عروض

دعد حداد: أنا التي تبكي من شدّة الشِّعر

مناهل السهوي

30 مايو 2018

لسببٍ ما تبقى الرموز الخالدة في الشِعر هي التي اختبرت الألم عن قرب وعانت طويلاً لتموت من دون أن يلتفت إليها أحد، هكذا نصنع الشِعر في هذه البلاد بالقليل جداً من الحياة، بأقلِ مما يلزم للوقوف حتى!

أتت الشاعرة دعد حداد 1937-1991 من اللاذقية إلى دمشق باحثة عن الحياة والشعر، فغرقت أكثر في الحاجة وأنصاف الحيوات، سكنت مطبعة وحيدةً بين جدران رطبة وأحلام كثيرة، تنظر النافذة المرتفعة وهي تعلم أن العالم في الخارج مشغولٌ جداً ولا يملك وقتاً لامرأة وحيدة، فانغمست أكثر في شعرها وفي وجدانها المضطرب والمتهالك، صانعة من كلّ الحياة قصائد، من الأبواب والأقفال وحكايات المارّة، فصار الشعر مسكناً ولباساً وحبيباً وذراعاً. ليس الفقر من صنع هذا الشعر إنما الشعر هو من وجد عالماً من الجمال في هذا البؤس.

في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة السورية دعد حداد، الصادرة عن دار التكوين/ دمشق، والتي تحمل عنوان "أنا التي تبكي من شدّة الشعر"، نواجه مرّة أخرى شاعرة استثنائية في جميع تقلبات حياتها وفي كلّ ما عانته، من خلال ثلاث مجموعات شعرية "تصحيح خطأ الموت"، "الشجرة التي تميل نحو الأرض" المنشورتين خلال حياتها، ومجموعة "ثمّة ضوء" التي نشرت بعد موتها.

  

في الوحدة يبدأ الشِعر

يبدو الألم كما الوصفة السحرية التي لا تدركها سوى النساء ليُعِدْن خلق أنفسهن، فيغدون أكثر رقة، أكثر بسالة، شفافيةً وحزناً! إنها البوابة العجيبة لتركيب الذات في أقسى الظروف، وهذا ما نتحسسه في شعر دعد، وكأنما الألم خُلق لتجدَ لنفسها عالماً خاصاً من الانذهال، الشجرة التي تميل نحو الأرض تعلم كيف تصنع من الانحناء شكلاً للريح، تتقن كذلك وضع أذنها قريباً من الأرض لتسمع جيداً ما يدور داخل القبور، دعد الشجرة التي صنعت من نفسها معبراً للريح القاسية تحولت إلى شجرة مائلة وكأنها صُنِعت لتعبر الريح من فوقها.

"أغمضوا أعينكم

سأمرّ وحيدة،

كحد رمح

حين هطول.. دموعكم".

لحزن دعد طابع الأنوثة الهشّة، فيكفي لفهم شعرها أن ندرك أنه كلما ازدادت القسوة من حولها كتبت شعراً أرقّ وبدت شفافة أكثر، الأساس الذي تُبنى عليه قصائد دعد هي الوحدة وتشكيلها عبر كلّ لحظة، كلّ قصيدة هي شكل من أشكال الوحدة التي عايشتها مبنية فوق رغبة متينة في الحياة، رغم غيابها ربما وضبابية حضورها، إنها الفلسفة البسيطة للمرأة المتروكة من الحياة والأهل والحب والفرح.

"وأنا سوداء كالبنفسج..

من الحزن الدفين"

 

لو أن أحداً يناديني

معرفة حجم الخسارات مسبقاً جعلت من دعد امرأةً حاسمة في الكتابة، وأن تصبح شاعرة حاسمة بكلّ هذا الجمال، إنما هو نتيجة لخذلانها لحدٍّ لا عودة منه، جاعلة من كلّ دقيقة لحظة اعتراف لنفسها أولاً وأخيراً، فشاعرة مثلها لا تحتاج جمهوراً أو قارئاً بقدر ما تحتاج أن تعيد تدوير ألمها بتفننٍ. هذه القسوة التي تمنيها بها الحياة تجعل من دفق حضورها أقوى وكأنها المرأة المكسورة والحاضرة في كلّ وقت، الميتة والحيّة أمام الليل، الجبانة والمهزومة، لكن تلك التي تقاتل النمور في غابات الوحدة، ومن هنا تصنع عزلتها، تؤثثها بحزن وتستعدُّ كلّ ليلة لفهمها من جديد، عزلة مهد لها الآخرون حين صنعوا مسافة مع أحلامها ومع عالمها الخاص.

"وتولد دعد..

على مقعد.. في حديقة..

وتستقبل أعوامها..

وتفرح أن القصيدة عادت إلى حزنها..

وتبكي على حضنها..

وتبكي على مقعد في الحديقة".

في قصيدة "ليلة في المطبعة" تحكي دعد عن جنيّة تأتي ليلاً لتتجول بين الكتب ثم تطلب أن تأخذها معها، لتستذكر بعدها منزل الشاعر نزيه أبو عفش وتسميه "كوخاً" تظهر هنا رغبتها بالعودة للحظة من السكينة فهي تنسى أمر المطبعة تماماً وتستحيل بذاكرتها إلى قرية نزيه. المطبعة هي ذاكرة دعد ومأوى أحلامها وسجنها، في الوقت ذاته فهي مسحورة بها لكنها مسجونة داخلها أيضاً، للمطبعة في ذاكرتها مزيج من الألم والانتماء والخوف، فهنا لم يطبعوا الكتب وحسب، بل هنا توجد أيضاً امرأة تعيش ليالي طويلةً من الوحدة والتشرد والترك.

"جنية المطبعة..

جاءت في الليل..

تحمل الخرافات..

وترقص في كتب السحر المدرسية

...

واحمليني.. احمليني بعيداً..

وإلى أين تتركيني وحيداً..".

الليل في شعر دعد هو كنس الحياة بعيداً، والتلذذ بشريط السينما الخاص بها، الذكريات، الأبطال الذين لم يأتوا، والكائنات القاسية المنبوذة، الليل هو المرأة الصافية جداً في شعرها، المرأة التي صنعت منها القسوة والخيبات شلالا من ماء صاف يزداد تدفقاً في العتمة، هي تنتظر، وهذا الانتظار بسيط، لكنه غير مفهوم، ولا يكفّ عن طرق رأسها، ماهرة في مخاطبة وحدتها من دون أن تتهمها مباشرة وكأن كلّ هذه السنوات من العزلة والخيبات جعلت منها امرأة أليفة مع نفسها.

"لو أنّ أحدا يناديني الآن

لتركت كتابي المحبب

وفنجان الشاي".

تجمع دعد صوراً لكلّ شيء تراه، فالكون حولها ليس مجردات وحسب، إنما صور شعرية تتراصف بدقة لتضيع في الفراغ. ومن هنا نتحسس في بعض نصوصها نهايات باردة بلا غاية ولا دهشة، هي فقط جزء من سلسلة تودُّ لو تحكيها، النهاية عند دعد محسومة ربما في رأسها ولا حاجة لأن تُدهش نفسها بها في كل مرة، فهي في النهاية ليست امرأة الاحتمالات والخيارات، بما أن حياتها مفروضة بشكل لا يمكن التراجع عنه أو تغييره، لذلك فهي تختار أن تمشي مع الشعر بهدوء وبدون نية لإثارة الفزع أو الجلبة من حولها.

"أفكر بأني وحيدة

وهذا حسن

ليبكيك، يا مستقبل الحب، العارفون..

حيث النوايا في كف الزمان..

والرحيل يؤرق الشعور.

فها هي يدي اليمنى تكتب..

واليسرى تلامس الورق المصقول..

والنباتات الصديقة والأزاهير"

 

هل الحب هو الضباب؟

 هذا الأمر لا ينطبق بالطبع على كلّ قصائدها، فالحزن والانتظار والرغبة تتفجر وتتسلل ليلاً بحثاً عن الخلاص والآخر والحياة، تتفرد دعد في تجديد الفراغ ذاته والمكان ذاته والألم ذاته، وكأنها تعيش في عدة أكوان، وهذا يحيلنا إلى كمية الألم الذي عايشته كلّ يوم.

"شيء مدهش

عالمنا شيء كالعشب المنسي في قاع البئر

عشب ماض نحو الصمت.. المطبق"

يتحول البحث عن الحب عند دعد حداد إلى ضباب ندخل فيه من دون أن نمسكه، يلمسنا، نبتلعه ويمضي حولنا ثم يختفي، الحبيب ليس في كله هنا، لا تستند دعد عليه في قصائدها، إنما تخاطبه وكأنها تفهم هذا البعد، في دعد امرأة لم يكتشفها سوى الشعر، امرأة تخاطب مشاعرها به، تعرف الرجل رغم غيابه، تخاطبه بحنان الأم وباشتياق الحبيبة ولا تؤنبه إلّا قليلاً، فلا يمكن لهذه النصوص إلا أن تعطي كثيراً كما كاتبتها. أشدّ ما يؤلم في شعر دعد أنها امرأة عارفة في الألم، عارفة في الحب والحزن والموت، وكأنّها كاهنة قديمة نسيها الزمن في دمشق لتروي الحب من جديد.

"يبكي الله لأني أحبك أكثر منه

وتمطر السماء حين أفتش عنك

وأخاف، فأبكي..

وأؤجل لقائي معك".

 

تجعلنا دعد في النهاية نفكر في الشعر حين يستحيل إلى حياة نعيشها، المرأة اليائسة من مصير هذا العالم، لكنها في الوقت نفسه تصنع معجزة صغيرة، معجزة من تلك المعجزات التي نفعلها من دون دراية منا كأن نكتب الشعر ونرحل.