عروض

مجتمع القساوسة بين أشجار النخيل

ختام السيد

29 نوفمبر 2016
اكتسبت عُمان، حالةً متفردةً من مداولات ومراسلات المنصرين الغربيين في شبه الجزيرة العربية، ومن أحلامهم وطموحاتهم، ثم إصرارهم المحموم على تنصير سكانها العرب المسلمين. على الرغم من أنَّ هذا الجزء من شبه الجزيرة، ظلّ غائباً عن الفعل والتأثير بعد أفول نجم الإمبراطورية العُمانية. 

قراءة أولية في كتاب "الحملات التنصيرية إلى عُمان، والعلاقة المعاصرة بين النصرانية والإسلام" للدكتور "سليمان بن سالم الحسيني"، الصادر عن دار الحكمة في لندن، نستنتج خلالها، أن التنصير اتخذ محطات متفاوتة، تارة من القوة والتأثير، وتارةً من الاضمحلال والتلاشي. ويقدم الباحث خارطة طريق بدأت منذ بدايات القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الفترة الزمنية التي انتهت فيها الإرساليّات التبشيرية. ثم تطرق إلى حوار الحضارات، وكيف أن قوانين الدولة العُمانية، كفلت لأتباع الديانة المسيحيّة حق وحرية العبادة في السلطنة.

يؤكد الباحث على أنَ الهدف المُعلن من قبل القساوسة والمنصرين، انصبَّ في تحويل العمانيين إلى اعتناق المسيحية، كفكر وممارسة وسلطة كنسية، يتم من خلالها إلحاق المسلمين بالكنيسة الغربية، كقول أحدهم: "أكبر كنيسة وأقواها ستكون في مَطْرَح، لكن؛ ستكون هناك العديد من الفروع.. فسيظهر مجتمع مسيحي بين أشجار النخيل".

يكتب الباحث في مقدمته: "إن النشاط التنصيري في عُمان حقيقة تاريخية توشكُ أن تُصبحَ شبه أسطورة في الذاكرة العُمانية". وفي استهلاله هذا؛ يقدم الباحث مُدخلاً لفهم خارطة التنصير التي بدأت في عام (1893)، عندما قام القس "بيتر زويمر" الذي كان عضواً في الإرسالية العربية التي تأسست في أميركا عام (1889)، بافتتاح أول مركز تنصيري في مسقط، واستمر نشاطه أكثر من نصف قرن، إلى أن توقف في عام (1970).

بالعودة إلى ما قبل تاريخ بداية التنصير، يذكر الباحث بأن الأسقف الإنكليزي هنري مارتن قام بزيارة قصيرة إلى مسقط عام 1811، ومهد لبدء النشاط التنصيري بمعاونة الجنرال هيغ، ضابط البحرية البريطانية، على سواحل الخليج، الذي وجه خطاباً كتابياً إلى المجمع الكنسي في المملكة المتحدة، يدعوه فيه، إلى ضرورة توجيه الاهتمام إلى شبه الجزيرة العربية، واتخاذها حقلاً للأنشطة التنصيرية.

لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل النشاط التنصيري عن الوضع السياسي في مناطق شبه الجزيرة العربية وعُمان. حيث باتت القوة الإنكليزية الاستعمارية هي المُسيطرة على سواحل الخليج، بعد الضعف الذي اعترى السلطة العُثمانية، ومن ثمة، تفككها لاحقاً.

أما في الشأن العُماني، فقد تعرضت الدولة العُمانية إلى اهتزازات سياسية في قاعدة الحكم، بين، سلطان مسقط وعُمان وسلطان زنجبار من أسرة "آل سعيد"، تلاه اقتتال داخلي على الحكم وحروب قبلية، ومجاعات متكررة، وفقر عام في مختلف مناحي الحياة، كالتعليم والطبابة.

في مقابل كل هذا الخراب كانت القوة الاستعمارية الإنكليزية هي الضاربة في المنطقة العربية. فقد استقرت القوات البريطانية في عدن، وسيطرت على مياه الخليج وميناء البصرة. وهي كذلك القوة الحاكمة في شركة الهند الشرقية وبلاد فارس، وصاحبة الكلمة العُليا في شرق أفريقيا (تنزانيا، الجزيرة الخضراء، زنجبار، رواندا)، بعد الانسحاب العُماني من تلك المناطق.

لماذا البدء بالنشاط التنصيري من سلطنة مسقط وعُمان، كما كانت تُسمى؟ يجيب: الجنرال هيغ عن هذا السؤال في نداءٍ وجهه إلى المجمع الكنسي في لندن عام (1885م) ويذكر فيه: "إن عُمان أشبه بجزيرة نائية على أطراف شبه الجزيرة العربية. فهي محاطة بالبحر من جهات ثلاث، وترتبط مع نجد عبر الصحراء، وتلتقي في الجنوب مع بلاد المهرة وحضرموت. إضافة إلى أنّ جُلّ سكانها من الحَضر المستقرين في قرى حول مجاري الأودية، والقليل من أهلها بدو يعيشون حياة الترحال، وفي هذه البلاد الشاسعة لا تمثل السلطة العثمانية حضوراً قوياً يمنعنا من ممارسة عملنا وتحقيق أهدافنا".

لم يكتفِ هيغ بهذا القدر من المعلومات، بل أكد أن مطرح ومسقط، المدينتين القريبتين من بعضهما هما المجال الأوسع للتنصير، ليتم الانطلاق منهما إلى داخل عُمان وشرقيّها. ثم يتجه إلى تأكيد استنتاجاته هذه بوقائع عملية تؤكد ما ذهب إليه. فيسرد في رسالته، تلك، واقعة نزوله إلى سوق إحدى المدينتين، وبأنه، قام ببيع كتب؛ التوراة والأناجيل، ولم يعترض عليه أحد باستثناء رجُلين من "المُحمديّين" أي المتشددين دينياً، وكانوا من "الهنود" المسلمين القادمين من "بومباي"، وهذا يعني، بحسب قوله، أن المجتمع المسقطي والعُماني بالعموم، مجتمع متسامح.

بذلك التفصيل المقتضب عن دور الجنرال هيغ نكون قد وقفنا- كما جاء في الكتاب– على دوره في فتح باب الإرساليات التنصيرية إلى عُمان. كما أنه عمل على ربط التنصير في مسقط، بمبشرين يتقنون اللغة العربية، ولديهم قدر من المعرفة بالآداب العربية والعادات والتقاليد. ولأجل أن يصل إلى إكمال مشروعه التنصيري، استعان بمنصرين من إرساليات عدن، وأوغندا، والهند، والبصرة، والبحرين، وإيران.

سبعة وسبعون عاماً من النّشاط التنصيري في الوسط العماني، كانت الإرسالية العربية هي الرّاعي الرئيس لهذا النشاط على يد المُبشر "بيتر زومر" الذي عكفَ بدوره على وضع الأسس والخطط وتعين الأهداف واستجلاب المُنصرات، لتنصير النساء العُمانيات، وافتتاح أول مطبعة في عُمان عام 1895، التي تحولت لاحقاً إلى مكتبة "العائلة"، وكان الهدف منها نشر الأدب النصراني. تلاها افتتاح أول مدرسة صناعية للرقيق المحررين في مسقط عام 1896، ثم فتح المراكز الطبية التي كانت تسمى "مستشفيات الإرسالية في مسقط ومطرح" في عام 1912، وتلاها تنظيم الجولات التنصيرية الطبية والتثقيفية في المناطق.

انتهى مشروع الإرسالية تماماً عام 1970 بانتقال الخدمات الصحية التي كانت تقدمها "الإرسالية" إلى الحكومة العمانية. بعد عشرين يوماً من تسلم السلطان قابوس الحكم في 26 يوليو/تموز 1970. وهو بالمناسبة، التاريخ الفارق لبدء إنشاء عُمان الحديثة، واستلام مؤسسات الدولة لمهامها في توفير الطبابة وتحقيق تنمية شاملة بعد عقود من الظلام والفقر.


مما تقدم، يستنتج قارئ هذا الكتاب البحثي المهم، أن الإرساليات التنصيرية انتعشت في مسقط وعُمان في فترات الإضرابات السياسية، وتراخي قبضة الدولة العمانية، وهذا، بدوره يدحض أفكار الجنرال هيغ التي شكّلها عن طبيعة المجتمع العماني بقوله:"مجتمع غير متمسّك بالدِّين في المناطق الحضرية"، ويلغي فهمه لماهيّة الشخصية العمانية المتسامحة مع الآخر، وبالتالي، يمكن الولوج إلى عقيدتها "المحمدية" بكل يسر وسهولة.

أخفق المشروع التنصيري في عُمان، وأخفقت الإرسالية العربية التي حددت أهدافها بتحويل العمانيين إلى نصارى، يسعون إلى إنشاء كنيسة محلية تديرها العناصر المتنصرة. وبعد أن تصبح تلك العناصر أغلبية، حينها تتولى الحكم في عُمان، ويتم العمل الرسمي في مؤسسات الدولة بمشرّعات الديانة النّصرانية.

إخفاق المشروع يتمظهر بعدد من الحقائق ليس أقلها الرسالة التي بعث بها أحد المنصّرين إلى الكنيسة يعلن فيها الخيبة بقوله: "قلوب العُمانيين من حَجر، لا شيء سوى محمد والقرآن يمكن أن يُرضي العرب".

أما الحقيقة الثانية، التي تؤكد بدورها فشل المشروع، تظهر جليّةً من خلال حصر عدد "المتنصرين" من العمانيين. حيث تؤكد نتائج البحث والاستنتاجات التي قام بها المؤلف بأن العدد الكلي لم يتجاوز أصابع اليد، ولم ترد أرقام معلومة عن عدد المتحولين من الإسلام إلى المسيحية في المراسلات الرسمية التي كانت تتم بين المنصرين والمجمع الكنسي في إنكلترا. لم يتم ذكر إلا عدد محدود من العمانيين الذين تنصروا كـ"مراش" العماني، الذي يروي القس "بيورسم" قصة تحوله وزوجته مريم، وكيف أنهما تعرضا للنبذ من الأهالي. ثم قصة المتنصرين الذين تنصروا لاحقاً في منتصف الثلاثينيات من القرن المنصرم، بقيادة المنصر الطبيب "بول هاريسون" كمبارك الماس – الذي جِيء به من البحرين – ثم تَبِعهُ نوبي ومحمد وزهرة ولحق بهم قنبر الماس، الذي تعمّد على يد "ولز تومس" وكذلك، موسى وجمعة وودية وربيعة وخودى رسون.

لقد احتفظت الذاكرة العمانية بتلك الحقبة الرخوة من تاريخها المعاصر بتذكر المتنصرين، الذين عاد جلّهم إلى الإسلام، أو تلاشوا ولم يعد لهم حضور يذكر. بقولهم: هل منكم من لا يعرف الدكتور أو الدختر تومس؟

والدختر تومس، كما يطيب للعمانيين تسميته، أميركي، كان يعمل مبشراً وطبيباً يعالج المرضى في مشفى "الرحمة"، وهو أول مشفى في عُمان افتتح في مطرح وكانت تديره الإرسالية، وكان يعتبر النقطة الارتكازية للتبشير ولكسب المزيد من المتنصرين.