توحيد العالم

شتيفان تسفايغ 13 يوليه 2024
ترجمات
شتيفان تسفايغ (Getty)

ترجمة وتقديم: إسكندر حبش

تقديم
كأنه نص مكتوب اليوم لا قبل قرن من الزمن (نُشر في صحيفة Berliner Börsen-Courier، بتاريخ الأول من شباط / فبراير من العام 1925). هذا ما يبدو عليه نص الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ "توحيد العالم" (وإن كنت أفضل ترجمته بــ"تنميط العالم"). كأنه نص عن "العولمة" القاسية، قبل نحت هذا المصطلح في القرن الواحد والعشرين، وقبل أن تذهب الأمور إلى "نهايات التاريخ المحتملة". نص يعالج فيه انحدار القيم والثقافة وسيطرة "النمط" الأميركي على كل المفاصل التي نعرفها في هذا العالم.
من هنا، لنعد قليلًا إلى الوراء، لتأطير هذا النص في سياقه التاريخي. في وقت مبكر من سنة 1925، تنبأ تسفايغ بواحدة من الاضطرابات الاجتماعية الكبرى في عصرنا: توحيد (تنميط) العالم، بينما كان مفهوم العولمة لا يزال بحاجة إلى الابتكار، لذا نراه يتفحص المجتمعات التي تمحو تدريجيًا كل خاصيتها؛ من هنا تساؤله: كيف وصلنا إلى هذا الدرك؟
ثمة "حزن مضيء" في هذه الصفحات القليلة، التي يتشكل منها هذا النص الذي يصف فيه "الفورية والتزامن"، عبر جملة من الأشياء هي السينما والموضة والراديو والرقص... ليجد أن عبادة الأشياء سريعة الزوال، والتي سهلت وجودها الاضطرابات التقنية العميقة، تلعب دورًا مركزيًا في التقييس الذي انتقده الكاتب.
وإذا كان تسفايغ يندد بخطورة هذه العملية، فذلك ببساطة لأن حريتنا على المحك. ففي الوقت الذي بدأت فيه الفاشية في الظهور، يحذرنا هذا المثقف الفعلي من شكل آخر من أشكال الاستبداد. لأنه لا يوجد سوى خطوة واحدة من توحيد أنماط الحياة لتصل إلى عبودية الأفراد الطوعية. ومن خلال صدى جماهيرية الحياة الاجتماعية، يفتح هذا التوحيد الباب في نهاية المطاف أمام كل التجاوزات الاستبدادية للسلطة، والتي يدرك تسفايغ مخاطرها بحساسية. لذا يجد أن ملاذ الأفراد المتمردين الأخير يكمن في الهروب إلى أنفسهم، إلى داخل ذاتهم، لنسيان القمع الجماعي.
من قرأ "عالم الأمس" للكاتب، وهو واحد من كبريات الكتب في القرن العشرين في رأيي الخاص (تُرجم إلى العربية)، لا بدّ أن يجد فيه صدى لهذه المقالة، أو ربما نستطيع القول إن هذه المقالة تشكل نواة فكرية لما طوره تسفايغ لاحقًا في كتابه الموسوم. ففي كتابه هذا الذي كتبه في البرازيل بعد هجرته إليها وهروبه من النازية، وقبل أن ينتحر هناك، نعى تسفايغ تلك اللحظة التاريخية التي عاشها بدءًا من طفولته، نعى ذاك العالم الذي انهار بعد أن استلم الرايخ مقاليد السلطة في العالم. نعى انهيار كل شيء، بدءًا من الثقافة والسياسة وصولًا إلى الثقافة، التي سقطت ضحية الاستبداد. هنا أيضًا، وقبل ذاك الكتاب بعقدين، يحذر تسفايغ من عملية دخولنا ووقوعنا في تنميط كل شيء، لدرجة أننا نفقد خاصياتنا، أي ثقافتنا التي شكلتنا. ربما لم نتعلم شيئًا من ذاك كله، إذ لا يمكن نفي أننا نذهب بملء غرادتنا إلى حتفنا، إلى المجهول مرة أخرى. لننظر إلى ما يحدث في العالم اليوم: كأن الزمن لم يتغير.

نص شتيفان تسفايغ
على الرغم من كلّ السعادة التي منحتني إيّاها كلّ رحلة قمت بها في السنوات الأخيرة، إلا أن ثمة انطباعًا دائمًا تشكل في ذهني: الرعب الصامت من رتابة العالم. تنتهي أنماط الحياة بأن تتشابه، وأن تتوافق كلّها مع نمط ثقافي متجانس. تختفي العادات الخاصة بكلّ شعب، تصبح الأزياء موحدة، تكتسب الأخلاق طابعًا كونيًا متزايدًا. يبدو أن البلدان، إذا جاز التعبير، لم تعد قابلة للتمييز عن بعضها بعضًا، بينما ينشط البشر ويعيشون وفق نموذج واحد، في حين تبدو المدن كلها متطابقة. تأمرك ثلاثة أرباع باريس، وفيينا أصبحت بودابست: فالنكهة الرهيفة لما هو فريد من نوعه في الثقافات تختفي أكثر فأكثر، وتتلاشى الألوان بسرعة غير مسبوقة، وتحت طبقة الورنيش المتشققة، يظهر مكبس النشاط الميكانيكي ذو اللون الفولاذي، آلة العالم الحديث. لقد كانت هذه العملية جارية منذ فترة طويلة جدًا: قبل الحرب، أعلن راثينو[1] بشكل نبوي عن مكننة الوجود هذه، ورجحان التكنولوجيا، باعتبارها أهم ظاهرة في عصرنا. ومع ذلك، لم يكن هذا التراجع في تجانس أنماط الحياة قط بهذه السرعة والتنوع، كما حدث في السنوات الأخيرة. دعونا نكون واضحين! إنها بلا شك الظاهرة الأكثر سخونة والأكثر خطورة في عصرنا.
الأعراض: يمكننا أن نذكر المئات منها لتوضيح المشكلة. سأختار بسرعة عددًا قليلًا من أكثرها شيوعًا، وأكثرها تآلفًا لدى الجميع، لإظهار إلى أي مدى أصبحت العادات والتقاليد موحدة وفقيرة على مدى العقد الماضي.
الأكثر وضوحًا: الرقص. قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، كان لا يزال مرتبطًا بأمة معينة وبميل الأفراد الشخصي. في فيينا، كانوا يرقصون الفالس، وفي المجر السيزاردا، وفي إسبانيا البوليرو، وذلك وفقًا لإيقاعات وألحان مختلفة لا حصر لها، والتي شكلت بوضوح عبقرية الفنان، وكذلك روح الأمة. اليوم، يرقص الملايين من الناس، من كيب تاون إلى ستوكهولم، ومن بوينس آيرس إلى كالكوتا، بالطريقة نفسها، على أنغام خمسة أو ستة ألحان متطابقة، رغم كونها غير شخصية. يبدأون في الوقت عينه: مثل المؤذنين في بلاد المشرق، الذين ينادون كل يوم، عند غروب الشمس، عشرات الآلاف من المؤمنين للصلاة، المتماثلة دائمًا، كما لو أنه لا يوجد هناك سوى عشرين كلمة، عشرين تدبيرًا تدعو يوميًا، في الساعة الخامسة بعد الظهر، كل الغربيين ليواصلوا الطقوس عينها. لم يحدث قط، باستثناء بعض الصيغ الموسيقية والأشكال التي تُمارس داخل الكنيسة، أن عرف مئتا مليون شخص مثل هذا التزامن وهذا التوحيد في التعبير، مثل العرق الأبيض في أميركا وأوروبا وجميع المستعمرات في الرقص الحديث.
المثال الثاني: الموضة. لم يكن هناك مثل هذا التشابه الصارخ في جميع البلدان كما هو الحال في عصرنا. في الماضي، كان الوقت اللازم لانتشار الموضة الباريسية إلى المدن الكبرى الأخرى يُحسب بالسنوات، وسنوات عدة أخرى حتى تنتشر في الريف. بيد أن الناس كانوا يحترمون حدودًا معينة كما تقاليدهم، ما سمح لهم بمقاومة متطلبات الموضة الاستبدادية. اليوم، أصبحت دكتاتوريتها عالمية تستغرق زمن نبض القلب. تُملي نيويورك الشَعر القصير على النساء: ففي شهر واحد، سقط 50 أو 100 مليون عُرفُ أنثى، كما لو أنه تم قصها بمنجل واحد. لم يعرف أي إمبراطور أو خان ​​في تاريخ العالم مثل هذه القوة، ولم ينتشر أي مذهب أخلاقي بهذه السرعة. لقد استغرق الأمر قرونًا وعقودًا حتى تمكنت المسيحية، كما الاشتراكية، من تحويل أتباعهما، وجعل وصاياهما فعالة على عدد كبير من الأشخاص، بينما خياط باريسي اليوم يخضعهم لتأثيره اليوم في غضون ثمانية أيام.
المثال الثالث هو السينما، حيث يوجد مرة أخرى هذا التزامن الذي لا يقاس، في جميع البلدان وبجميع اللغات، والذي من خلاله تشكل التمثيلات نفسها مئات الملايين من الناس، وحيث تتشكل الأذواق نفسها (أو الأذواق السيئة). يُحتفل بالإلغاء الكامل لأي لمسة شخصية، حتى لو امتدح المنتجون أفلامهم منتصرين باعتبارها وطنية: إيطاليا تشيد بـ Nibelungen[2]، بينما تصفق المقاطعات الألمانية الأكثر شعبية تصفيقًا حارًا لماكس ليندر[3] من باريس. وهنا أيضًا تكون الغريزة الجماعية أقوى وأكثر سيادة من الفكر الحر. كان وصول جاكي كوغان[4] المنتصر تجربة أقوى في عصرنا من وفاة تولستوي قبل عشرين عامًا.




مثال رابع: الراديو. كل هذه الاختراعات لها هدف واحد فقط: التزامن. إن اللندني والباريسي والفييني يسمعون الشيء نفسه في الثانية نفسها، وهذا التزامن، وهذا الانتظام يُسكر بعظمته. إنه نشوة، ومنبه للجماهير، ولكن كل هذه العجائب التقنية الجديدة تحافظ في الوقت عينه على خيبة أمل هائلة للروح وتملق سلبية الفرد بشكل خطير. وهنا أيضًا، كما هو الحال في الرقص والأزياء والسينما، يخضع الفرد لأذواق القطيع نفسه؛ فهو لم يعد يختار من داخله، بل من خلال التمسك برأي الجميع.
ويمكننا أن نسرد هذه الأعراض إلى ما لا نهاية، لأنها تتكاثر يومًا بعد يوم. إن الشعور بالحرية الفردية في الاستمتاع يطغى على العصر. إن ذكر خصوصيات الأمم والثقافات أصبح الآن أكثر صعوبة من سرد أوجه التشابه بينها.
العواقب: اختفاء كل فردية، حتى في المظهر الخارجي. فواقع أن الناس جميعًا يرتدون الملابس نفسها، وأن جميع النساء يرتدين الفستان نفسه، ويضعن المكياج نفسه، أمر لا يخلو من الخطر: يجب أن تتغلغل الرتابة في الداخل بالضرورة. وفي نهاية المطاف، تتشابه الوجوه، لأنها تخضع للرغبات نفسها، مثل الأجساد التي تمارس الرياضة نفسها، والعقول التي تشترك في مراكز الاهتمام نفسها. من دون وعي، يتم إنشاء روح واحدة، روح جماعية، مدفوعة بالرغبة المتزايدة في التوحيد، والتي تحتفل بانحطاط الأعصاب لصالح العضلات وموت الفرد لصالح النوع العام. المحادثة، فن الكلام هذا، تُبلى في الرقص وتتشظى فيه، يفقد المسرح حظوته أمام السينما، وتتخلل الأدب استخدامات الموضة، التي تتميز بالسرعة، و"النجاح الموسمي". وكما هو الحال في إنكلترا، فإن الأدب الشعبي يختفي بالفعل في مواجهة ظاهرة "كتاب الموسم" المتنامية، تمامًا كما ينتشر شكل النجاح الخاطف على الراديو، الذي يبث في وقت واحد على جميع المحطات الأوروبية قبل أن يتبخر بعد ثانية. وبما أن كلّ شيء موجه نحو المدى القصير، يزداد الاستهلاك: وهكذا يصبح التعليم، الذي استمر بصبر وعقلانية، وساد طوال الحياة، ظاهرة نادرة جدًا في عصرنا، مثل كل ما يتم اكتسابه بالجهد الشخصي.



المصدر: من أين تأتي هذه الموجة الرهيبة التي تهدد بأن تحمل معها كل ما هو ملون، كل ما هو مميز في حياتنا؟ كل من كان هناك يعرف ذلك: من أميركا. على الصفحة التي تلت الحرب العظمى، سيكتب مؤرخو المستقبل أن عصرنا يمثل بداية غزو أميركا لأوروبا. أو أسوأ من ذلك، أن هذا الفتح يجري بالفعل على قدم وساق، ونحن لا نلاحظ ذلك حتى (جميع المهزومين دائمًا ما يكونون بطيئين جدًا). كل دولة، بكل صحفها ورجال دولتها، تفرح عندما تحصل على قرض بالدولار الأميركي. إننا مازلنا نخدع أنفسنا بشأن أهداف أميركا الخيرية والاقتصادية: وفي واقع الأمر، فقد أصبحنا نشكل مستعمرات حياتها، وأسلوب حياتها، وعبيدًا لفكرة شخصية للغاية بالنسبة إلينا نحن الأوروبيين: ألا وهي مكننة الوجود.
لكن هذا الاستعباد الاقتصادي لا يزال يبدو لي ضئيلًا مقارنة بالخطر الذي يدور في الذهن. لن يكون استعمار أوروبا هو الأمر الأكثر إثارة للخوف على المستوى السياسي؛ بالنسبة إلى النفوس الخاضعة، كل استعباد يبدو حلوًا، والإنسان الحر يعرف كيف يحافظ على حريته في كل مكان. يبدو لي أن الخطر الحقيقي على أوروبا يكمن في الجانب الروحي، في اختراق الملل الأميركي، هذا الملل الرهيب، الخاص للغاية، الذي ينشأ هناك من كل حجر ومن كل منزل في الشوارع المرقمة، هذا الملل الذي ليس، كما كان الحال في الماضي مع الملل الأوروبي، أي ملل الراحة، الذي يتكون من الجلوس على مقعد الحانة ولعب الدومينو وتدخين الغليون، وهو مضيعة للوقت كسولة، ولكنها غير ضارة: بينما الملل الأميركي، من جهته، فهو غير مستقر، عصبي وعدواني، نرهق أنفسنا في الإثارة المحمومة ونسعى إلى تدويخ أنفسنا بالرياضة والأحاسيس. لم يعد للملل أي شيء مرح، بل أصبح يركض بهوس مسعور، في رحلة دائمة عبر الزمن: فهو يخترع وسائل فنية جديدة دائمًا، مثل السينما والراديو، وطعامًا جماعيًا يطعم به الحواس الجائعة، وبذلك يحول مجتمع الباحثين عن المتعة إلى شركات عملاقة، مثل بنوكها وصناديقها الاستثمارية. من أميركا تأتي هذه الموجة الرهيبة من التوحيد التي تمنح جميع البشر الشيء نفسه، حيث يضعون البدلة نفسها على ظهورهم، والكتاب نفسه في أيديهم، وقلم الحبر نفسه بين أصابعهم، والمحادثة نفسها حول الشفاه، والسيارة نفسها بدلًا من القدمين. وعلى الجانب الآخر من عالمنا، في روسيا، هنالك حتمًا الرغبة نفسها في الرتابة، ولكن بشكل مختلف: الرغبة في تفتيت الإنسان وتوحيد رؤية العالم، وهي في حدّ ذاتها رغبة فظيعة في الرتابة. لا تزال أوروبا هي المعقل الأخير للفردية، وربما أن اضطرابات الشعب هذه المثارة، هذه القومية المتفاقمة، على الرغم من كل عنفها، هي نوع من التمرد اللاواعي والمحموم، وهي محاولة يائسة أخيرة لمقاومة المساواتية. لكن هذا الشكل من الدفاع المتشنج هو بالتحديد الذي يكشف ضعفنا. إن عبقرية الرصانة تعمل بالفعل على محو أوروبا من كتب التاريخ، اليونان الأخيرة في التاريخ.
المقاومة: ماذا علينا أن نفعل الآن؟ عند اقتحام مبنى الكابيتول، صرخ الناس: "في أعلى الحصون، يوجد البرابرة، إنهم يدمرون عالمنا"! كانوا ينطقون بكلمات قيصر من جديد، ولكن من الآن فصاعدًا، بمعنى أكثر جدية: "يا شعب أوروبا، حافظوا على أقدس ممتلكاتكم"! لا، لم نعد ساذجين وعميان لدرجة الاعتقاد بأنه لا يزال في إمكاننا اختراع جمعيات وكتب وبيانات ضد هذه الحركة العالمية الوحشية ووضع حدّ لشهية الرتابة هذه. كل ما كتبناه بقي قطعة من الورق، ألقيت في وجه الإعصار. ما كتبناه لم يصل إلى لاعبي كرة القدم والراقصين المتألقين، ولو وصل إليهم فلن يفهمونا أبدًا.
كل هذه الأشياء التي ذكرتها للتو، السينما والراديو والرقص، وكل هذه الوسائل الجديدة لمكننة البشرية، تمارس قوة هائلة لا يمكن تجاوزها. جميعها، في الواقع، تلبي مثل المعدل المتوسط الأعلى: تقديم المتعة من دون الحاجة إلى جهد. وتكمن قوتها التي لا تقبل المنافسة في هذا: إنها تشعر بالراحة بشكل لا يصدق.
يمكن أن تتعلم عاملة تنظيف، الخرقاء أكثر من غيرها، هذه الرقصة الجديدة في ثلاث ساعات، بينما تثير السينما بهجة الأميين، الذين لا يحتاجون إلى تربية كبيرة للاستمتاع بالراديو؛ كل ما عليك فعله هو وضع سماعات الرأس على رأسك، ويمكنك بالفعل سماعه وهو يتدحرج في أذنيك ــ حتى الآلهة تقاتل عبثًا ضد هذه الراحة. ولا يتطلب ذلك سوى الحد الأدنى من الجهد العقلي والجسدي، والحدّ الأدنى من القوة الأخلاقية التي يجب أن تسود بالضرورة بين الجماهير، إلى الحدّ الذي تثير فيه عاطفة الأغلبية. ومن يدعو حتى اليوم إلى الاستقلال، أو إلى تقرير المصير، أو الشخصانية في المتعة، يبدو غير ذي أهمية في مواجهة مثل هذه القوة المتضخمة. والحقيقة هي أنه مع تزايد شعور البشرية بالملل والرتابة، لا يحدث لها شيء سوى ما تريده في أعماق نفسها. إن الاستقلالية في أسلوب الحياة، وحتى في الاستمتاع بها، لم يعد يشكل هدفًا، إذ لا يدرك معظم الناس إلى أي حد أصبحوا ذرات عنف عملاقة. وهكذا يسمحون لأنفسهم بأن ينجرفوا للتيار الذي يجذبهم نحو الفراغ؛ وكما قال تاسيتوس[5]: "ruere in servitium"، فإنهم "يلقون بأنفسهم في العبودية"؛ لقد دمر هذا الشغف بالذوبان الذاتي جميع الأمم. والآن جاء دور أوروبا: فالحرب العالمية كانت المرحلة الأولى، والأمركة هي المرحلة الثانية.




إذن، لا مقاومة! سيكون من العار أن نحاول إبعاد الناس عن هذه المتع الصغيرة (الفارغة داخليًا). لأننا ــ لنكون صادقين ــ ماذا علينا أن نقدم لهم؟ لم تعد كتبنا تمسهم، لأنها توقفت منذ زمن طويل عن تقديم العرق البارد، أو الإثارة المحمومة التي توفرها الرياضة والسينما بوفرة. بل إن لديهم الجرأة ليطلبوا مسبقًا من كتبنا، وجهدنا العقلي وتعليمنا، تعاون المشاعر وتوتر الروح. لقد أصبحنا ــ لنعترف بذلك ــ غريبين للغاية عن كل هذه الملذات والعواطف الجماعية، وبالتالي عن روح العصر، نحن، الذين تعتبر ثقافتنا الروحية شغفًا بالحياة، نحن الذين لا نشعر بالملل أبدًا، والذين كل يوم هو بالنسبة لنا ست ساعات قصيرة جدًا، نحن الذين لا نحتاج إلى أجهزة لقتل الوقت، ولا إلى آلات القوس، ولا إلى آلات الرقص، ولا إلى السينما، ولا إلى الراديو، ولا إلى الجسر، ولا إلى عروض الأزياء. كل ما نحتاجه هو المرور بلوحة إعلانية في مدينة كبيرة، أو قراءة صحيفة تصف بالتفصيل معارك هوميروس في مباريات كرة القدم، لنشعر أننا أصبحنا بالفعل غرباء، مثل آخر الموسوعيين خلال الثورة الفرنسية، وهو نوع نادر ومهدد بالانقراض. مع انقراضها اليوم في أوروبا، مثل الشامواه والإديلويس (edelweiss)[6]. ربما في يوم من الأيام سيتم إنشاء محمية طبيعية لنا، نحن آخر العينات ذات النوع النادرة، للحفاظ عليها ولحفظها بكل احترام بكوننا نشكل عجائب العصر، ولكن يجب أن ندرك أننا منذ فترة طويلة نفتقر إلى أي قوة لمحاولة أدنى شيء ضد هذا التوحيد المتزايد للعالم. في مواجهة هذا الضوء المبهر لأرض المعارض، لا يمكننا إلا أن نبقى في الظل، ومثل رهبان الأديرة خلال الحروب الكبرى والاضطرابات الكبرى، نسجل في السجلات والحوليات عددًا من الأشياء التي، مثلهم، نراها حالة من الفوضى، هزيمة العقل. لكن لا يوجد شيء يمكننا القيام به، ولا شيء يمكننا منعه، ولا شيء يمكننا تغييره: أي دعوة للفردانية للجماهير، وللإنسانية، ستكون غطرسة وادعاء.
الملاذ الأخير؛ لم يبق لدينا سوى شيء واحد، لأننا نرى في الصراع عبثًا: الهروب، الهروب داخل أنفسنا. لا يمكننا إنقاذ الفرد في العالم، يمكننا فقط الدفاع عن الفرد داخل أنفسنا. إن أعلى إنجاز للإنسان الروحي هو الحرية، الحرية في ما يتعلق بالآخرين، بالآراء، بالأشياء، الحرية للذات. وهذه هي مهمتنا: أن نصبح أكثر حرية، بينما يخضع الآخرون أنفسهم طواعية! كلما تنوعت الاهتمامات وامتدت إلى كل سماوات العقل، كلما أصبحت ميول الآخرين رتيبة، أحادية، ميكانيكية! وكل هذا من دون تفاخر! لا تتفاخروا بذلك: نحن مختلفون! لا تظهروا ازدراءكم لكل هذه الأشياء، التي ربما يكون لها معنى أسمى لا نفهمه. دعونا نفصل أنفسنا من الداخل، ولكن ليس من الخارج: دعونا نرتدي الملابس نفسها، ونحتضن جميع وسائل الراحة التي توفرها التكنولوجيا، ودعونا لا نستهلك أنفسنا في الابتعاد بازدراء، وفي مقاومة غبية وعاجزة للعالم. دعونا نعشْ بهدوء، ولكن بحرية، دعونا ندمج أنفسنا بصمت وتكتم في الآلية الخارجية للمجتمع، ولكن دعونا نعشْ وفقًا لميولنا الوحيدة، التي هي الأكثر شخصية بالنسبة لنا، دعونا نحافظ على إيقاع حياتنا الخاص! دعونا لا ننظر بعيدًا بفخر، ولا نبتعد بوقاحة، بل دعونا ننظر ونسعى إلى التعرف على ما لا يخصنا، ثم نرفضه عن علم، ونحافظ عن علم على ما يبدو ضروريًا لنا. لأننا إذا رفضنا في نفوسنا التوحيد المتزايد لهذا العالم، فإننا نبقى ممتنين ومخلصين لما هو غير قابل للتدمير فيه، لما يبقى وراء كل تغيير. ولا تزال هناك قوى فاعلة، وهي تتجاهل أي تشظٍّ أو تسوية. تتغير أشكال الطبيعة دائمًا، وتشكل الجبال والبحر، على مدار الفصول، بطرق جديدة إلى الأبد. لا يزال إيروس يلعب لعبته المتنوعة على الدوام، ويعيش الفن في اختراع كائنات متعددة باستمرار، وتنبع الموسيقى من مصادر صوتية غير متجانسة بشكل متزايد، وتأتي من أشخاص منفتحين، وينتج عن عدد لا يحصى من الظواهر والصدمات مزيد من الكتب والصور. إذا كان كلّ ما نسميه ثقافتنا، بكلمة مؤسفة ومصطنعة، يصبح أكثر فأكثر مجزًأ ومخيبًا للآمال، فإن "الخير الأساسي للإنسانية"، كما يشير إميل لوكا[7] إلى عناصر الروح والطبيعة في كتابه الرائع، لا يمكن له أن يباع للجماهير، لأنه يكمن عميقًا في آبار العقل، في صالات المشاعر تحت الأرض، ويبقى بعيدًا جدًا عن الشوارع، بعيدًا جدًا عن الراحة. هنا، في العنصر الذي يتحول إلى الأبد والجاهز دائمًا للتجديد، ينتظر المتطوعين تنوعًا لا حصر له: هنا ورشة عملنا، عالمنا الخاص، الذي لن يكون رتيبًا أبدًا.

هوامش المترجم:
[1] والتر راثينو، صناعي وكاتب وسياسي ألماني، ولد في برلين يوم 29 أيلول/ سبتمبر من عام 1867 وتوفي فيها مقتولا في 24 حزيران/ يونيو 1922.
[2] نيبيلونجن، النسخة القارية والمسيحية من أسطورة سيغيفرد، والتي تم تأليفها أيضًا في القرن الثالث عشر، والتي أصبحت ملحمة وطنية ألمانية.
[3] ممثل ومخرج فرنسي (1883 ــ 1925).
[4] ممثل أميركي (1914 ــ 1984).
[5] Tacite، مؤرخ وفيلسوف وسيناتور روماني (58 ــ 120 بعد الميلاد).
[6] نوع من النبات.
[7] رياضي فرنسي شهير في زمنه (1888 ــ 1935).