديريكو عام 1928 بنشر "أغاني غجرية"، وهو ديوان استسلم فيه لشيطان الشعر بدون أي تدخلات تكنيكية، عائدًا فيه إلى الشعر في صورته الأولى، المستجيبة للفطرة والمتفاعلة مع الطبيعة والثقافة.

هذه التلقائية انتقدها سلفادور دالي وبونويل، لكن في رسالة له إلى الشاعر خورخي غيين كتبها أثناء كتابة الديوان، قال لوركا عن بنية العمل: "أحاول دمج عناصر أسطورية غجرية مع عناصر عامية من الزمن الحالي"، ورفض في محاضرة ألقاها عام 1926 التفسير الأوحد للقصيدة، ورأى أنها مفتوحة على التأويلات، فلا أحد يعرف، ولا الشاعر نفسه، السر الشعري. ما أكد أن لوركا لا يكتب الشعر، وإنما يتلقاه كإلهام مطلق. في نفس الوقت، وفي محاضرة له عام 1931، أشار إلى أن الديوان يجمع ثقافة الجنوب الإسباني، والغجر أحد عناصره. إنها طريقته في النبش في الثقافة الشعبية والعودة إلى الأصول. هذا الاتجاه الشعري دفع الناقد خوان لوبيث مورتيّاس إلى القول "لوركا ليس شاعر أفكار، وإنما شاعر أساطير". لهذا السبب اختار فيديريكو شكل الرومانثي، وهو نوع شعري ذو بنية قديمة، رآه الأنسب لاستخدام الأساطير. وبعيدًا عن الأسطورة بشكلها المباشر، يقول ناربونا إنه تناول للوجود الإنساني، لهذا الصراع بين الأنا وقوى الطبيعة، صراع ينتهي بالموت. يتمرد الغجري على المجتمع ويدافع عن حريته حتى يظن أن الحياة استقرت له، حينها يدرك أن المعركة لم تنته، فيظل يعاني من العنف وسوء الفهم. بطريقة ما، كان هذا الديوان نبوءة لوركا بمصيره، وفي قصيدة "أغنية للحرس المدني الإسباني" يرسم مخيمًا قد تقوض بلا سبب إلا الكره، الكره لشعب اختار أن يعيش بطريقة أخرى. رسم لوركا الحرس بملامح استلهمها من لوحة غويا السوداء، ووصفهم بمحدبين وليليين، في مقابل مدينة الغجر، مدينة الألم والمسك، ذات الأبراج المشيدة من القرفة. يستحضر فيديريكو العذراء ويوسف النجار (سان خوسيه) إذ أنهما "فقدا أبو فرو/ ويبحثان عن الغجر/ ليريا إن كانا سيعثران عليهم"، "العذراء تشفي الأطفال/ بلعاب مثل نجمة/ لكن الحرس المدني/ يزرع النيران/ حيث الخيال/ شابًا وعاريًا/ يحترق". بهذه القصيدة جهز لوركا مشهد موته، إذ لم يغفر له اليمين أن أهان أحد رموزه المقدسة.

لوركا مع أصدقائه في نيويورك



شاعر في نيويورك

لم يتآلف لوركا مع نيويورك، بدت له مدينة بلا جذور ولا هوية، مدينة عنيفة وغير إنسانية، حيث يعاني السود من العنصرية القاسية. يلخص لوركا رؤيته في عبارة كاشفة "مشهد هائل، لكنه بلا عظمة". وبين عامي 1929 و1930 يكتب "شاعر في نيويورك" وينشر عام 1940 في المكسيك والولايات المتحدة بالتوازي. أكد ثيرنودا أن لوركا لم يقرأ للسورياليين الفرنسيين، وبالفعل عندما أشاروا للشاعر الغرناطي أن قصائده الأكثر تجريبية تنتمي للشعرية السوريالية، يرد "ليست السوريالية، وإنما يضيئها الوعي الأشد وضوحًا". مع ذلك، فـ "شاعر في نيويورك" عودة إلى الأصل، إلى السحري والحلمي المستلهم من أغاني غجرية، والأقرب لها من السوريالية، التي عملت لقرون حتى تستعيد التلقائية الإنسانية الأولى. وبالنسبة لـ فيديريكو، فالسود والغجر يرمزان للحياة الحقيقية، حتى لا تختفي الأسطورة. كلاهما يجسد براءة الإنسان قبل السقوط، قبل فكرة الذنب والخطيئة.


لوركا كمسرحي

تعتبر "بيت برناردا ألبا" إحدى أهم مسرحيات القرن العشرين الإسباني. لقد بلغ لوركا قمة النضج الفني وكتب نصًا عاريًا، خاليًا من البلاغة والشعر. ليست مسرحية واقعية، وإنما مؤسلبة عن عمد بطموح أن تلقط الصراع بين الرغبة والأخلاق الكاثوليكية الصارمة. برناردا، ممثلة السلطة الأمومية، لا يشغلها إلا ما يقوله الناس. وحين تنتحر أديلا، إحدى بناتها، لا تفكر إلا في كيف تداري فضيحة أن ابنتها ليست عذراء. والحوارات الدائرة في البيت هي نفسها عبارات الكنيسة والمنصات اليمينية. يتناول لوركا بانفتاح الرغبة الجنسية لبطلاته، كاشفًا عما يتعرضن له من قمع للغريزة وكيف يدمر ذلك سعادتهن. خطاب المسرحية، في ذلك الزمن، كان مرفوضًا ممن لا يرون في المرأة إلا ربة منزل عليها أن تحترم رغبات زوجها. ورغم أن المسرحية لم تعرض في إسبانيا حتى 1950، إلا أن القطاعات الأشد تطرفًا وضعته تحت الميكروسكوب. وبحسب خيل روبلس، فإسبانيا التي كانت تقاوم الموت اعتبرت لوركا عدوًا لها. لذلك، نشرت مجلة "جراثيا وخوستيثيا" الساخرة، ذات الميول الكاثوليكية والفاشية، مقالات تسيء لسمعته، متهمةً إياه بالإلحاد وبالمثلية الجنسية.

لحظة اغتيال لوركا من قبل عسكريين تلقوا أمرًا من فرانكو


لم ينضم لوركا أبدًا إلى أي حزب سياسي، لكنه كان يؤيد الجمهورية ولم يرفض التوقيع على أي بيان ضد الفاشية. في نفس الوقت أعلن أنه "كاثوليكي جمالي"، ورفض الضغوط التي تمارس عليه لينضم للحزب الشيوعي. لكنه دائمًا ما التزم بقضايا المقهورين. بعد رحلة نيويورك كان يقول إن الإنسان الغرناطي بداخله يجره نحو التعاطف مع المطاردين، سواء كانوا سودًا، يهودًا، موريسكيين، فكلهم يحملهم بداخله. لقد شعر لوركا دائمًا بالحزن لسقوط غرناطة المسلمة، وقال عن ذلك "إنها لحظة سوداء، رغم أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس. لقد فقدوا حضارة مثيرة للإعجاب، شعرًا وعلم فلك وعمارة، رقة فريدة في النظر إلى العالم، كل ذلك ليشيدوا مدينة فقيرة واقطاعيات تنمو في كنفها أسوأ برجوازية في إسبانيا".

لم يكن لوركا ضحية بالصدفة في فوضى بدايات الحرب الأهلية، وإنما كان هدفًا واضحًا للانقلابيين. قالوا إنه واجه اعتقاله بجبن، لكن إسبيرانثا روساليس، الشاهدة الوحيدة على هذه اللحظة، أكدت أنه كان محتفظًا بهدوئه: "وقف ولم ينحنِ، كان رجلًا".

رغم موته، لم ينطفئ أبدًا وهج الشاعر، بل إنه مع مرور السنين يزداد توهجًا واكتشافًا.

يقول ثيرنودا في قصيدته:

سيقول الموت

 إنك أكثر حياة من الحياة

 لأنك في الموت

 تؤسس قوس مملكتك الشاسعة

 وتحرثها بالعصافير وأوراق الشجر

 بمرحك وشبابك الاستثنائي.


(*) نشر الناقد الإسباني رفائيل ناربونا دراسة موسعة حول لوركا بعنوان "شاعر الأرض" في جريدة "كولتورال" الإسبانية وذلك يوم 18 آب/ أغسطس الحالي. وفي المقال عرض موسّع لها.