}
عروض

"كأني أنا": حين ينتمي الشعر إلى الحياة

راسم المدهون

28 أبريل 2024


في مجموعته الشعرية "كأني أنا" (منشورات ميم ــ الجزائر)، يختار الشاعر الفلسطيني المقيم في غزة، جبر جميل شعت، مشاهد قصيرة، ترسم لتخبر، وتخبر في إيجاز. هي رؤى تطلع من حدقة ترى العالم والحياة من حولها من حيزها الضيق، حيث يمكن للمخيلة أكثر من نظرة العين رؤية تكوينات الواقع ومآلات الحياة كما المفاهيم والمشاعر الإنسانية برحابة أكبر. هي قصائد الجغرافيا المحاصرة، والتي تحاصر بدورها ناسها وحياتهم، بل وتكاد تحاصر قصائدهم وخطوط مخيلاتهم على نحو تتحول فيه القصيدة إلى انتباهات جميلة وواعية إلى ما في الحياة ــ مهما ضاقت ــ من جماليات يمكن أن تكون في متناول الشعر بالإصرار على التحديق بالعين والمخيلة في شقوق القسوة، ورؤية ما فيها من جمال هارب، ومن ترحال يجوب آفاقًا ويتواصل مع العالم.
هي تجربة شعرية تنبت في حالة حصار تواصلت على مدار عقدين ونصف العقد، ووضعت البشر وحياتهم كلها بما فيها الثقافة والفكر في اشتباك يومي دائم ومتواصل مع اللا جدوى، والتكيف مع مأزق المكان والزمان معًا. سيظل علينا أن نرى قصائد هذه المجموعة الشعرية في استطاعتها اختراق كل تلك الفضاءات الضيقة، واستشراف إبداع يتجاوزها بالخروج عليها وعلى ظلم قوانينها وصرامتها، بل وكل ما تخللته سنوات الحصار من حروب دامية ضد قطاع غزة الصغير بمساحته والمكتظ بسكانه، والتي تكفلت كل مرة بتدمير الناس والحجارة، وإعادة الجميع إلى نقطة الصفر.
"كأني أنا" تختار فضاءها من وحدة الصورة الشعرية، مع أمل ما يلوح وراء قتامة الواقع وصلادته. في قصائد المجموعة سعي حميم لاستنبات وردة في صخر تسعى لأن يكون حديقة ذات تربة صالحة. سيلاحظ القارىء أن قسوة الواقع المحيط بالشاعر والشعر يبدو متواريًا، ويقف في خلفية لا مرئية، فيما الشعر ذاته يخوض معركته مع أفق يستحضره ويهيئه كي يكون كل مرَة حاضرًا ومشتعلًا بالحياة:
"كأسان من عرق وحليب
هي...،
وقلما تجد شفاهًا تفرق،
بين لون الحليب
ولذعة العرق"
هي أيضًا تجربة تنسج رسوم خيالها في أرض "قصيدة النثر"، وأهمية أن تفعل ذلك هو بالذات أنها تصغي للأشياء كلها، على تنوعها واختلافها، وحتى تناقض ماهيتها، فذهابها نحو قصيدة متحررة من أية قيود، أو اشتراطات، هو بمعنى مضمر ومعلن انتماء إلى حيوية شعرية تزدهي بقوامها الفني، وترشق في عروته حركية الأفكار والموضوعات بخفة تليق بما في الشعر من قوة كلية تمتحن البشر وعسف أيامهم، في وحدة مع الحب كضمير شامل يختصر الحياة برمتها.



في "كأني أنا"، نعثر على صور الشاعر ذاته، ولكنها صور لا تتطابق معه تمامًا، هي تراوغه، وهو بالأصح يراوغنا من خلالها، و"خلالها" هو بالذات الإصغاء إلى شدو الألم، وشدو الأمل معًا:
"لا باب للغرفة
لا سقف
لا جدران
(هكذا أراها)
الآخرون يرونها كاملة التكوين
ممتلئة وصاخبة
لكن ما الفائدة
إذا كنا لا نملك لها مفتاحًا؟"
وفي "كأني أنا"، يذهب جبر جميل شعث إلى تكوينات شعرية تحاكي الواقع من منظور استعادته بصريًا على نحو يؤلف منظومة متتابعة من اللوحات التي تحكي كل لوحة منها قراءتها للوجع، وما يحيط به من بواعث الأسى حينًا، واليأس أحيانًا أخرى، لكن اللافت في كل تلك اللوحات هو اتكاؤها على عنصر الدراما الذي يصوغ السياقات الشعرية، ويعيد تقديمها كمشاهد حيَة تقارب شهادات روحية ــ فنية على الحياة في ظل الحصار وقسوة الإحتلال. مفهوم شعث للمقاومة لا يبدو في مقدمة مشاهده الشعرية، لكننا نظل نحسه ونتابعة طيلة الوقت، ومع كل قصائد المجموعة، إذ هو يقف في خلفية تلك المشاهد ويمنحها سطوع الرؤية وسخونة التفاعل والتعبير. هنا بالذات يختار الشاعر التعبير من خلال روحه الفردية التي لا تنفصل عن المجموع العام، والتي تكتب عذاباتها بلغة مشحونة بالتكثيف والشفافية وتحمل وهجًا:
"لا أريد
من النساء
سوى
امرأة
واحدة
تتخذ البحر
قبرًا لي
تنثر بنفسجها
وتتمتم بالصلاة
عند غياب الشمس
وترسل شعرها
حزنًا علي"
المرأة في قصائد هذه المجموعة تحضر كمعادل للحياة، التي هي الحب، والحياة اليومية والبقاء على قيد الصمود والمواجهة هي ليست رمزًا خفيًا متواريًا، ولكنها شغف الشعر بالحياة، كما شغف الحياة بأبنائها في قسوة عيشهم، وفي انحيازهم لكل ما هو جميل وباق من بواعث الأمل وجمال الإصرار عليها. هي أيضًا قصائد حب بالمعنى الواسع والشامل الذي يصبح ببساطة انتماء للبقاء ولرغبة التواصل مع الذات والمحيط، وهي بهذا المعنى انتماء عميق لأم أجمل تلوح من لوحة السواد التي ترسم كآبتها في الشوارع والنفوس.
نلامس كثيرًا من هذا المعنى في حوار القصائد مع الوجود، لا بالمعنى الفلسفي، ولكن بالمعنى اليومي، المثقل بأحزانه، والمحمّل بشغف استشراف الأمل، فهي قصائد ــ لوحات تزدهي بوهج احتمالاتها، وانفتاح على الأمل:
"سينكرك الحي
والشارع
والبيت
وأنت عائد
بحذاء يطقطق
وقميص نظيف
ويد تندف قطنًا
ورأس يلوب
كدمية مسرح
ستنكرك قطط هزيلة
وجرذان مذعورة
وكلاب جرباء جائعة
وأكياس قمامة متناثرة كجثث قتلى حرب قذرة..."
جبر جميل شعث في قصائد مجموعته "كأني أنا" شاعر من هناك، من شريط ساحلي ضيق تنوس حياته بين اتساع البحر على العالم الخارجي وامتداداته اللامحدودة، وبين الأسلاك الشائكة التي تفصل الناس عن بلادهم التي ظلت هناك، والتي لم تزل حاضرة في وجدانهم، وفي حروب ظالمة تتوالى على بيوتهم وحبيباتهم وقصائدهم على نحو لم تشهده أرض أخرى في قرننا الراهن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.