عروض

"صعود أهل النفوذ": رؤية مناهضة للمركزية الأوروبية

إيهاب محمود

21 أبريل 2019
تتمحور الرواية التاريخية السائدة حاليًا حول المركزية الأوروبية، أو ما يمكن أن نطلق عليه "صعود الغرب"، وهو منهج يبالغ في تمجيد كل ما هو غربي على حساب العالم الثالث، بحيث يبدو الغربي العادي قادرًا على لعب أدوار تفوق قائد بلد من بلدان العالم الثالث، وهو منهج غير مقبول، لا من الناحية الفكرية، ولا النظرية.
وفي كتاب "صعود أهل النفوذ" يبدو بيتر جران مشغولًا بإعادة التفكير في تاريخ العالم الحديث، محاولًا تقديم خطوط عريضة لرواية جديدة تساعد في التغلب على صعوبات التفسير للتاريخ الحديث.
ثمة مأزق يواجه مؤرخي العالم بالعمل داخل الإطارين المعاصرين: الليبرالية أو الماركسية، وتطبيق مفاهيمهما على دراسة التاريخ الاقتصادي للعالم، وهذا هو ما يتناوله الفصل الأول من الكتاب "التاريخ الاقتصادي للعالم الحديث بين الليبرالية والاقتصاد السياسي".
ويتخذ الفصل مثالًا من مفهوم تخطي الحدود القومية، وهو مفهوم يحمل العديد من الاحتمالات المثيرة للاهتمام، ولذلك له العديد من المؤيدين والمتحمسين، وهناك التزام قوي باستخدامه على وجه الخصوص من جانب المدافعين عن السوق الأوروبية المشتركة. ويذهب جران في هذا الفصل إلى أن النتائج التي وصل إليها الاقتصاد الماركسي المعاصر هي نفسها التي حققتها
الليبرالية الجديدة، ولكن مع استخدام لغة خاصة ومنهج خاص.
ويركز الفصل الثاني من الكتاب الذي يأتي بعنوان "التاريخ السياسي للعالم الحديث بين الليبرالية والاقتصاد السياسي" على الجانب السياسي للتاريخ الحديث في مرآة الليبرالية الجديدة، وكذلك على المشكلات التي يخلقها هذا التناول لليبرالية نفسها والماركسية أيضًا، حيث من المؤكد أن النظرية السياسية لليبرالية الجديدة تتلخص في عدد من المفاهيم المترابطة التي أضيفت إلى الليبرالية القديمة، كما يدعي جران في هذا الفصل أن التاريخ التقليدي القائم على منهج صعود الغرب سواء كمقاربة ليبرالية أو ماركسية لا يفسر التاريخ المعاصر جيدًا، وأن منهج صعود أهل النفوذ هو البديل الواعد والأكثر قدرة على التحقق.
بالنسبة لي، يمكن اعتبار الفصلين الأول والثاني بمثابة تمهيد من جانب المؤلف لطرح فكرته، التي تبدأ في الفصل الثالث "صعود أهل النفوذ في العصر الحديث المبكر" حيث يبدأ بمحاولة تصوير ما يمكن أن يبدو عليه المنهج المعرفي الجديد كطريقة لدراسة تاريخ العالم الحديث في الفترة من عام 1550 وحتى عام 1850، وهي الفترة البادئة بميلاد الرأسمالية الحديثة حتى خلق الدولة القومية الرأسمالية، ويؤكد جران على عنصر فعال للغاية ساهم في صعود الرأسمالية، وهو التركيز على جماعة مهمة من البشر، مهتمة بدرجة كبيرة بالدبلوماسية والنهب، يسميهم جران "الرجال الجدد"، حيث كانوا عنصرًا بالغ الحيوية بين أهل النفوذ أو كانوا يسعون للالتحاق بهم: "وتبين أنشطتهم بوضوح صلة الموضوع الأكبر، أي صعود أهل النفوذ، بشريعة السلب والنهب. ورغم أن كثيرًا من صعود أهل النفوذ تطلب تعديلات من جانب الطبقات الحاكمة للتحول للنظام الجديد، فلم تكن هذه هي الصورة الكاملة أبدًا، ولا هي كذلك
اليوم. هناك كمية كبيرة من الأدلة ترجع إلى التاريخ الحديث المبكر والحديث على السواء تدل على أن الرجال الجدد كانوا موجودين منذ قرون؛ وأنهم كمجموعة قاموا بتسهيل دبلوماسية التجارة والنهب، وبدونهم كان من الصعب تخيل نجاح الرأسمالية وتقدمها كما حدث".
بعد انقضاء العام 1850، شهد تاريخ العالم فرض الدولة القومية الرأسمالية على شعوب العالم. وكي يتم حدوث ذلك، كان الحكام يحتاجون إلى إجراءات حراسة ومواقع احتياطية، وما كان يمكن لنصف الطبقات الحاكمة في العالم أن تحاول ذلك دون نظام استعماري يدعمهم، ورغم ذلك، وفي مواجهة مثل هذه التحديات، استمر النظام العالمي يتطور ويجد طرقًا أكثر تقدم له الدعم، وشهدت تلك الفترة نموًا عظيمًا في عدد المعاهدات التي تمت الموافقة عليها من جانب كل الدول أو معظمها على الأقل. وهذا ما يسلط جران الضوء عليه في الفصل الرابع "عصر العلاقات متعددة الأطراف: العالم بعد 1850".
ثم يأتي الفصل الخامس، آخر فصول الكتاب، بعنوان "تطبيق منهج صعود أهل النفوذ على
الولايات المتحدة في عصرنا الحالي"، ليتناول سؤالًا حول ما إذا كان منهج صعود أهل النفوذ له خط من المجادلة والحجج، وكمية من المصادر كافية لدعمه من أجل المنافسة في سباقه أمام سياق يقف فيه منهج صعود الغرب مترسخًا ومتينًا، متخذًا الولايات المتحدة الأميركية كمثال في العصر الحالي: "على عكس ما يتوقعه المرء، وفق منطق هيجل، تستطيع الطبقات الحاكمة في العالم الثالث أن تحقق أهدافها بنجاح في أميركا المعاصرة وأن تفعل ذلك على حساب الطبقات الوسطى والعاملة الغربية وحتى على حساب شرائح من الطبقة الحاكمة الأميركية نفسها. وهكذا فإن الطبقات الحاكمة للعالم الثالث ليست مجرد وسطاء أو وكلاء يتعاملون على المستوى المحلي مع المصالح الغربية في العالم كله ويتلقون الأوامر".
يؤكد جران على دور وقوة اللوبيات: "هل يمكن أن نفهم السلطة في الولايات المتحدة الأميركية اليوم ونتجاهل دور اللوبي الخارجي؟ من الواضح أن ذلك ممكن وفقًا لمنهج صعود الغرب. لكن لو تناولنا الموضوع من وجهة نظر صعود أهل النفوذ، فسوف تبدو العلاقة بين أعضاء اللوبيات الممثلين للمصالح الأجنبية والسياسيين المحليين جزءًا لا يتجزأ من التاريخ، يؤدي بالمرء إلى الاستنتاج المثير للاهتمام بأن عضو اللوبي الذي يعمل لحساب دولة أجنبية
يمكن أن يفرض تغييرات، بل ربما تغييرات كبرى، على الولايات المتحدة لصالح أحد العملاء".
وبشكل عام، فإن بيتر جران في كتابه يحاول إقناع القارئ بأن ضيق منهج صعود الغرب وطبيعته ذات المركزية الأوروبية تجعل منه نمطًا بحثيًا غير مرغوب فيه. باعتبار أن هذه الفرضية موجودة تقريبًا بشكل روتيني في الدراسات البحثية الحالية في حقل تاريخ العالم، ولا تحتاج للتوقف عندها: "آمل بالأحرى، أن أقنع القارئ بأن التغلب على هذه المشكلات يتطلب تغييرًا في الرواية الكبرى للتاريخ، أي التصوير من خلال رواية السلطة، وأن صعود أهل النفوذ منهج يستحق الاهتمام والاعتبار".

كلمات مفتاحية

السلطة السياسية أميركا العالم اللوبي الصهيوني