عبد الرازق قرنه: الأفكار هي من تُقدّم نفسها للكاتب

ضفة ثالثة ـ خاص 26 أبريل 2022
تغطيات
(gettyimages)

ولد عبد الرازق قرنه عام 1948 في زنجبار بتنزانيا وتظهر في رواياته حكايات مليئة بالرغبة في التغيير وتتراوح بين بلدان وهويات وقارات مختلفة. وتروي رواياته الأقرب للسيرة الذاتية كفاح تنزانيا من أجل الاستقلال، وصعود الرئيس التنزاني جوليوس نيريري، الذي يعتبر أول رئيس اشتراكي للبلاد.

ينحدر قرنه من أصول عربية، لكنه هرب إلى المنفى في إنكلترا عام 1968 ودرس في جامعة لندن. بعد ذلك قام بتدريس اللغة الإنكليزية وأدب ما بعد الاستعمار في جامعة كنت البريطانية. جعلته رواياته واحدًا من أشهر الكتاب في أفريقيا. وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2021 بسبب تعمقه غير المسبوق في آثار الاستعمار على مصائر اللاجئين العراقيين بين الثقافات والقارات المختلفة. 

هنا عرض للمقابلة الأحدث التي أجريت معه ونشرت حديثًا على موقع جائزة نوبل وتحدث فيها قرنه عن قراءاته الأولى وأهمية القصص في تكوينه، وكيف ينظر إلى الكتابة كوظيفة مثل أي وظيفة أخرى، وكيف بدأ القراءة بسبب محبته للقصص، وذكرياته مع حكي نساء العائلة.

[سارة عابدين]

 

يستعيد قرنه ذكرياته عندما كان طفلًا يستمع لسرد النساء للقصص والحكايات ويقصد نساء عائلته بالكامل لأنه كان يعيش في عائلة كبيرة ممتدة. كان يستمتع بالجلوس بالقرب منهن أثناء حكيهن معًا، وعندما تعلم القراءة بعد ذلك قرأ حكايات الحكيم إيسوب مترجمة إلى اللغة السواحلية. يقول إن الأطفال لا يملون من قراءة نفس الكتاب أكثر من 20 مرة. لذلك يرى أن الألفة جزء من متعة القراءة، وبعد ذلك يتولى الفضول الأمر وتصبح القراءة تمرينًا نتعلم ونستمتع به. بقى كتاب حكايات إيسوب في ذاكرته لأنه كان الأقرب له، حتى أنه ما زال يتذكر الرسوم التوضيحية الخاصة به وخاصة صورة الثعلب الذي يقفز من أجل العنب ويعتقد أنها ستبقى في ذهنه للأبد.

أما عن تأثير الكتب التي قرأها في صغره عليه الآن، فيقول إنها ليست فقط القصص التي قرأها، ولكن أيضًا القصص التي سمعها والتي بقيت لفترة أكبر في ذاكرته. بالنسبة للكاتب تصبح هذه القصص مصادر لأماكن يذهب إليها ويكتشف المزيد والمزيد، خاصة عندما تكون حكايات متعددة الطبقات، يمكن فهمها بصورة أكبر مع التقدم في العمر.

عبد الرازق قرنه  عند تسلمه جائزة نوبل (موقع جائزة نوبل)



يذكر قرنه أنه لم يكن يعرف أن الكتابة مهنة، ولم يكن يعرف أي شخص يعمل ككاتب محترف، لذلك لم  يطمح لأن يصبح كاتبًا. كان يفكر في أن يصبح رائد فضاء مثلًا، وكان منفتحًا لفترة طويلة على أي شيء، لكنه لم يكن يفكر في المهن العادية التي يقولها الأطفال مثل سائق قطار أو مبرمج كمبيوتر. لقد استمتع بالمدرسة والتعلم، ربما أراد أن يكون مجرد طالب، لكن أثناء حياته في بريطانيا فكر في نشأته بشكل مختلف لأنه كان بعيدًا عن ذلك المكان، وكان عليه التصالح مع كونه غريبًا في بريطانيا وأعاد التفكير في تربيته والأفكار التي كان يؤمن بها.

يعتقد قرنه أن التواجد بعيدًا يجبر الشخص على النظر بدقة إلى الأشياء ويجعله أكثر انتقادية، لذلك يرى قرنه أن نشأته الأولى فرضت عليه التفكير بصورة أكثر عمقًا.

عندما سئل قرنه عن أهمية الكتابة وهل هي وسيلة لاستكشاف قضايا مختلفة أم عمل ممتع تمامًا؟ قال إنه لا يرى الكتابة أبدًا بأنها متعة بحتة. يستمر الكاتب في الكتابة لأن لديه استفسارات ودوافع تساعد الكتابة على رؤيتها بشكل أفضل، كما تعتبر وسيلة لتوصيل ما نرغب في قوله للآخرين المهتمين به. فهي تساعدنا على فهم ما نراه بشكل أفضل وكذلك توصيله للآخرين بالإضافة إلى كونها طريقة مهمة لتوسيع رؤيتنا للآخرين، لأن الكتابة فيها إضاءات تساعدنا على الفهم أو تؤكد على ما أدركناه بأنفسنا، لكننا بحاجة إلى تأكيده. لذلك يرى أن التنوع ضروري في الأدب لتعدد وظائفه، فهو مصدر للمتعة والتعلم ومعرفة الآخر.

أما عن أفكار الكتابة فيقول إن الأفكار تقدم نفسها للكاتب. يوجد عدد معين من الأشياء التي تشغل كل كاتب وتستمر في العودة إليه مجددًا. أشياء ربما تتعلق بتجربة معينة أو مخاوف لا يزال يرغب في فهمها وتفكيكها والحديث عنها. أحيانًا بعد أن ينهي رواية ما يفكر أنه لم يتحدث عن هذا الشيء وذاك. في هذا الوقت تتراجع هذه الأفكار إلى الجزء الخلفي من العقل وتتحول أحيانًا إلى أفكار أخرى، ويتسرب بعضها مغادرًا، لكن في النهاية كتابة هذه الأفكار تمنح الكاتب دفقة من السعادة عند التعبير عنها.

رغم ذلك لا يرى الأمر بهذه البساطة لأنه عندما تظهر فكرة يتبعها الكاتب بقراءة المزيد عنها، والتفكير فيها وتدوين الملاحظات حولها. لذلك هي ليست مجرد فكرة يكتب عنها بسهولة، لكن الأمر يستغرق بعض الوقت حتى تنطلق وتصبح محددة وملموسة بدرجة تكفي للكتابة عنها.

عند سؤال قرنه عن العلاقة بين حكاياته الشخصية وحكاية بطل روايته "أمام البحر" صالح عمر الذي وصل إلى مطار غاتويك وهو يبحث عن ملاذ في بريطانيا العظمى، خاصة أن قرنة فعل نفس الشيء قبل أكثر من 50 عامًا، قال إنه غادر زنجبار عام 1967 حين كانت مكانًا مرعبًا للحياة، وكانت الحكومة في حالة غضب وتصب عقابها على جميع المواطنين. تعرض الناس للقتل والاضطهاد والسجن. ويكمل قائلًا: عندما كنت شابًا فكرت أنني لا يمكنني تحمل الحياة بهذا الشكل ولا أريد أن أبقى عالقًا هناك. كان الذهاب إلى إنكلترا مغامرة لكنها كانت خسارة كبيرة أيضًا. بالرغم من حياة قرنه في بريطانيا منذ أكثر من خمسة عقود إلا أنه ما زال متمسكًا بهويته وقادرًا على تحديدها بدقة فهو رجل من زنجبار يعيش ويكتب في المملكة المتحدة، فهو لا يقول إنه كاتب أفريقي أو كاتب بريطاني. ويرى أن الهوية لا يمكن أن تكون وسيلة لاختزال كيان الشخص وتبسيطه.

عدد من كتب عبد الرازق قرنه  (gettyimages)



عند سؤاله عن سبب كتابته باللغة الإنكليزية، قال إنه لم يقرر الأمر لكنه أراد ذلك بسبب شعوره بالراحة الكبيرة أثناء كتابته بها. لم يفكر قرنه بشكل متعمد في اللغة التي يريد الكتابة بها، لكن الأمر أنه شعر بعلاقة حميمة مع اللغة الإنكليزية لم يشعر بها مع اللغة السواحلية. يرى أن الأمر لا يتعلق دائمًا بالاختيارات، هناك أشياء لا يختارها الناس مثل الكتابة. إنها ليست مسألة تجميع كلمات لكنها نوع من الاتصال والشعور الحميم باللغة هو ما يصنع الكتابة.

رغم حصوله على جائزة نوبل وحصول الكاتب الجنوب أفريقي محمد مبوغار على جائزة غونكور عام 2021 إلا أنه لم ينظر نظرة متفائلة إلى الجوائز ويعتبرها مجرد مصادفة تتعلق بجودة الكتابة، ويعتقد أن الكتابة جزء لا يتجزأ من النضال ضد الاستعمار، ويشير إلى مارتن لوثر كينغ أو نيلسون مانديلا اللذين انتشرا خارج حدودهما المكانية عن طريق الكتابة والأفكار التي تصل إلى من هم في ظروف مماثلة وتعطيهم مثالًا لما يمكن أن يفعلوه.

لا يفضل قرنه النصائح ولا يرى أن هناك أي نصائح مجدية سوى الاستمرار في الكتابة بعزيمة قوية دون كلل. يقول: حتى إذا كنت على الطريق الخطأ، ستكتشف ذلك عاجلًا أم آجلًا. لكن هذا الاكتشاف لن يحدث بدون الاستمرار في عملية الكتابة، ويعتبر أفضل اللحظات لحظة اكتمال الكتابة. رغم ملذات عملية الكتابة نفسها واللحظات الجميلة على مدار اليوم عندما يشعر أنه كتب بشكل جيد، لكن هناك أيضًا أيام صعبة، عندما يستيقظ ويفكر في الثقل الذي تحمله الكتابة إياه. لذلك اللحظة الأفضل بالنسبة له عندما يقول لنفسه "لقد انتهيت".

أكثر ما يمنحه الحرية والإلهام أثناء الكتابة هو أن يكون قادرًا على التحدث بصدق عما يراه وما يقلقه ويلفت انتباهه. فهو على سبيل المثال مهتم بالعلاقات بين العائلات والطريقة التي تسير بها بالإضافة إلى صراعات السلطة داخل كل عائلة، كما يفكر أيضًا في الطريقة التي تعامل بها النساء في ثقافته أو في الثقافات الأخرى. هذا بالإضافة إلى رغبته في خلق عمل فني جميل وممتع.

يتحدث قرنه في النهاية عن التغيرات التي طرأت عليه بعد حصوله على جائزة نوبل ويقول إن الجائزة شرف عظيم وهو فخور بها لأنها جائزة عالمية، تعني أن هناك الكثير من الناس يريدون معرفته وقراءة أعماله والتحدث معه والكتابة عنه، بالإضافة إلى رغبة ناشرين من مختلف اللغات في نشر أعماله التي ستصل إلى جمهور أكبر. ويقول: "استغرق الأمر الكثير من الوقت وكان من الصعب الكتابة خلال تلك الفترة، ولكنها فترة مؤقتة وستنتهي".


مصادر:

https://www.nobelprize.org/prizes/literature/2021/gurnah/184721-gurnah-interview-february-2022/
https://www.dw.com/en/nobel-laureate-abdulrazak-gurnah-on-exile-and-literature/a-61154081 

 الحوار الذي نشر مع عبد الرازق قرنه على موقع جائزة نوبل: