عروض

"على حافة عمر هارب": تحوّلات الأنوثة عبر الزّمان

ليندا نصار

19 أغسطس 2018
تعدّ الشّاعرة فاطمة الزّهراء بنيس من الأصوات الشّعريّة المغربيّة اللّافتة التي لم تقف عند حدود معيّنة في القصيدة بل تخطّتها لتشكّل لونًا يتأسّس من رؤية جماليّة خاصة. إنّها الصوت الذي يكتب قصائد مرتبطة بطبيعة الحياة المنشودة من داخل الحرّيّة لتمثّل كلّ امرأة تعيش في سياق حالات شعوريّة بكلّ تناقضاتها ونزاعاتها وانهزاماتها وانتصاراتها وسط تجاذبات هذا المجتمع. من هنا جاء الشّعر منطقة الاحتماء التي ترّمم الحدود المفقودة ما بين الماضي والحاضر بما يرافق هذين الزّمنين من علاقات إنسانيّة مبنيّة على الحبّ والحياة.

"على حافة عمر هارب" هو الديوان الرابع للشّاعرة المغربيّة فاطمة الزهراء بنيس، الصادر عن دار البدوي في تونس. وسبق أن صدر لها ثلاثة دواوين: في سنة 2004 ديوان “لوعة الهروب”، المغرب، وفي سنة 2008 صدر لها “بين ذراعيْ قمر” في مصر، وفي 2011 “طيفُ نبيّ” في لبنان. وقد تُرجمت قصائدها إلى اللغات: الإسبانية والفرنسية والإنكليزية والمقدونية والرومانية.

تسعى قصائد الدّيوان إلى توثيق العلاقة بين المرأة الحالمة والطّبيعة الّتي باتت تمثّل شكلًا من أشكال الراحة، فهي التي تدخلها في حالات رومانسية شعوريّة، وتصوّرها بكلّ أحاسيسها سواء في لحظات ضعفها أو في قوّتها.

حرية المرأة

لا يمكننا الولوج إلى أعماق الدّيوان من دون التّطرّق إلى موضوع حرّيّة المرأة؛ كيف تحدّدت منذ الولادة بدءًا من اسمها حيث غياب الخيارات بالنّسبة إليها، فيبدو لنا هنا عمق التّجربة، المرأة هنا تتنفّس حرّيّة شبه منتزعة منها، ويظهر ذلك جليًّا من خلال الشّعر الذي بات يشكّل الحياة بالنّسبة إلى الشّاعرة. إنّها المرأة التي تعيش تجربة حبّ تتخيّله وتتمنّاه حيث يمكن تحقيقه في مكان آخر بعيدًا عن هذا العالم الذي قد تتحكّم فيه العادات والتّقاليد. كما تظهر صورة المرأة بمشاعرها وأحاسيسها على أنّها محور القصائد بحيث تنتقل من حالة إلى أخرى، مع ما يرافقها من صعوبات. فهي الطّفلة اللّاعبة اللّاهية السعيدة التي انتقلت عبر الزّمان إلى عالم من شأنه أن يكسر أحلامها. وهي المرأة المتأمّلة الحالمة المتمردة المتألمّة الحزينة الخائبة وهي التي تعيش اللّحظات الفارّة منها، وكأنّ العنوان "على حافّة عمر هارب" جاء ليوضح أكثر ما قد يحلّ بأيّة امرأة من ألم بسبب الفقدان والفراق، وبالتّالي يذهب العمر ويمّحى الإنسان وتزول معه الرّغبات المؤجّلة عبر الزّمن. (في عرس هوايَ المُنكَّه بالنبيذ/ لم أرتد فيه الأبيضَ/ كنت ملفوفة بفجر نديّ/ اقتادني نحو ليلة معلّقة/ كأنّنا كنا معًا/ وافترقنا لذنب لم نقترفه/ ثم التقينا على حافة عمر هارب). 

تتطرّق الكاتبة إلى موضوع الجسد بشكل خجول وهو الذي يوحي ويغري بجمال المرأة بالنّسبة إلى الرّجل، وهو موضوع الرّغبة. فهذا الجسد موشوم بخارطة الحياة التي بدأت فيها الشّاعرة تجربتها طفلة وانتهت فيها امرأة، هنا يمكننا القول إنّ هذا الجسد هو الشّاهد على تحوّلات الأنوثة عبر الزّمان.

في القصائد، تتبدّى الذات بكلّ أسئلتها، فهي الباحثة عن مصدر هذا النّقص الذي هو أصلًا يسكن كلّ إنسان ويدفعه نحو الحفر في ثنايا المجهول، فتأتي هذه القصائد محاولة إيجاد إجابات لأسئلة كونيّة قد تراود أيّ إنسان. كذلك لم تغب عن الديوان صور وحالات الأنا الممزّقة المتشظيّة وسط عالم منفتح على دلالات كونية تعبّ منه قصائد منطلقة من المعاناة الأولى، فمن رحم الأم وصرخة الولادة نحو المراحل العمرية الأخرى طريق مكلّل بالحلو الذي قد يغلبه المرّ في أكثر الأحيان. وتظهر في القصائد أيضًا حالات من الوحدة والعزلة، ما يدفع بالكاتبة إلى إعلان نفسها ومشاعرها فتبدو لنا المرأة الرّومانسيّة الّتي تعبّر عن رؤيتها الشّعريّة، متوسّلة التّصوير الجماليّ لعالمها الخاصّ الذي تنطلق منه نحو العالم مستعيدة لحظات مرّت معها عبر الوجود ولن تتكرّر.

نلاحظ في هذا الدّيوان أيضًا أنّ الشّاعرة تعيش حالة امتلاء من خلال علاقتها بالشّعر بوصفه أملًا يرفعها إلى الله، بحيث يرمّم ترهّلات النّفس الممزّقة إثر جراح تعرّضت لها بفعل الفراق والألم، فتأتي القصيدة مستمدة من جماليّات الطّبيعة المتنفّس الوحيد للإنسان. وهذا ما يوضح علاقة الشّاعرة بالمكان أيضًا، الأصل والبداية الموحية حيث تتحاور الحواس جميعها فيندمج الصّوت بالصّورة خصوصًا، وتنفتح أبواب الشّعر والحياة. (هو الشعرُ يعصر أعنابهُ/ في عينيَّ/ يبثّ رحيقه في جسدي/ هي أنا أولد ممحوة منّي/ مكسوّة بحرف/ إلى الله يرفعني).

(كنتُ  أحتاج المزيد من الجراح/ لأكون جديرة بهذا الألق/ كنتُ أحتاج أن أتيهَ أكثر لأدرك/وحده الحلم سيقطفني/ وحده الغيم سيشعلني).

"النور الذي لا يحرق لا ينير والماء الذي لا يلهب لا يروي": تعبّر الشّاعرة في هاتين العبارتين عن تأمّل حياتيّ وحكمة وجوديّة تدلّ على الأثر الذي قد يترك داخل كلّ إنسان ومكابد الحياة التي يمرّ بها قبل وصوله إلى تحقيق إرادته.

وأخيرًا لا ننفي أنّ لغة الديوان تتوأمت مع المعاني المطروحة فجاءت قالبًا يحمل أبهى الصّور التي ثقلت القصائد بجوهرها وأبعادها والتي تأخذ القارئ إلى عالم على مستوى الحلم.

كلمات مفتاحية

شعر عربي حديث