عروض

شهادة هارب من داعش

شكري المبخوت

17 مايو 2017

 

ما الذي يدفع شابّا تونسيّا إلى رفع السلاح ضدّ دولته أو إلى الالتحاق بتنظيم إرهابيّ مثل داعش للقتال في سورية أو ليبيا أو تنفيذ عمليّات في بلدان أوروبيّة؟

قد يكون في السؤال شيء من السذاجة. فالظاهرة لا تنحصر في الشباب التونسيّ. لكن التونسيّين اعتقدوا، بعد سنوات من عداء بن عليّ لجلّ أطياف التيّارات الإسلاميّة، أنّه قد جفّف منابع الفكر الذي يفضي إلى التشدّد والانغلاق الإيديولوجيّ. أضف إلى ذلك أنّ الصورة السائدة عن تونس أنّها بلد خطا في طريق التحديث خطوات كبيرة كأنّ الحداثة والعقلانيّة من جهة والتطرّف والغلوّ في الدين من جهة أخرى لا يلتقيان. فإذا بهؤلاء الذين نشأوا في مجتمع متحرّر نسبيّا يتعلّقون بأكثر الإيديولوجيّات انغلاقا ويستحيلون، ما إن يرفعوا السلاح، إلى سفاكين للدماء أشدّاء حسب الأخبار التي ترد عنهم من ساحات القتال.

أسئلة واعترافات

فكيف يفكّر هؤلاء الشباب؟ وما الذي يدفعهم إلى مثل هذه المغامرات؟ وهل يعود ذلك إلى الفقر والتهميش الاجتماعيّ؟ أم هو عائد إلى الوقوع في حبائل الدعاية الداعشيّة على شبكة الإنترنيت؟ ومن أين لها هذه القدرة على التلاعب بالعقول وتجييش شبّان لهم في كثير من الأحيان من التكوين والتعليم ما يسمح لهم بالتمييز؟

بمثل هذه التساؤلات، وبرغبة في الفهم وضع الصحافيّ التونسي المختصّ في الحركات   الإسلاميّة هادي يحمد كتابه "كنت في الرقّة: هارب من الدولة الإسلاميّة" (تونس، دار نقوش عربيّة، 2017).

ولئن  كان كتابه الأوّل الذي يحمل عنوان "تحت راية العقاب: سلفيّون جهاديّون من تونس" الصادر سنة 2015 يحمل بعدا توثيقيّا تحليليّا فإنّ لهذا الكتاب مميّزات جعلته من أكثر الكتب مبيعا في تونس إذ طبع ثلاث طبعات في أقلّ من شهر.

فقد اختار هادي يحمد أن يواصل تحقيقه في أمر الجهاديّة السلفيّة من زاوية أخرى. فكان هذا الكتاب وليد لقاء بين الصحافيّ وأحد الجهاديّين التونسيّين روى له فيه قصّة التحاقه بداعش في سورية وفراره من الدولة الإسلاميّة التي ما فتئ يحلم بالعيش فيها.

ويصوغ هادي يحمد حصيلة حواره مع محمّد الفاهم الشابّ التونسيّ بأسلوب سرديّ أشبه بأجزاء من سيرة ذاتيّة تعتمد في الأغلب الأعمّ على ضمير المتكلّم المفرد وإن جاءت مقاطع منها بضمير المخاطب أو الغائب على سبيل التمييز بين تعليق الكاتب وبين ما ورد على لسان الشخصيّة الراوية.

وفي هذا السرد تحديدا ما يميّز الكتاب ويجعل الشهادة التي يتضمّنها "واقعيّة" تشدّ القارئ وتغريه بالمتابعة. فنحن أمام اعترافات فاعل في الأحداث يحكي عن تجربته الفرديّة ولكنّه يكشف في الآن نفسه عن صنف من الشباب وهو يبحث عن معنى لحياته. بيد أنّ المؤلّف هادي يحمد يتدخّل في تنظيم الحبكة وترتيب الأحداث بالتقديم والتأخير على نحو يبرز به مسار محمّد الفاهم. وهو مسار خضع لتقطيع إلى وحدات بيّنة بقطع النظر عن موقعها من البناء العامّ ووجوه الترابط الداخليّ بين المقاطع تكرارا أو إحالة داخليّة. إذ نجد وحدات تتناول طفولة محمّد الفاهم والعوامل التي جعلته غير ممتثل للواقع ومحيطه العائليّ ثم أسباب تديّنه وارتباطه بعد الثورة بجهات سلفيّة ودور القمع البوليسيّ والشيوخ السلفيّين والأتراب والأصدقاء في تثبيت اختياراته العقائديّة. ونجد أيضا مقاطع أوسع يتحدّث فيها عن فراره من تونس عبر ليبيا والتحاقه بالرقّة عبر تركيا وانخراطه في المعارك إلى أن تبيّن له أنّ هذه الدولة لا تعبّر عن المثل الأعلى الذي تشبّث به. ففي هذه القصّة جميع مكوّنات الرواية المشوّقة من خلال التراجيديا التي ترويها.

فرد في صيغة جماعة

إنّ هذه القصّة كما صيغت ثريّة بالمعطيات التي تبدو فرديّة ولكنّها تكشف عن ملامح مهمّة تيسّر بناء نموذج عامّ عن ملامح الشباب الجهاديّ.

فممّا هو ذاتيّ في رواية محمّد الفاهم هويّته الحقيقيّة باعتباره قد ولد في عائلة تونسيّة مهاجرة بمدينة دورتموند الألمانيّة سنة 1990. وبعد عودة العائلة إلى تونس صار حلم الفتى العودة إلى ألمانيا. وسرعان ما أصبح هذا الحلم، بعد أن عانى بسبب تديّنه الإيقاف والسجن، هو الهجرة إلى الشام حيث "دولة الإسلام التي لا يظلم فيها أحد". (ص 178).

كان هذا الفتى المتديّن مغرما كذلك بمشاكسة الفتيات وبأغاني الراب. ولا يتورّع عن الحديث، وهو مقاتل في الدولة الإسلاميّة، عن مشاعر حنينه وشوقه إلى أمّه التي تربطه بها مشاعر خاصّة. فيبكي بحرقة ولا يخفي حين لاحظ ما بين حلمه بعدل الدولة الإسلاميّة والواقع الذي وجده في الرقّة بالخصوص شعوره بالانكسار والضيق والتبرّم. بل كان يشارك ذات يوم في تطبيق حدّ الرجم بالحجارة على امرأة متّهمة بالزنا فإذا به يشعر "ببعض الرهبة والرأفة" والإشفاق على تلك المرأة. (ص 91).

وينبني جزء كبير من رواية محمّد الفاهم على هذا التردّد الذي يكسب الاعترافات التي يبوح بها عمقا إنسانيّا يضفي على صورة المقاتل بعض النسبيّة. فبقدر ما شعر بالفخر بعد المعارك الأولى في تدمر إذ صار "جنديّا حقيقيّا في الدولة" يرى في أعين أصدقائه وكلّ المحيطين به "نظرات الإعجاب والتقدير" (ص 109) شعر بالتواضع أمام الموت وزادته هذه التجربة لينا.

غير أنّ الشكوك كانت تساوره في معنى الدولة الإسلاميّة وتستبدّ به الحيرة بإزاء مواقف لم يجد لها تفسيرا مقنعا. من ذلك سبب إرساله مع كتيبته إلى تلّ أبيض في حين أنّ كل الدلائل تشير إلى أنّ المدينة ستسقط لا محالة. ومنها كذلك مقتل أربعة آلاف من جند الدولة الإسلاميّة في كوباني.

فالثابت إذن أنّ البعد المرجعي في كتاب هادي يحمد، على اعتبار اشتغاله على شهادة حقيقيّة، لم يلغ ما به يتغذّى السرد الروائيّ وهو الوضعيّات والحالات التي تكشف عن هشاشة الإنسان وتردّده. وهذه الروح التي تسري في السرد هي التي تقوّي، ويا للمفارقة، البعد التوثيقيّ فيه. فنحن أمام إرهابيّ يتحمّل مسؤوليّة أفعاله بما فيها من قسوة لا تغتفر وإجرام بيّن دون أن يخرج من مرتبة الآدميّته والأبعاد الإنسانيّة فيه.

ولا تخلو هذه الاعترافات من قيمة أخرى تتّصل بما تعيشه الجماعة التي انتمى إليها محمّد الفاهم من وضع يجمع بين كوابيس كافكا وأورويل معا. فالتونسيّون كانوا في الدولة الإسلاميّة أقلّ الناس انضباطا بقيودها وإن كانوا أكثر المقاتلين إقبالا على المعارك وأشدّهم عنفا ودمويّة. فقد كان التونسيّون متّهمين ببورقيبة والحداثة وحريّة المرأة وكان عليهم أن يثبتوا أنّهم ليسوا أقلّ إسلاما من بقيّة المهاجرين (ص 153). أضف إلى ذلك أنّ قيمة المقاتل تقاس بالدماء على يديه وعدد غزواته ومعاركه والتنكيل بالأسرى والإجهاز عليهم. بيد أنّ شراسة التونسيّين في القتال لم تمنع الدولة الإسلاميّة من أن تعدم خمسمائة منهم. (ص 154). ومن المفارقات أنّ مقاتلي الدولة كانوا من البسطاء والسذّج ولكنّهم يتحوّلون إلى كواسر ترعب العالم كلّه.

وكانت قيادات الدولة وأمراؤها، حسب محمّد الفاهم، متجهّمين متكبّرين ذوي سلوك فظّ عنيف (ص 80). وهو ما ساهم في إشاعة جوّ من الظلم والجور والتصفيات الجسديّة علاوة على التملّق وحبك المؤامرات لغايات شخصيّة (ص 85). وفي هذه الأجواء  يتحوّل بعض المهاجرين إلى مخبرين لدى أجهزة أمن الدولة يرفعون التقارير التي ينقلون فيها أيّ نقد للوالي أو الدولة. وتشتغل في الدولة الإسلاميّة أحسن اشتغال آلة التكفير التي تصوّب نحو الجميع.

ووصلت الشكوك إلى حدّ الخيانات والتخلّص من الخارجين عن الصفّ الذين لا يلتزمون بقاعدة السمع والطاعة بتهم متنوّعة مثل الإفساد في الأرض والاحتطاب وقتل نفس بغير حقّ. وتتمّ كلّ هذه الإعدامات بعلم من أبي بكر البغداديّ شخصيّا وبختمه الخاصّ.

مزايا السرد

تقدّم رواية محمّد الفاهم التي نقلها هادي يحمد اتجاهات متنوّعة نفسيّة واجتماعيّة وذهنيّة لفهم تحوّل شابّ يتّقد حيويّة قليل الانضباط إلى مقاتل في تنظيم إرهابيّ يتوهّم البطولة والدفاع عن مثل أعلى. وممّا يزيد هذه الرواية أهمّيّة أنّها جاءت طوعا وباسم مكشوف علاوة على أنّها تمنح لهؤلاء الخارجين عن القانون فرصة الكلام بعيدا عن الاعترافات الأمنيّة وقاعات المحاكم.

ويندرج الكتاب ضمن أدبيّات بدأت تظهر هنا وهناك من قبيل كتاب الصحافيّ الفرنسي دافيد طومسون "العائدون" عن الفرنسيّين الذين انتموا إلى داعش.

وتظلّ مثل هذه الشهادات مهمّة رغم كل المطاعن فيها. إذ هي من جهة أولى شهادات محدودة لأنها تقدّم جزءا ضئيلا من الحقيقة يعتمد المشاهدة والعيان من زاوية ذاتيّة. وهي من جهة ثانية تتصل بمسار فرديّ أو تقدّم في أحسن الحالات صورة شخصيّة يعسر أن تمكّن من نمذجة الظاهرة. فهل تعبّر حكاية الفاهم مثلا عن الجامع بين أكثر من ثلاثة آلاف شابّ تونسي التحقوا بداعش؟ وهي من ناحية ثالثة محدودة في الزمان (من التحاق الشابّ بداعش إلى هروبه من الدولة الإسلاميّة) لا تبيّن لنا العوامل التاريخيّة والرهانات الإقليميّة والدوليّة. فأمثال صاحب الرواية في هذا الكتاب إن هم إلاّ حطب لنار المعارك لا يتحكّمون في إدارتها ولا آليّاتها.

ورغم ذلك فإنّ للسرد دائما مزيّة ليست للتحليل المفهومي. فهو يعيد، على نحو أوضح، بناء الواقع بناء يتداخل فيه الذاتيّ بالموضوعيّ. ومن ثمّة لا يقبل التصديق والتكذيب لأنّه لا يزعم قول الحقيقة مطلقة وإن اتّخذ طابعا توثيقيّا. ولكنّ تعدّد مثل الشهادات قد يمكّن من بناء تصوّر أفضل للظاهرة الإرهابيّة.

إنّ كتاب هادي يحمد ممتع بقدر ما هو موجع، إذ تتراءى بين أسطره تراجيديا الأفراد والجماعات وتراجيديا أمّة بأكملها عبّرت عنها لازمة تردّدت في بعض فصول الكتاب بصيغ مختلفة ( ص ص 31 - 32): "خضتُ الغزوات. كنت شاهدا على دماء الرعب الغامقة واختنقت برائحة البارود ومشيتُ على بقايا الأشلاء الآدميّة وصمّت أذنيّ المفخّخات. هذا قانون الحروب التي جئنا بالآلاف للمشاركة فيها. إذا لم تقتل تُقتل..."

* أكاديمي وروائيّ من تونس