عروض

سيرة وليد سيف: هزيمتنا باغتراب الذات في حاضر الغَير

عمر شبانة

16 يناير 2017

كانت قصيدته التي اشتُهرت باسم "تغريبة زيد الياسين"، هي المحطة الأولى من رحلتي في التعرّف إليه، فالقصيدة ألقاها في مدرج سمير الرفاعي/ الجامعة الأردنيّة، عام 1979، أثارت إعجاباً كبيراً لدى جمهور الطلبة الذين حضروها، وكنت طالباً بينهم، تجاه شخصيّة "زيد الياسين" وهو يجول مشرّداً في أقطار عالمنا العربي، صارخاً أو هامساً، بحسب الأداء اللغوي للشاعر، وأدائه الصوتيّ للقصيدة، خصوصاً حين كان يكرّر لازمة "أنا زيد/ زيدٌ/ زيدٌ/ وأبي يدعى ياسين.."، والتلاعب بأسلوب الأداء الصوت/ الصدى، وكان الأداء المسرحيّ يلوّن القصيدة بصياغتها "الدراميّة" أصلاً.


أتذكّر هذا دائماً، وأكتبه الآن من الذاكرة، كما لو حدث أمس. أكتب بعد انتهائي من قراءة سيرة وليد سيف ومراجعاته الفكرية، في الكتاب الذي صدر أخيراً "الشاهد والمشهود: سيرة ومراجعات فكرية"، (الدار الأهلية، عمّان، 504 صفحات). أشعر الآن بصدمة غياب شخصيّة "زيد الياسين" وقصيدته، عن هذا الكتاب - السيرة، لكنني أظنّ أنها هي القصيدة التي يذكرها في كتابه هذا، لكنها حملت اسمًا آخر هو "عبدالله ابن صفية..".

وليد سيف الذي لم يكن له مظهر "الدكتور" الجامعيّ السائد، فقد كان بشَعره المنكوش وبنطال الجينز، يبدو كما لو أنه طالب يكبرنا بسنوات (هو المولود سنة النكبة 1948)، وهكذا ظلّت صورته هي الأقرب إلى "المتمرّد" الذي يجمع شخوصاً عدّة في شخصه. وقد بدأ خطابه الأساس بتشخيص أزمة الإنسان العربي- المسلم في كونه هذه الذات التائهة الموزّعة "بين ماضي الذات وراهن الغير، أو حاضر الآخر". مع ضرورة الإشارة إلى أنه هنا، في تقديم السيرة، يبدو منحازاً إلى التنظير في المسائل الفكرية، أكثر بكثير مما يتحدث عن "الوقائع" والحوادث.   

 

سيرتان.. الحياة والفكر

للولوج في هذا الكتاب، نتوقف مع المؤلّف في محورين، الأول أفقيّ يمثّل "التتابع الزمني للمحطّات الكبرى في رحلة الحياة"، والثاني محور رأسيّ "يتمثل في القضايا والتداعيات والمراجعات الفكرية والوجدانية التي يبعثها الوقوف على ذكرى ما في كل من تلك المحطات". ومهما حاولنا، فلن نستطيع التوقف عند محطّاته كلها، فهي غنية بالتفاصيل، وبتداعيات التفاصيل واستطراداتها واستدراكاتها.

نتعرّف ابتداءً على مفهوم السيرة لديه، فهي ليست ذاكرة وذكريات فقط، بل تأمّلات الذات الراهنة في ماضيها ومكوّناتها، وربطه بحاضرها، أو تحوّلاتها ومآلاتها. أما "السيرة العظيمة"، كما يراها فهي "لم تخلقها الوقائع الفعليّة في حياة الإنسان، بقدر ما خلقتها الكتابة نفسها". والسؤال في السيرة، شأنه شأن السؤال في أي عمل فنّيّ أو أدبيّ ليس "ماذا"؟ وإنما "كيف"؟ ففي "كيفيّة القول تتشكّل القيمة والمعاني"، ولذا فإن "أقلّ السِّيَر قيمة، من النواحي الأدبية، هي التي يحتاج قارئها إلى التحقُّق من مدى مطابقتها للواقع". ولمزيد من التفصيل، فهو يرى أن "نصّ السيرة هو الحدث والواقع، وليس وثيقة تسجيليّة عن الخارج الموضوعيّ"، وأنّ نصّ السيرة هو "رواية الكاتب عن نفسه أو غيره، والرواية هنا هي الموضوع، وليست تمثيلاً للموضوع". كما أنّ رواية الماضي "ليست استدعاء بريئاً من ذاكرة ثابتة المخزون، وإنّما هي تتلوّن ويُعاد إنتاجها، وتُلقى عليها معانٍ ودلالات جديدة، في ضَوء تراكمات الخبرة وتطوّر الوعي ونُظم المعاني المدّخرة فيه..".

ومن دون الغوص في تفاصيل السيرة، العلمية والمهنية، ثم الشعرية، نتوقّف مع "شجاعة البوح" التي يجري الحديث عنها كلّما كتب أحدهم سيرته، ويختصرها وليد سيف في أنها تكون في أمور عدّة، منها "مقاومة التيّار وإغراءات الأمان في ظل القطيع.."، و"تفضيل مغارم العقل على مغانم الجهل"، و"تحدّي خطاب السلطة الحاكمة الفجّة.. ونقد الكثير من الخطابات المعارضة وكشف ادّعاءاتها وازدواجيّتها وأضاليلها وسلطتها الكامنة"، ويتساوى هنا "ما يبتزُّك منها بمفردات الحداثة والتقدّم والقيم الكونية، وما يبتزّك بمفردات الأصالة والخصوصيّات الثقافية وحماية الهوية المهدّدة". وختاماً فإن الشجاعة هي "أن تكون ذاتك وتشيد روايتك الخاصّة، بعيداً عن الإملاءات الخارجيّة"، لذلك فهو يعلن عن روايته بقدر من "الشجاعة" أنّ "هذه روايتي". 

نحن إذن أمام سيرتين؛ حياتية (وقائع وحوادث)، وفكرية تنظيرية، وعلينا الالتفات، منذ البداية، إلى أننا أمام تجربة لشخصية جمعت التديّن والانفتاح في إطار واحد، لذلك فهو حين يعرض مسألة ما، يعرضها من وجهة نظر إسلامية أولاً، وتنويرية منفتحة على التيارات والمذاهب الفكرية والفلسفية، بما فيها الماركسية والوجودية والعبثية وغيرها من المدارس والتيارات.   

نبدأ من مدينة طولكرم، مكان الطفولة والنشأة الأولى، منذ الولادة والطفولة، حتى الخروج إلى الجامعة الأردنية، والحصول على بكالوريوس في قسم الأدب العربي، والعمل معيدًا في القسم نفسه، وما تبعها من دراسات عليا في بريطانيا، لتحصيل الدكتوراه في العلوم اللسانية (علم الأسلوبية "تطبيق النظرية اللسانية الحديثة في دراسة لغة الأدب والشعر..").

نمضي مع الطفل الذي يبدأ في إظهار ملامح التميّز، والفتى الذي يبدأ خطواته الأولى في التمرّد على تقاليد الأسرة والمجتمع المحافِظ، و"فتاة الشرفة" التي سوف تحضر في مواقع عدّة من السيرة، ضمن "حب في ظل الخيام"، واعترافه بامتلاك "موهبة جذب اهتمام الفتيات، دون تقحّم أو اندفاع.." وحيازة عناصر الجذب شكلاً ومضموناً، بما يجسّد صورة الأديب الحسّاس المختلف، وحديث عن "عشيقات"، والعلاقة الملتبسة مع فتاة في أيّامه الجامعيّة، لا نعرف الاسم الأول للفتاة، فضلاً عن غياب "تفاصيل" العلاقة التي تبدو لنا "عُذريّة".

وفي السيرة، يحضر ازدهاء المبدع بتجربته الإبداعية - الشعرية التي برزت منذ وقت مبكر، والتباهي بالتفوّق في التعلّم، والابتعاد عن "الصورة النمطية الشائعة والكريهة للتلميذ المتفوّق"، بل القيام بدور "الناطق باسم جماهير الطلبة الساخطة والانسلاخ عن النخبة.."، وهو موقف مبدئيّ سعى من خلاله إلى "الجمع بين التفوق والتمرّد"، وهنا يأخذنا في جولة من التنظير عن الحركات الشعبية وقادتها، وتداعيات للحديث عن الديمقراطية. ثم نقرأ حكايات "بقالة" الوالد، وحياة المخيّم واللاجئين، وما يمكن اعتباره بذور "الروح الدرامية" التي سوف يبدع بها لاحقاً.

وخلال تناول السيرة الأسرية، جذور العائلة، والأصول الريفية للوالد، مقابل الأصول المدنية للوالدة، نراه يورد بعض التفاصيل، حيث "الأب ابن ثقافته الريفيّة الذكورية"، بينما الأمّ التي "انتُزعت من حيفا"، وفقدت مناخات الفرح والإقبال والموسيقى والسينما، بل يفصح أكثر حين يصف العلاقة بين الأب الذي "أحكمَ من سُلطانه" والأمّ التي "أوغلت في خضوعها"، كي يظهر جذور التربية المُحافِظة التي نشأ فيها. وضمن الإطار الأسريّ، يأتي على ذكر عمّه الأكاديمي المعروف، الدكتور محمود إبراهيم، في قدر كبير من الحب، يقول "كنّا واحداً في نصفَين"، و"نلتقي في ما يفرّقنا، ونفترق في ما يجمعنا.. كان طائر صباح.. وكنت طائر ليل".

وحسب أسلوبه في الجمع بين الحياتيّ والنظريّ، فإنه وفي ما هو يبوح بظروف العائلة، يخوض جدلاً نظريّاً موسّعاً ومعمّقاً حول ظروف المرأة في مجتمعاتنا، ليخلص القارئ إلى أنه حيال موقف تقدّمي وفهم إنسانيّ رفيع لما ينبغي أن تكون عليه حال المرأة، وطبيعة علاقتها بالرجل، وهو يدخل في التنظير لعلاقة الذكر والأنثى، وما يسميه "ثورة الفكر وثورة الهرمونات والقوة الناعمة"، وهذا فهم نادراً ما تجده لدى إنسان متديّن، كما هي حال الدكتور وليد سيف.

 

محطة حزيران

ومن بين المحطّات المؤثرة في حياته، يتوقف في مرحلة هزيمة حزيران وتداعياتها على المستويين؛ الشخصي الخاصّ والوطني العام، فيروي تفاصيل مما جرى له في الجامعة، والانقطاع عن الأهل في الضفة المحتلة، ثم الالتحاق بالمقاومة، وحركة فتح تحديداً، والنشاطات الطالبيّة التي تولّى أمر قيادتها. ونظريّاً يكتب عن أسباب الهزيمة، تحت عنوان "نقد الاستشراق الذاتي"، حيث يقدم مراجعة لأفكار الآخرين، ضمن ما يسمّيه "نقد الذات"، وحتّى "كُره الذات وجَلدها والتيئيس من صلاحها.."، وما يرى فيه دراسات مضلّلة عن الواقع العربي والتاريخ القديم، وحديث عن الثقافة ودورها في الحياة الاجتماعية، ورفض الحتمية التاريخية، ومراجعات العقل الثقافي العربي ومركزية الذات الأوروبية، لينتهي إلى أن  الشعوب "لا تباد سُلاليّاً بل ثقافيّاً". ومن ذلك كله يصوغ خطاباً إسلاميّاً تنويرياً، لكنه يبدو مثاليّاً إلى حد عدم إمكانية تطبيقه واقعياً.

ويأخذنا عبر محطة التصوّف، من خلال تجربته الشخصيّة، ومع ذكر بعض الوقائع عن "طقوس" الحلقة الصوفية التي كان يشهدها، يأخذنا بعيداً إلى جذور التصوّف وأصل الكلمة العائد إلى الحكمة والفلسفة ومحبة الحكمة، وعلى طريق الصوفية التي اعتبرها تخلّفاً عن الحياة الماديّة، من جهة، فإنه من جهة مقابلة يحتفي باللغة الشعرية الكونية الغامضة، وبكون مراتب الصوفية لا تفرّق بين المتعلم والأقل علماً، ولأن الاتجاهات والنزعات الصوفية ظاهرة كونية قديمة عابرة للأديان والفلسفات، تبدأ منذ فيثاغورس وصولاً إلى أفلاطون ثم نيوتن والعرفان الباطني والعلمي التجريبي. وصولاً إلى أفلوطين ومفاهيم الفيض والإشراق، والقبالاه اليهودية..الخ. أما صوفيته هو، فهي إسلامية بلا مؤثرات أخرى.. ولا ينكر أن الصوفية قد تكون "بيئة خصبة لانتعاش البارانويا"، بل لـ"الإقطاع الديني السياسي"، ثم نجده ينصرف عن الصوفية، دون الانصراف عمّا يسمّيه "البحث العرفاني".

أما في ما يتعلّق بتجربته الشعريّة، وتحت عنوان "لماذا هجرت الشعر"، فهو يورد عوامل عدّة، دخلت حياته ولعبت دور "المنافس" للشعر، أوّلهما الأكاديميّ والدراسات العليا والتدريس، وثانيهما الكتابة الدراميّة للتلفزيون، حيث جرى "تحقيق الذات في أشكال إبداعية أخرى"، لكنه لا يختم هذا الفصل إلا وقد أخذنا في جولة مع المفاهيم والتظيرات، ويعلن عن فساد حال الشعر والشعراء. وبخصوص تجربته مع "الدراما"، فهو يقدّم تنظيراته المتعلقة بالتجربة، أكثر من ذكر الوقائع والتفاصيل أيضاً.

 

لقاء مع درويش

ونختم هذه القراءة الاختزالية، باختزال ما جاء في حديثه عن لقائه، في حيفا، مع كل من محمود درويش وسميح القاسم، حيث يصف كلام درويش، في هذا اللقاء الوحيد، إنه "آراء عابرة في كلام عابر.."، لكنه ينقل ما تحدّث به درويش حول عدد من القضايا، ومنها التحاقه بالحزب الشيوعي، وإنه لم يكن "إيماناً" بفكر الحزب، بل لكون الحزب "يوفر مساحة للنشاط السياسيّ المعارض ليس متاحاً لغيره، ومع الوقت تحوّل ذلك إلى إيمان عقديّ"، وعن قصيدته "سجّل أنا عربي"، يقول درويش- بحسب سيف، وبحسب ما عبّر درويش لاحقاً في كثير من الحوارات معه "لم أصدر في هذه القصيدة عن موقف قوميّ عروبيّ، إنّما كانت صرخةَ تحدٍّ للدولة الإسرائيلية التي ما زالت تعمل جاهدة لطمس وجودنا ومحو هويّتنا الثقافية..". وعن رؤيته شخصية درويش، يقول إنه رآه "مزاجاً غريباً من الصفات المتدافعة المتغالبة: حياء تغالبه صراحة حادّة، وتواضع يغالبه إحساس قويّ بالذات كشأن المبدعين..".