عروض

طريق حفيد آخر من أحفاد سارق النار

شكري المبخوت

23 يونيو 2017

للسيرة الذاتيّة التي يكتبها الباحثون والأكاديميّون والمفكّرون سمات لا يخطئها الناظر بعدما حقّق هذا الضرب من السير بعض التراكم. وهذا ما نلمسه في سير زكي نجيب محمود وعبد الوهاب المسيري ومحمّد عابد الجابري وعبد الله العروي وإحسان عبّاس وغيرهم كثير. ولا نعتقد أنّ سيرة الباحث والناقد التونسيّ حمّادي صمّود بعنوان "طريقي إلى الحرّيّة" (تونس، دار محمّد عليّ الحامّي، 2017، 285 صفحة) قد خرجت عن هذه السمات العامّة. بيد أنّ الخصوصيّ في كلّ سيرة لا يقلّ قيمة عن المشترك العامّ.

طفولة البؤس ومعجزة التعليم

ففي البناء النسقيّ العامّ لهذه السيرة الذاتيّة يتجلّى الخاصّ والعامّ. إذ قامت على سرد فترات ثلاث أساسيّة أوّلها وأبرزها النشأة التي استعاد فيها المؤلّف الراوي سيرة طفل تقوده الأيّام والصدف في سياق اجتماعيّ لا شيء فيه ينبئ بما سيكون عليه. فمثل جلّ الأطفال في مجتمعات الخمسينات  من القرن الماضي كانت ظروفهم يهيمن عليها الفقر والجهل وصعوبة العيش والآلام والأمراض والعاهات في قرية منسيّة.

إنّه "مجتمع مساكين" على حدّ تعبير الراوي. من ذلك أنّ الأطفال في برد الشتاء القارص ينتعلون "أحذية متكوّنة من سيور مشدودة إلى قاع من المطاط المخشوشن" فيجمد الدم في أبدانهم ممّا يلجئ المعلّمين النابهين إلى حصّة تنشيط بدنيّ قبل الشروع في الدرس. وليس للتلاميذ من طاولة لإعداد الدروس غير الركبتين وحافّة الفراش. أمّا المدرسة نفسها فلا تعدو
أن تكون مجموعة من الحوانيت المنفصلة ساحتها بطحاء يلتقي فيها التلاميذ بالمارّة والدوابّ. لقد صوّر صمّود في قسم الطفولة من سيرته عالما قوامه الجهل والفقر ورسم لوحة قاتمة لكنّ المدرسة فيها ستقلب حياة الفتى رأسا على عقب.

بيد أنّ اللوحة لا تكتمل إلّا بأسطورة فرديّة أحسن المؤلّف، وهو يستعيد ماضيه البائس، حبكها. فلصمّود جنّة يصفها بوضوح وصفاء رغم تردّدات الذاكرة وعجزها عن استرجاع تفاصيل كثيرة.

ففي منظر ساحر يلتقي صفاء ماء البحر ولمعان الأسماك في تلك القرية البحريّة التي عاش فيها بحفظ القرآن مع مؤدّب لم يكن، على الأرجح، يفهم ما ينقله إلى صدور الأطفال ولم يكونوا يفهمون غير حلاوة النغم وتناغم الأصوات في عالم من الأنوار مذهل. وفي هذا المشهد لم يكن ثمّة خوف من آيات الترهيب والوعيد بالنسبة إلى الصبيّ بقدر ما كانت صورة الجنّة عنده تتطابق مع المنظر الذي يراه حتّى أنّه "لم يكن يظنّ أنّ جنّة أخرى يمكن أن تنازعها مكانها في نفسه" (ص، 73).

فتنة البحر والرهبة منه

وليس يخفى على قارئ "طريقي إلى الحرّيّة" الحضور المكثّف للبحر. وهو بحر فاتن مخيف في آن واحد. إذ هو في مخيّلة صاحب السيرة صنو للموت والمحو. ويقوم غرق "قبّة" و"جميّل" البحّارين شاهدا تنقله الروايات في حكايات القرية عن أوّل موتى بلا قبور.

ونجد فكرة الخوف من البحر لدى الأمّ واضحة منذ المشهد الافتتاحيّ من هذه السيرة. فالذكرى الأولى التي يستعيدها النصّ، ولها في السير الذاتيّة عموما مكانة أساسيّة، هي صورة الأمّ توقظ الصبيّ من نومه لتأخذه معها إلى الشاطئ تنتظر عودة الأب البحّار في عالم مسكون بالخوف من الغرق.

ويوضّح الراوي في بعض التعاليق علاقة الأم بالبحر. فهي "تكره البحر ولا تأمن جانبه" و"تكره السمك كرها لم تنقص منه عشرتها لزوجها البحّار شيئا" و"تكره كلّ رزق يأتي منه" (ص 14).

ولم تكن الفصول الثلاثة المكوّنة للقسم الأوّل من هذه السيرة الذاتيّة المخصّص لمرحلة الطفولة إلاّ تفسيرا لهذه الرهبة من البحر. فلا تعادل فتنة الصبيّ بالبحر وصفائه إلّا رهبة الأم منه وهلعها.

وانطلاقا من هذا التوتّر بين الافتتان بالبحر والرهبة منه كان دور الأمّ الحاسم في ترغيب الصبيّ عن مهنة الأب وفي توجيهه إلى مواصلة تعليمه. فممّا يرويه عن حرصها على ذلك ذكرى مفصليّة في حياته. فقد قتلته ضربا وعضّا وقرصا حين تفطّنت، على وجه الصدفة، إلى تغيّبه عن الدراسة. فكان ذلك حدثا قلب علاقة الصبيّ بالمدرسة إلى علاقة عشق ومنعرجا حاسما في حياته.

ولئن سار صمّود في طريق أخرى غير الطريق الموصلة إلى البحر فإنّه لم يتخلّ عمّا استقرّ في مخيّلته من أنّ البحر جنّة مفقودة وإن كان يتاح له أن يعود إليها في ضرب من المراوحة بين طريق العلم والطريق إلى البحر.

فبعد النجاح في مناظرة البكالوريا التي تفتح الآفاق واسعة لم يهتمّ بما ستكون عليه الدراسة في الجامعة. "نسيت الجامعة ونسيت المستقبل ولم يكن لي من رغبة إلّا الرجوع إلى جنّتي وجنوني أقضّي العطلة من شاطئ إلى شاطئ ومن مركب إلى مركب نطارد سمكا ساحليّا حتفه من انتشائه بزرقة البحر وصفاء مياهه فيسلم نفسه من فرط الغواية" (ص 161).

ويصف في موضع آخر هذا الانشداد إلى البحر - الجنّة وصفا يبرز حلم بحّار خائب. فإثر الحصول على التبريز الذي يفتح أبواب الجامعة أمامه وحصوله على جائزة رئيس الجمهوريّة يقول: "كلّ ذلك لم يكن يعني بالنسبة إليّ شيئا ذا بال مقارنة بالخرجات البحريّة التي سأقوم بها مع أصدقائي (...) فلا تعدل تلك الفرحة عندي فرحة. فلقد كنت أنجح رغم أنفي لأنّ في داخلي رغبة عميقة في ان أكون بحّارا لولا أنّ والدتي كانت تخنقها" (ص ص 195 - 196).

السيرة الذاتيّة الفكريّة

ورغم هذا الاعتراف بحلم البحّار الذي تبخّر أو ربّما بسببه، جاءت سيرة حمّادي صمّود الذاتيّة سيرة فكريّة قوامها الحديث عن تكوين اليافع فالشابّ الذي أدرك ما عليه فعله ليخرج من وضع البؤس بفضل ما كانت تتيحه مدرسة الجمهوريّة من مصعد اجتماعيّ عبر التعليم. وتتّصل بها على نحو كرونولوجي ومنطقيّ متدرّج في آن واحد سيرة الأستاذ اللامع والباحث البارع الذي صنع مجده الشخصيّ بقوّة العقل والجد والاجتهاد حتّى انتدبته مؤسّسة علميّة عريقة هي دار المعلّمين العليا بباريس.

وفي هذه السيرة الذاتيّة الفكريّة يبرز المشترك الذي نجده يتكرّر على أنحاء مختلفة في جلّ السير الذاتيّة التي اطلعنا عليها من كتابات المفكّرين والباحثين. فأوّل الأمر يكون ضربا من الخروج عن السائد تمرّدا أو تميّزا. ففي بيئة لم يكن للأطفال فيها إلاّ البطاح والأزقة يلهون فيها ويتنازعون ويرون المدرسة "تقييدا للحرّيّة، حرّيّة الفراغ" (ص 58) كان صاحب السيرة الوحيد الذي التحق من عائلته بالمدرسة. وهو أمر لم يكن هيّنا لأنه كان يتطلّب حمل النفس على الانسجام مع العالم الجديد الذي ينتابه فيه "شعور بالغربة والتمزّق بين حرص على الدراسة وخوف من الإخفاق" (ص 96).

وهذا الخروج البسيط عن النمط الاجتماعي السائد في أوائل الخمسينات من القرن المنصرم هو المادّة التي صنع منها صمّود قصّة نجاحه وتفوّقه ووجد فيها معنى حياته. فكانت صفة الأوّل ملازمة له في مراحل مختلفة من مساره. فهو الأوّل في البكالوريا والأستاذيّة والتبريز وأوّل من حصل على هذه الشهادات في "حيّ البحّارة" ومن أوائل من أحرز عليها في البلدة كلّها. ومن الأوائل الذين حصلوا على جائزة رئيس الجمهوريّة أكثر من مرّة.

ومن هذه المعطيات الدالّة على التميّز والتفوّق يبنى صاحب السيرة الذاتيّة الفكريّة هوّيّته السرديّة. وأداته في صنع هوّيّته هي العلم والمعرفة والانغماس في المطالعة حتّى لكأنّ الحياة تختزل عنده في الفكر لتستحيل الحياة اليوميّة ثانويّة. فبعد أن عيّن أستاذا بالتعليم الثانويّ نجده يعلّق على ذلك قائلا: "كنت مقيما مسافرا ومدرّسا طالبا وشابّا زاهدا في كلّ رباط يمكن أن يشدّني إلى واقعي ويأتي على الرغبة الجامحة داخلي في مواصلة السير وإدراك ما يعمّر أحلامي من توق إلى الترقّي في مدارج المعرفة" (ص 189).

فالعادة أن يكون صاحب السيرة الذاتيّة الفكريّة منفصلا عن عالم الناس وإن لم يكن الانفصال كلّيّا، منغمسا في عوالم الفكر والمعارف وإن لم يكن الانغماس تامّا. ووراء هذا التأرجح بين الأرضيّ اليوميّ والفكريّ السماويّ تعطّش إلى المعرفة وطموح جارف بهما يبنى صاحب السيرة رؤيته الشخصيّة إلى حياته. وكثيرا ما ينتهي به هذا المسار إلى عقل مظفّر راغب عن المنفعة والسلطة ومفاسدها. وهو ما نجده جليّا في سيرة حمّادي صمّود حين يروي تفاصيل عن الصراعات في الجامعة والتكالب على المصالح الشخصيّة متعفّفا منها ناقدا لها.

ولكنّ الملمح الأساسيّ البارز في سيرة صمّود الفكريّة، شأنها شأن السير التي من جنسها، إنّما هو دعوة القارئ إلى تأمّل فكرة التقدّم الإنسانيّ وتبنّي القيم الحديثة من خلال التعليم المعبّر عن شوق دفين إلى الحريّة والعمل من أجل الآخرين.

ولمّا كانت كلّ هذه الملامح مختزنة في رمزيّة أسطورة برومثيوس الذي اختلس من الآلهة نار المعرفة ليهبها إلى البشر رمزا لإرادة الإنسان ونزعته الفكريّة وسعيه إلى الترقّي بعيدا عن منطق النفع فإنّنا نرى أنّ حمّادي صمّود في سيرته "طريقي إلى الحريّة" هو حفيد آخر من أحفاد سارق النار. 

 

* روائيّ وأكاديميّ

من تونس