عروض

"الطريق إلى البيت" لمروان علي: الشاعر وجَنَّتهِ المفقودة

عماد الدين موسى

15 فبراير 2018

تكادُ القصيدةُ بالنسبة لمروان علي أن تكون الكوّة الوحيدة- للتنفّس والنظر والإصغاء معاً- ليطلّ من خلالها على ذكرياته/ ماضيهِ، تلك "الذكريات" الحميمة والمؤلمة في الآن معاً؛ "كانت الحياةُ جميلةً، طريقي، كبرنا فجأةً، أتذكّركِ بشراسةِ مُحاربٍ كُرديّ، كانت حياتي حافِلَةً، البلادُ المنخفضة، رائحة دمشق، تركُوا كُلَّ شيءٍ خلفهم، كانت الأرض صغيرةً.. إلخ".. تعابير نجدها بين ثنايا كتاباته، مركّزاً بذلك على الذاكرة وحدها في نسج مُعجمٍ شِعريٍّ خاصّ به، تحديداً حركته السلسة في تلك المساحة النديّة من الأمس وما لها من أثرٍ بالغٍ كجرحٍ لا يندمل، ومن ثمّ تدوينها بأُلفةٍ وهدوء.

في مجموعته الشِعرية الجديدة "الطريق إلى البيت"، الصادرة عن منشورات المتوسط (ميلانو- 2018)، يُعيدنا الشاعر الكُردي السوري مروان علي إلى تخومِ قريته/ مدينته الفاضلة "كرْصُورْ" تلك القرية الوديعة والواقعة في أقصى الشمال السوري، ثمّة يوتوبيا يرسمها الشاعر معتمداً بذلك على تقنية المقطع وتداعياته من الاختصار اللغويّ والتكثيف الشديد عبر شحنها بمزيد من الصور الشِعريّة القادمة من مكانٍ ليس ببعيدٍ بل على مرمى حجرٍ من القلبِ أو أقلّ؛ حيثُ يقول الشاعر في شذرةٍ أتتْ في مستهل المجموعةِ: "كَتَبْتُ القصيدةَ الأُولى على الجدرانِ الطينيّةِ، تحتَ شمسِ أيلولْ، وتَرَكْتُهَا هُناكَ، في كرْصُورْ، كي لا يقولُ لي أَحَدٌ: - لَمْ تَتْرُكْ شيئاً، خلفكَ، لأهْلِكَ./ وَذَهَبْتُ بَعِيداً".

يكتب مروان علي، المقيم في ألمانيا منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ، قصيدةً مُفعمةً بالحنين، يكتب بُحبٍّ سيرة المكان وذلك من خلال رسم بورتريهات لمدن وأماكن طالما زارها وسكنها، لتسكن هي بدورها وجدانه وقصائده؛ فنقرأ عن قرى ومدنٍ كثيرةٍ من مثل "عامودا، القامشلي، كرصور، أمستردام، كري موزان، علي فرّو، وان، هيمو، هرم رش، تل تمر، تدمر، ديار بكر، لاهاي، القاهرة، حلب، دمشق، والحسكة"، إضافةً إلى كل من "هولندا وكردستان وسورية". والشاعر في كل ذلك يبدو وكأنه يكتب عن أنثاه/ حبيبته ويتغزّل بها، طالما أن لا حُبّ دونَ هذه المدن/ الأماكن أو تلك، حيثُ يُعنون القسم الخاص لهذه القصائد بعنوان إشكاليّ/ لافت، هو: "في البحث عن المكان الضّائع".

في قصيدة بعنوان (حين غادرتُ حلب) يقول الشاعر: "وحينَ غادرتُ حلبْ/ رأيتُها تنظرُ إليَّ/ وترفعُ يَدها/ ../ المُدنُ كالبشرِ/ تبكي بصمتٍ/ حينَ تشتاقُ/ وحينَ تكونُ وحيدةً..". ثمّة أنسنة واضحة في هذه القصيدة، فحلب تنظر وتحرّك يدها والمدن بشرٌ مثلنا وذات مشاعر أيضاً، وهو ما يؤكّد أن علاقة الشاعر بتلك المدن ليست مجرّد علاقة عابرة وسطحيّة مع المكان الجامد، وإنما بوصفها أجساد حقيقيّة ولها أرواحٌ تضجّ بالحياة وكذلك قلوبٌ تنبض بالحبّ.

وفي قصيدة (كرْصُورْ) يقول: "صَعَدْتُ إلى أعلى نُقطةٍ/ في أمستردامْ/ ولمْ أرَ شيئاً/ من عتبةِ بيتنا الطينيِّ/ في كرْصُورْ/ كنتُ أقفُ على رؤوسِ أصابعي/ وأرى العالم". هنا ثمّة تأكيدٌ على أنّ الشاعر يرى بقلبه/ بصيرته لا ببصره، لذا يستعين بقلبِ ذاك الطفل الذي كان ذات يوم، بحيثُ نجد أنّ عتبة البيت في قريته الصغيرة أكثر جمالاً وقرباً ومُحبّباً إليه وأهمّ من أعلى نقطةٍ في العالم أجمع، لذلك يرى هناك (في الوطن) ما لم ولن يراهُ هنا (في الغربة).

مجموعة "الطريق إلى البيت"، والتي جاءت في ثمان وثمانين صفحةً من القطع المتوسط، هي الإصدار الثالث للشاعر مروان علي (من مواليد القامشلي، 1966)، إذْ سبقَ لهُ أنْ أصدر مجموعتين شِعريتين، هما: "ماء البارحة (2009)"، و"غريب لا شيء عنك في ويكيليكس (2014).

في هذه المجموعة؛ يتوغّل الشاعر أكثر فأكثر في النَفْس حيثُ المشاعر بحزنها وفرحها تكون على أشدّها، لذا نجد ثمّة نوستالجيا جليّة وذات منسوب مرتفع كان لا بدّ منها؛ "المسألةُ/ ليستْ صعبةً جدّاً/ كما تصوّرنا/ فقط لمْ نحسب/ الأعراضَ الجانبيّةَ/ لهذهِ الكلمةِ:/ وداعاً".