عروض

الموت في قصص مهند يونس يسبق صاحبه!

يوسف الشايب

20 أكتوبر 2018

 

"انتهى المطاف بصديقنا واجداً نفسه على سطح بناية يلعن هذه الحياة ونفسه وأشياء أخرى. لم تظلم الدنيا في وجهه، بل سقطت ستارة الضوء عنها، لتفتضح عتمتها. كانت مفردة الأمل تثير فيه الغثيان. وكان الناس في نظره عبيداً، لارتهان وجودهم بآمال زائفة. لم يستطع أن يرى نفسه جزءاً من هذا النظام، ولم يستطع كذلك الخروج منه بأساليب ناعمة. إنه محاصر هنا. ويخطر بباله الآن قصيدة الطلاسم لإيليا أبو ماضي، إنه ببساطة لا يدري. ولا يملك الأمل الذي سيمنحه القدرة على الانتظار إلى أن يدري".. كان هذا المقطع الأول من القصة القصيرة "أمنية مؤجلة" للقاص الفلسطيني الشاب الراحل مهند يونس، وهي واحدة من قصص مجموعته "الآثار ترسم خلفها أقداماً"، التي أصدرتها مؤسسة عبد المحسن القطان، عبر "الأهلية للنشر والتوزيع" في العاصمة الأردنية عمّان، استجابة لإشادة لجنة تحكيم مسابقة الكاتب الشاب لعام 2017، والتوصية بنشرها.

وكانت ثلاثة وعشرون عاماً وستة أيام هي المدة الزمنية لحياة يونس، ذلك القاص الواعد من غزة التي ولد فيها بالثالث والعشرين من آب (أغسطس) 1994، وتوفي فيها في التاسع والعشرين من آب (أغسطس) 2017، بعد أن وضع حداً لحياته بطريقة مأساوية.

ويغلف الموت غالبية نصوص المجموعة التي رافقت سطور قصص كآبة طاغية، ففي نهاية "غراما فون للسيد س"، كتب ".. في إحدى المرات، كان يلعب الأطفال بالقرب من باب منزله، حذروا بعضهم من الاقتراب، لكن الصخب زاد، ولم يخرج لهم العجوز المخيف. نعم، لقد مات في النهاية، كما يموت الجميع، لم يعرف أحد أي مقطوعة كان يسمع في لحظاته الأخيرة، وكيف مات. على مكتبه وجدوا ورقة متهالكة القدم، فيها رسم لغراما فون، وتحته توقيع: مع حبي".

ولم يغب "الحق بالانتحار" عن المجموعة، وكأنه كان يهجس بالأمر سرداً، فجاء في قصة "الحوت الذي صفق باب غرفتي بذيله". ".. حتى الحيتان تموت، تلك المخلوقات الضخمة التي بوسع رجل أن يتمشى في شريانها الأورطي، والتي لها صغار بحجم بيت، تموت أيضاً، ما أتفهنا تجاهها، وما أتفهها تجاه الموت. من حق الحيتان الانتحار، والاعتداء على رغبتها هذه جريمة بحق أنفسنا. غرفتي طافحة بالماء حتى ثلثيها، خرجت من الغرفة سباحة، بل كل الغرف ...".

وفي المقطع العاشر من "بلا قصة".. "أنت غير راض عن حياتك هذه، وفي هذا عزاؤك الوحيد، نعم هو عزاؤك، لأن عدم الرضا لا بد أن يكون نابعاً من قياسك لهذه الحياة بحياة أخرى أكثر جودة عشتها من قبل. أتساءل، ما حال أولئك الذين لا يعرفون كم هي بائسة حياتهم، إنهم راضون، لكن أتراهم سعداء؟ آه الذكريات".

وتميزت هذه المجموعة القصصية، وفق بيان لجنة تحكيم مسابقة الكاتب الشاب، "بمقاربتها لثيمة الموت عبر الغوص في سرديات الفرد والجماعة في حيّز سياسيّ معدوم الأفق، حيث تلامس القصص السوريالية من جهة، وأسلوب قصيدة النثر من جهة أخرى. وهي تتمتع بلغة فنية واضحة تتوجها حبكة قصصية غرائبية غالباً ما تبدو مبتكرة، وبخاصة على مستوى البحث الذهني، وحتى حين تبدو مباشرة فإن هذه المباشرة تتحول إلى أداة مساعدة على عوالم أكثر تحليقاً. موهبة القص في هذا النص واضحة، والسرد أنيق ومحكم ومقتصد ومفعم بالإحساس العالي، وينم على تأمل وجودي عميق، وانتباه لعنصر الزمن بمعنييه الفلسفي والسردي".

وفي المجموعة "فنتازيا" بشكل أو بآخر، و"غرائبية" واضحة انعكست في عديد من القصص، أو مقاطعها.. ولعل الفقرة الأخيرة من القصة الموسومة بـ"ذكرى المحيط" تعبّر عن ذلك.. "انتهى موسم المطر، وروح الغيمة تحوم بالسماء. فارغة إلا من قطرات عدة يتيمة. تلملمها بأسى، وذكرى السمكتين العالقة بذاكرتها. كانت تلك اللحظات الأخيرة، كان الغيم يلقي بحمولته حين قامت الحمراء المرقطة بالأبيض فجأة، بمغافلة أمها الغيمة، وقفزت. أصاب الغيمة شعور بالفزع، وراحت تنفض قطرات الماء باحثة عن السمكتين، وجدت واحدة، ولم تعرف هل هي الحمراء المرقطة بالأبيض، أم البيضاء المرقطة بالأحمر".

ومما يميز المجموعة التي تبتعد عن كلاسيكية الطرح والشغل، الغياب الزمكاني بتفصيلاته الواضحة، ففي المكان تظهر توصيفات من قبل "في طريق العودة إلى المنزل"، و"النقطة المحددة التي نقف بها"، و"الشاطئ"، و"ساحة اللعب"، و"دائرة وهمية في منتصف الميدان"، و"معبد القرية"، و"هناك"، وغيرها، وهو ما ينسحب على المكان حيث "يوم الخميس الماضي"، و"ساعة صفاء"، و"في يوم طبيعي جداً"، و"اليوم العشرون بعد الألف"، و"منذ أيام قليلة"، و"اليوم الذي التقيت به لأول مرة"، وغيرها.. وهنا إمام يتمترس المكان كما الزمان في داخل ذاكرة الكاتب دون غيره، أو يلتبسان في تأويل المعنى المرتبط بهما، أو يغيبان بل يموتان في حالات أخرى.

أما الشخوص فهي تائهة بلا أسماء، يكتفي يونس بوصفها، فالبطولات هنا ليست فردية ولا جمعية، إن كان ثمة بطولات أصلاً في قصص "الآثار ترسم خلفها أقداماً"، فلغة الغائب أو الإشارة تبرزان بوضوح يكاد يكون الوحيد في المجموعة المليئة بالضبابيات، كأنه "الرمادي"، ومن هذه الشخصيات اللاأبطال: "الرجل الدب"، و"الزعيم"، و"صديقنا"، "والسيد س"، و"السيدة الكبيرة في السن"، وغيرهم، في حين تراوح لغة الراوي ما بين الأنا الذي يتحدث عن نفسه، وما بين الراوي العليم وغير العليم، وما بين مخاطِب ومخاطَب.

يونس الذي يعترف بأمور عدة كأن "أشعر أنني تائه"، و"قصتي هي أن لا قصة لديّ"، و"لن أنتظر كثيراً من الشهور الهادئة"، وصرخ صرخة مدوية بأن "أريد الحرية"، كان قد وضع بنفسه حداً لحياته في آب (أغسطس) 2017، هناك كان يعيش يومياته الصعبة في حي تل الهوى بغزة، حيث انتشرت روايات كثيرة حول الحادثة التي انتهت برحيل مبدع كان ينتظره، لربما، مستقبل أدبي كبير، لو قرر مقارعة الموت المحيط به من كل جانب في قطاع غزة، حيث "الحياة" تبدو مفردة "غرائبية"، وضرباً من ضروب "الفنتازيا".. كان ذلك ممكناً لولا أنه رأى سفينته الصغيرة "ملقاة فيما يشبه الصحراء".