Print
عماد فؤاد

"أغنية البجعة 1945".. تأريخ انتحار هتلر ونهاية الرايخ الثالث

1 يوليه 2020
تغطيات

في العشرين من أبريل/ نيسان 1945، كان الزعيم النازي أدولف هتلر يحتفل في مخبئه البرليني بعيد ميلاده الـ 56، وسط قلّة من رجاله للمرّة الأخيرة في حياته. كان هذا المخبأ هو آخر ملاذ آمن في ألمانيا النازية قبل أن ينهار تحت وقع أقدام جنود أميركا وروسيا وهم يتصافحون على ضفاف نهر إلبه في الشمال الشرقي من ألمانيا يوم 25 أبريل/ نيسان، في الأثناء، يبدأ على قدم وساق تأسيس الأمم المتحدة في نيويورك، وبعد خمسة أيام ينتحر هتلر، وتستسلم ألمانيا النازية أخيرًا في 8 مايو/ أيار، لتتوقّف واحدة من أبشع الحروب التي خاضها العالم، والتي توصف حتى اليوم بأنها كانت مفرمة حقيقية لملايين من الجنود.
هذا طرف مما يرويه لنا هذا الكتاب النادر في طريقته الخاصة لرصد وتأريخ الأيام الأخيرة من حياة الرايخ الثالث ونهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال توثيق مذكّرات ويوميّات عشرات الأشخاص الذين عايشوها، مشاهير ومجهولين، كُتّاب وشعراء ومثقّفين، إلى جوار شهادات نساء وجنود وأمّهات لا يعرفهم أحد. كل هذه الأصوات ينسجها الكاتب والمؤرّخ الألماني فالتر كمبوفسكي (1929-2007) تحت عنوان "أغنية البجعة 1945"، وهو الكتاب الذي ضمّنه "مذكّرات جماعية من عيد ميلاد هتلر الأخير حتى التّحرير"، كما يوضح العنوان الفرعي في نسخته الهولندية التي ظهرت مؤخرًا، بعد مرور 75 عامًا بالضبط من وقوع الأحداث التي يرويها!
"أغنية البجعة 1945"، هو إذن الوتر الأخير لمشروع من عدّة أجزاء، كان كمبوفسكي قد بدأ نشره في الفترة بين 1993 و2005 تحت عنوان "مسبار الأعماق" أو "Das Echolot"، (تم نشر المجلّدات الأربعة الأولى في أكثر من 3 آلاف صفحة عام 1993)، والذي قام على تأريخ اللحظات الحاسمة من الحرب العالمية الثانية، استنادًا إلى يوميات ومذكّرات وشهادات ورسائل كلّ من عايش الحرب وشهد لحظاتها المهمّة، بحث كمبوفسكي منذ الثمانينيات عن هذه الوثائق تحت شعار "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، بل نشر إعلانات في الصحف للحصول عليها من أصحابها باعتبارها مادة يجب التّأريخ لها، وهكذا تكوّن لديه أرشيف ضخم قوامه ما يربو على 4 ملايين وثيقة، ما بين: يوميات، رسائل، صور، منشورات، شرائط، نصوص محاضرات، خطب إذاعية، تليغرافات، مذكرات وخواطر، أو ما أسماه كمبوفسكي نفسه: "سير ذاتية صغيرة غير منشورة"، وفيها تتجاور صرخات الضحايا وأصوات الجناة، استغاثات الجنود الصغار وصرخات القادة الكبار، ما يشكّل أمامنا صورة كاملة عن الأسابيع الأخيرة من حياة الرايخ الثالث وانتحار هتلر، بكل ما تتضمّنه من هزيمة وعمى سياسي وخوف من موت وأمل يائس في نجاة.

مجلدات كمبوفسكي الأربعة 

 

أربعة أيام فقط
كتب كمبوفسكي بالفعل العديد من الروايات حول التاريخ الألماني المؤلم، لكنه بدأ العمل على مشروعه المختلف مبكّرًا، ومن هذه القطع المكتوبة على أوراق صفراء هرّأها الزمن، شكّل كمبوفسكي على مدى مجلّداته الأربعة، صورة أكثر واقعية لرعب أيام الحرب حتى انتحار هتلر، مقدّمًا ذاكرة متعدّدة الأصوات، فنقرأ كلمات هتلر وموسوليني الأخيرة بجوار البرقيات التي تبادلها تشرشل وستالين في تلك الأيام، كما تتناوب أمام أعيننا رسائل الجنود الروس إلى حبيباتهم وأمّهاتهم، جوار شهادات النساء الألمانيات اللاتي تعرّضن للاغتصاب على يد الجنود الروس أنفسهم، على هذا النحو يجاور كمبوفسكي في تأريخه بين الجميع، الجنود الألمان وأقرانهم من البريطانيين والأميركيين، نسمع أصوات ربّات البيوت وأطفال المدارس كما نسمع كلمات ريتشارد شتراوس وتوماس مان وأناييس نن، ما مكّننا، ليس فقط من الاطّلاع على الحقائق التي عايشها الناس آنذاك، بل أيضًا قراءة الشائعات التي نعرف الآن أنها لم تكن صحيحة، ما يمنحنا الشعور بأننا قريبون جدًا من هذه الأصوات، حتى ولو كانت مجهولة في أغلبها.
في "أغنية البجعة 1945"، يركّز كمبوفسكي على أربعة أيام فقط في نهاية الحرب، هي 20 و25 و30 أبريل/ نيسان و8/9 مايو/ أيار، متّبعًا الأسلوب ذاته الذي انتهجه في مجلّداته السابقة، حيث النصوص مرتّبة ترتيبًا زمنيًا، من دون أيّ تدخّل منه في شكل تفسيرات أو تعليقات، فوق كل نص يوجد فقط اسم الكاتب وتاريخ ميلاده ووفاته بالإضافة إلى مكان إقامته، ليتبيّن لنا أن المذكّرات الجماعية لا تحتوي فقط على أصوات الغرباء، بل أيضًا على شهادات لسياسيين وكُتّاب وصحافيين وفنانين: كلود سيمون، الفائز لاحقًا بجائزة نوبل في الآداب، توماس مان، إرنست يونغر، أناييس نن، هنري ميللر (في رسالة إلى أناييس نن)، هانز فالادا، الطبيب الشخصي لهتلر تيودور موريل، صوفي وهانز شول، إرفين روميل، برتولت برشت، وقبل كل شيء، ووفقًا للفكرة الأساسية للمشروع، العديد من المجهولين.

 غلاف الترجمة الهولندية للكتاب 


















الجمعة 20 أبريل/ نيسان 1945
في الوقت الذي كانت تتفتّح فيه أشجار التفاح في الغابات البافارية، كان الجيش الأحمر يتقدّم بخطى ثابتة إلى برلين، فيما هتلر يحتفل بعيد ميلاده الأخير، ولكن بلا سعادة حقيقية، فقد حاصر الروس المدينة، ولم يشعّ خطاب جوبلز المدوّي في عيد ميلاد هتلر بالثقة كما السابق، بدا الأمر وكأنّه أغنية البجعة الأخيرة، خاصة حين صرخ جوبلز هاتفًا الولاء لـ هتلر"نا". فيما يكتب ألبرت شبير، وزير التسليح في زمن هتلر، قائلًا: "لم نعد نحتفل بعيد ميلاد هتلر، لا أحد يعرف في الواقع كيف يهنّئه". ووفقًا لخادم الفوهرر هاينز لينغه، فإن هتلر لا يريد أن يهنئه أحد، لأنّه: "لا يوجد شيء يمكن تهنئته به"! ويتّفق استنتاجه هذا مع صور اجتماع هتلر بوفد من "شباب هتلر" في مخبأ مستشارية الرايخ، حيث بدا الفوهرر رجلًا مريضًا يتحدث إليهم بخجل وهو يحاول مداراة الرعشة التي تضرب ذراعه اليسرى! ويكتب الصحافي الدنماركي ياكوب كرونيكا من برلين: "وفقًا لسكان برلين، هذا هو عيد ميلاد هتلر الأخير". ويضيف: "عاشوا لسنوات وهم يتمنّون الخلاص! الآن يكرهونه، يخافونه، ينتظرون وبشكل سلبي آخر عمل لهذه الدراما الحربية". فيما تتجاهل الكاتبة الشهيرة أناييس نن هذه الأحداث تمامًا، فهي سعيدة بشكل استثنائي بالقبّعة المخملية التي تلقّتها هدية في ذلك اليوم!
على مبعدة أكثر من 300 كيلومتر غربًا، وفي معسكر الإبادة "بيرغن- بيلزن" الذي تمّ تحريره حديثًا، يكتب الملازم البريطاني مايكل جو في حالة تشنج: "رأينا سيارات إسعاف تتحرّك صعودًا وهبوطًا، لكنّنا لم نتمكّن من معرفة لماذا كانت النقّالات التي تعبرنا فارغة إلا من البطانيات المفرودة عليها، حتى اكتشفنا أنها جميعًا تحمل جثثًا، لا تبدو تحت البطانية من شدّة نحولها"، واختتم الملازم البريطاني خاطرته قائلًا: "كان "بيرغن- بيلزن" أفظع ما رأيته وما سأراه في حياتي على الإطلاق".

الأربعاء 25 أبريل/ نيسان 1945
تلتقي الجبهات الغربية والشرقية للحلفاء على طول نهر إلبه بين برلين ودريسدن، وهناك يسجّل الملازم الأميركي ألبرت ل. كوتزيبو: "تمكّنت عبر منظاري المكبّر من تمييز الجنود في ستراتهم البنية، وعرفت على الفور أنهم من الروس"، أما الضابط الروسي ألكسندر يوردييف فيقول عن لحظة التحرّر هذه: "كنّا متحمسين، فرشنا قطعة قماش على العشب وتبادلنا كؤوس الفودكا الروسية ووجبة خفيفة. ثم قام الأميركيون وجنودنا برفع نخب ألا تكون هناك حروب مرّة أخرى أبدًا". فيما يلتقط المصوّر الصحافي آلان جاكسون صورًا لاجتماع الجنود على شاطئ إلبه، وفيها تظهر المصافحات المنتصرة بين الأميركيين والروس على الجسر المتفحّم بالقرب من بلدة تورجاو، بعد ذلك بيومين فقط يكتب آلان جاكسون: "ظهرت صورتي على الصفحات الأولى لأكبر الصحف. بمرور الوقت، اعتبرت صورتي ثاني أفضل صورة للحرب العالمية الثانية". ولا يخفي جاكسون ضيقه من اعتبار صورة جو روزنتالز التي تسجل لحظة غرس العلم الأميركي على جزيرة "إيو جيما" اليابانية هي الأكثر شهرة. في غضون ذلك، كانت برلين تُسحق تحت القصف العنيف، فيختبئ سكّانها يائسين في الأقبية والملاجئ: "هل يمكننا المخاطرة الآن برفع العلم الأبيض؟" هكذا تساءلت هرتا فون غيبهاردت وهي ترى هذا المشهد المرعب: "تمّ شنق الجنود في شوارع برلين، وعُلّقت على رقابهم لافتات كتب عليها ’كنت جبانًا ولم أتمكن من الدفاع عن زوجتي وأطفالي’"!
أمّا هتلر، فقد كان يتحدّث في مخبئه عن "المعركة الحاسمة". وجاء في تقرير مناقشة طاقمه قوله: "إذا ربحت هذه المعركة، فسوف يتم إعادة انتخابي". لكن الفوهرر كان يعرف النتيجة بالفعل، حيث سمعته سكرتيرته ترودل يونغه يقول: "لا أريد أن أقع في أيدي العدو حيًّا أو ميّتًا. عندما أموت يجب أن يُحرق جسدي ويُفقد أثره إلى الأبد". يونغه أيضًا تسجّل قول هتلر: "الأفضل هو رصاصة في الفم، ستنفجر جمجمتك وتموت قبل أن تشعر"!

فالتر كمبوفسكي (1929-2007)


















الإثنين 30 أبريل/ نيسان 1945
كانت النهاية واضحة ومقرّ الرايخستاغ يحترق أمام الجميع، كتب يفغيني شالديه مصوّر الحرب الروسي: "عندها تسلّقت السقف مع الروس وناولت العلم لأحدهم". هنا استعرت هجمات المنتصرين ضد الألمان، فيسجّل الطالب غوتا من بلدة فيرتشن: "لا يمكن وصف الصرخات والتوسّلات التي كانت تملأ الشوارع والمنازل"، ويضيف: "أخفاني والدي في سقيفة مخزن التبن، لكنه سرعان ما أخرجني منها لظنّه أنها ليست آمنة بما يكفي، وكان على حق؛ بعد عشر دقائق، صعد الروس وشقّوا أجولة التبن التي كنت أختبئ بينها بحراب بنادقهم، كان العديد من الجنود في حالة سكر واضحة، شعرت بالرعب حين لم يستطع والدي حمايتي من اعتدائهم عليّ".
في الوقت ذاته، وفي مقرّ هتلر البرليني، كانت ترودل يونغه سكرتيرة هتلر تسجّل الكلمات التالية: "فجأة سمعنا صوت طلقة، قريبة جدًا لدرجة أنها أصابتنا جميعًا بالشلل"، فتهتف دون أن تدرك مدى صحة ما تنطق به: "حسنًا، لقد كانت تلك إصابة مباشرة. الآن مات الفوهرر". ويرى رئيس الحرس هيرمان كارناو ما يحدث لجسم الفوهرر وهو يحترق: "رأيت فجأة شخصًا يلقي بقطعة قماش مغموسة في البنزين على جسد هتلر المسجّى على ظهره أمامي لتشتعل فيه النار، فيما كانت إيفا براون ملقاة جواره على بطنها".

 

8 / 9 مايو/ أيار 1945
في نهاية "أغنية البجعة 1945"، يحرص كمبوفسكي على ترك الكلمة الأخيرة للجنرال فيلهلم كيتل، والذي صدّق على معاهدة استسلام ألمانيا في برلين يوم 8 مايو/ أيار، وفيها يقول: "بدأ الحفل ببضع كلمات تمهيدية، وبعدها سألني الجنرال الروسي غيورجي جوكوف عمّا إذا كنت قد قرأت اتفاقية الاستسلام. فأجبت "نعم!" فسألني ما إذا كنت على استعداد لتأكيد الاعتراف بها بتوقيعي عليها، فأجبت "نعم!". بعد أن وقّعت على وثيقة الاستسلام تبعني الجميع مباشرة ووقّعوا عليها، بعد ذلك غادرت الغرفة ومن معي إلى الخارج".