عروض

مختارات قصصية من الأدب الأردي

إيهاب محمود

30 أغسطس 2018

على الرغم من أن الأدب الأردي يقبل التصنيف على أساس أنه أدب حديث، إذا ما تمت مقارنته بالآداب الأخرى، التي سادت في الهند سنوات طويلة كالأدب الفارسي، إلا أنه أدب ثري سواء على مستوى موضوعاته أو أصنافه.

وتعد القصة القصيرة الأردية من أوسع الألوان الأدبية هناك، وهو لون محمل بتأثيرات واسعة من الثقافة الغربية خاصة الأدب الإنكليزي. وتعود أصول ظهور القصة القصيرة الأردية إلى أوائل القرن العشرين، على يد سجاد حيدر يلدرم وبريم جند، وقد مثل كل منهما اتجاهًا مختلفًا في الأدب الأردي، أحدهما خيالي رومانسي وهو يلدرم، والثاني إصلاحي واقعي وهو بريم جند. ومنذ عام 1932 شكل الاثنان ما يمكن تسميته بالانطلاقة في القصة القصيرة الأردية التي اقتربت من الحياة الشعبية، وتفاعلت مع الهموم اليومية وشاركت في حركات إصلاحية متعددة، وساهمت في بث الروح الثورية ضد الاستعمار.

وأخيرًا، أصدرت سلسلة الجوائز التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب "مختارات قصصية من الأدب الأردي"، لستة من كتاب القصة هناك، وهم: سعادت حسن منتو، كرشن جندر، أحمد نديم قاسمي، راجندر سنج بيدي، خواجه أحمد عباس، وخديجة مستور.

المصادمات الطائفية

يعتبر منتو من أهم كتاب القصة الأردية، إن لم يكن أهمهم فعلًا، وقد صدرت له في هذه المختارات أربع قصص كأكثر كتاب المختارات. ولمنتو مجموعة قصصية اسمها "الهوامش السوداء" يعتبرها أيمن عبد الحليم، مترجم الكتاب، من أروع المجموعات القصصية التي صورت المصادمات الطائفية في الهند. لم يهتم منتو بتقديم الوعظ والنصيحة المباشرة الفجة، بل وصف الأحداث متخليًا عن العاطفة تمامًا، فكتب قصصه عارفًا واعيًا بالحقيقة، وهي أن مأساة الطائفية في الهند شاركت فيها جميع المذاهب هناك، كما لم يصمت تجاه تجاوزات أبناء مذهبه العقدي، وكتب عنهم بنفس نبرته الساخرة النقدية اللاذعة.

ويشترك الكتاب الستة الذين تضمهم المختارات في أنهم تعرضوا لظرف تاريخي واحد، حيث المصادمات الطائفية العنيفة وبداية الحديث عن ظروف تقسيم شبه القارة الهندية مع حلول العام 1947، فكان لديهم وعي عميق وإدراك بأحداث التقسيم التي أوجدت خللًا كبيرًا في السياقات الاجتماعية والفكرية، وأحدثت اهتزازًا في القيم الإنسانية المرتبطة بالواقع، فقدموا واقعهم بأساليب فنية متنوعة، وعالجوا الآلام الإنسانية المختلفة عن أحداث الصدامات الطائفية. ولم تخل القصص من بعض لمحات المحبة الإنسانية، وجاء بعضها كتأريخ للقضايا الاجتماعية والنفسية التي أنتجتها المذابح الطائفية، وبشكل خاص أن صراعات وآلام أبطال تلك القصص ترتبط بقوة بالأحداث الواقعية الحقيقية، وربما كانت تلك الآلام، وهو افتراض جائز طبعًا، هي آلام الكاتب نفسه، حيث عاش وعاصر وشهد تلك الحقبة السوداء، فنقلها على لسان شخصياته وأبطاله.

في هوامشه السوداء، يقدم منتو القصة الومضة، الخاطفة، قصة لا تتعدَّى بضعة أسطر، وأكبر القصص لا تزيد عن صفحة واحدة، تشترك كلها في اتخاذ فضاء مكاني واحد، وملامح مشتركة لعالم يسيطر عليه القتل والدم، فالجميع هنا قتلة وأوغاد، ولا حديث عن أي إنسانية تذكر، الجميع إما يتلذذ بالموت، أو يحكي عن الموت، أو يخطط لموت أحدهم، وفي الأخير يطل الموت برأسه كوحش كاسر يلتهم كل ما حوله. وهي ومضات تعكس بشكل كبير ما جرى في تلك الحقبة من صدامات عنيفة كان أبطالُها في الغالب مواطنين محكومين لا ذنب لهم ولا رأي في شيء، وربما أحسن منتو بإطلاق اسم "الهوامش السوداء" على القصص.

التقسيم

وعبر ثلاث قصص هي "امرتسر قبل الاستقلال"، "امرتسر بعد الاستقلال"، و"الأوغاد الثلاثة" يحكي كرشن جندر حكاية التقسيم والمصادمات الطائفية، ويتخذ من قصة احتشاد الآلاف في حديقة جليان والا تكأة لسرد قصته، حيث تجمع المسلمون والمسيحيون والهندوس، والجميع أعزل إلا من نظرات حادة تؤذن بثورة قادمة، نظرات أربكت المستعمر الأجنبي الذي وقف جنوده يحاولون صد النظرات الحادة بأسلحة حديدية. ويحكي كرشن عن بطولات نسائية قبل الاستقلال، في إيضاح لدور المرأة قبل الرجل، ويؤسطر حكايات أربع سيدات هن: بارو، زينب، بيكم، وشام كور، إذ تحدين المحتل الذي غربل أجسادهن بالرصاص بعد أن قدمن بطولات استثنائية: "اليوم، كل ذرة في هذه الحارة مضيئة بدمائهن المقدسة، لستن أنتن فقط من مررن من هذه الحارة رافعات الرأس، اليوم وطنكن بأكمله يمر من هذه الحارة رافعًا الرأس بفخر".

وفي قصة "التئام الجروح" يسرد أحمد نديم قاسمي المسألة الباكستانية قبل انفصالها عن الهند عام 1947، هذا الانفصال الذي انقسمت باكستان على أثره إلى باكستان الغربية وهي دولة باكستان الآن، وباكستان الشرقية وهي دولة بنغلادش حاليًا، وهو الانقسام الذي صاحبته صراعات حامية للغاية، وبعد حرب 1971 بين الهند وباكستان انفصلت باكستان الغربية بشكل نهائي، في حين تكونت دولة بنغلادش واتخذت من مدينة دكا عاصمة لها، وهي المدينة التي شهدت أول اجتماعات حزب الرابطة الإسلامية للمطالبة بوطن مستقل للمسلمين.

ويحاول راجندر سنج بيدي، في قصته "لاجونتي"، سرد بعض الحكايات المرتبطة بالتقسيم، من خلال قصة لاجونتي، زوجة أحد العمال في باكستان، والتي تم اختطافها ذات يوم، وبعد رحلة بحث طويلة وبشكل غير متوقع وجدها زوجها سندرلال في الهند، وبصعوبات بالغة استطاع أن يصطحبها معه، ولأيام طويلة تالية لم يستطع سماع ما جرى لها في فترة غيابها، لم يكن قادرًا على سماع شيء أو تخيل ما جرى: "لم تكن لدى سندرلال أعين لترى دموعها، ولا آذان لتسمع أناتها". اكتفى بأن يعاملها معاملة جيدة، وأن يعوضها قدر استطاعته، ولكنه كان يتحاشى الحديث معها حول طبيعة ما حدث أثناء الغياب.

وفي قصتها "إنهم يذهبون بي يا أبي"، تتعرض خديجة مستور لأزمة التقسيم والصدام الطائفي من زاوية رومانسية بعض الشيء، من خلال قصة فتاة مع حبيبها، وهي حكاية عاطفية تحاول أن تستقوي بالعاطفة على الموت، وأن تتحدى الخراب الذي كان يحكم عالمهما آنذاك، وبسبب حروب العصابات الدائرة وقتذاك، والفوضى الرهيبة، خُطفت الفتاة أمام عينيه، فلم يستطع إنقاذها، ولم يفلح في فعل شيء، وفقط بكى لثلاثة أيام متواصلة، ثم أفاق على صوت نهب لمبنى قريب منه، وضوضاء وأصوات صاخبة، ليجد نفسه يجتهد للوصول إلى بيته، غارقًا في تفكير لا يعرف جدواه أو هدفه.