عروض

مدن لبنان من الماضي إلى الحاضر

خالد زيادة

9 أبريل 2019
عادة ما كان تناول المدن من اختصاص المؤرخين الذين أفردوا في مصنفاتهم الكلام الطويل عنها وكذلك الفقهاء الذين حددوا خصائص المدينة وما تحتويه من معالم ومؤسسات لازمة لاعتبارها مصرًا جامعًا، يضاف إلى ذلك المعجميون الذين كتبوا في معاجم البلدان، والرحالة الذين توقفوا في كل مدينة وذكروا محاسنها ومعالمها. وفي الزمن الحديث اهتم علماء الآثار بالتنقيب عن المدن القديمة التي كانت عامرة بالمعالم والصروح والأبراج. بل إن هذه الاكتشافات الأثرية أثارت اهتمام المؤرخين لما كانت تمثله من عظمة الماضي، وتحولت مع مرور الزمن إلى أطلال في مجرد بلدات فقيرة، بعد أن اندثرت معالمها تحت غبار العصور، من هنا كثرت في العصر الحديث الدراسات حول المدن الممالك، أو المدن التي كانت عواصم الحضارات السالفة، واحتلت المدن التي قامت وازدهرت في عصور الاسلام نصيبها من الدراسة مثل بغداد ودمشق والقاهرة وحلب والقيروان وفاس وغيرها، وانتقل الشغف من المؤرخين إلى الأدباء والشعراء الذين تغنّوا بالأمجاد السالفة.
لكن الدراسات التاريخية والآثارية إنما تخبرنا عن الماضي أكثر مما تخبرنا عن الحاضر، وإذا 
كانت بعض آثار الماضي لا تزال قائمة وظاهرة في بعض المدن، فإنها لم تعد تشكل سوى حيّز صغير بالمقارنة مع الاتساع الذي أحرزته كل واحدة من المدن في العقود الأخيرة، فهذا الاتساع امتد بالعمران وفق شروط وأسباب غير تلك التي كانت سببًا في ازدهارها في الماضي.

التحديث
تعرضت المدن العربية للتحديث منذ بدايات القرن التاسع عشر بفعل التأثير الأوروبي، وكانت الاسكندرية والقاهرة وبيروت من بين أول المدن التي عرفت التحديث، إلا أن هذا التحديث قد مرّ بمراحل ثلاث، المرحلة الأولى: وهي التي اندفع فيها الحكّام المصلحون أمثال السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا والخديوي اسماعيل إلى استلهام أنماط العمارة الأوروبية فضلاً عن إنشاء المؤسسات العسكرية والتربوية إضافة إلى إصلاح الإدارة والقضاء. وبفعل هذا التحديث تبدلت مصائر المدن التي انفتحت على التجارة العالمية وخصوصًا المدن المرفئية أو الشاطئية، وارتفع شأن بعضها وانخفض شأن بعضها الآخر. إلا أن المدن جميعها قد اشتركت في تلقي آثار التحديث ولو بدرجات متفاوتة.
وكانت المرحلة الثانية هي مرحلة الانتداب أو الوصاية أو الاستعمار الغربي حيث فرضت الادارات الأوروبية الفرنسية أو الانكليزية رؤيتها لهذه المدن. أما المرحلة الثالثة فكانت مرحلة الاستقلال والحكومات الوطنية التي سعت إلى النهوض، فانفتحت على الثقافة والفنون الحديثة وخطط التنمية التي نجحت قليلاً وتعثرت في أغلب الأحيان وكان نصيب المدن هو التضخم واستقبال الوافدين والنازحين من الأرياف.
ومن هنا فإن دراسة المدن لم تعد خاصة المؤرخين فقط، بل أصبحت موضوعًا من موضوعات علم الاجتماع خصوصًا بعد أن غيرت الحداثة من طابع المدن التقليدية المسورة فانفتحت المدن على الصناعة والتجارة بفضل الرأسمالية وازداد سكانها، وعرفت ظواهر جديدة منها الهجرة وتنوع الأحياء وتفاوت مستوياتها الاقتصادية، كما عرفت مدننا التأثيرات الغربية من اقتصادية وثقافية واجتماعية.

المدن الأقطاب في لبنان
الدكتور عبد الرؤوف سنّو مؤرخ معروف بأبحاثه ومؤلفاته الكثيرة التي تدور حول التاريخ السياسي الحديث والمعاصر، كما أنه معروف بدأبه واطلاعه الواسع على المصادر والمراجع والوثائق حين يتناول موضوعًا من الموضوعات، ويكفي أن أذكر في هذا المجال مؤلفه الضخم عن حرب لبنان. وكذلك كتابه الآخر عن العلاقات السعودية مع لبنان من بين مؤلفات كثيرة ودراسات غزيرة.
إلا أن الدكتور سنّو اختار أن يطل على المدن تاريخًا وحاضرًا، في كتاب جديد مميز هو "المدن الأقطاب في لبنان"، وهو كتاب غير مسبوق في تأليفه وإعداده ومنهجه وإخراجه.
فهذا الكتاب هو عمل مؤرخ متمرس رجع فيه إلى تاريخ كل مدينة والأطوار التي مرت بها بين الازدهار والانحطاط.
ولا شك في أن المدن اللبنانية التي تناولها عاشت تاريخًا مشتركًا وخصوصًا المدن الساحلية، إلا أن لكل مدينة خصوصيتها. وينتقل المؤلف من التاريخ القديم في مراحله وحقبه إلى التاريخ الحديث حيث يتقدم العرض الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أي استعراض خصوصية كل مدينة بما تتميز به في المجالات المذكورة.
في بيروت، وبعد استعراض تاريخها في الحقب التاريخية القديمة نصل إلى مشارف العصر الحديث الذي نقل هذه المدينة من بلدة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف عام 1800 إلى مدينة تجاوز قاطنيها والوافدين إليها المئة ألف عام 1900، ففي غضون قرن من الزمن تحولت إلى المرفأ الأبرز على الساحل الشرقي للمتوسط وصلة الوصل بين أوروبا والداخل 
السوري والعربي.
وأصبحت إلى جانب الإسكندرية من أكثر المدن تأثرًا بأنماط الثقافة والعادات الأوروبية. وبسبب نمو بيروت وازدهارها أعلنت عاصمة ولاية ساحلية عام 1888، تمتد من اللاذقية حتى نابلس. ويولي الدكتور سنّو لتطور التعليم في بيروت حيّزًا واسعًا، وهو محق في ذلك فالدور العلمي والتربوي الذي لعبته بيروت تجاوز محيطها الضيّق ليصل مداه إلى بلدان الاغتراب، ونذكر هنا دور اللبنانيين في نهضة الصحافة والثقافة في مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وبالرغم من الطابع المختصر، فإن الاختصار لا يلغي كثافة المادة فلا يترك المؤلف تفصيلًا حول المدارس والمعاهد والجامعات إلا ويذكره. ومن ذلك الفقرة القصيرة التي تختصر مرحلة هامة من تاريخ بيروت ودورها، يقول في الصفحة (51): "وقد شكلت هذه النهضة البيروتية الخلفية الطبيعية اللازمة لظهور الجمعيات والأحزاب السياسية. فقد تأسست جمعية بيروت السريّة التي نادت بالاستقلال عن العثمانيين. وبعد إعادة العمل بالدستور العثماني عام 1908، تأسس المزيد من الأحزاب، منها "جمعية النهضة اللبنانية" العام 1909، و "جمعية الاصلاح لولاية بيروت"، مطلع العام 1913، التي تكونت مناصفة من المسلمين والمسيحيين، وتمثل اليهود بشخص واحد، فطالبت باللامركزية، وتعزيز اللغة العربية وحق رسوم الولاية برسوم البلدية والعقارات والعشور الخ". ويفرد للصحافة والمسرح والاقتصاد صفحات مكثفة.
وواقع الأمر أن تطور بيروت هو حالة فريدة في محيطها. وعن العوامل التي ساهمت في هذا التطور يذكر الميناء المحمي والبرجوازية النشطة، ويذكر من بين مظاهر هذا التطور شق الطريق البري للعربات بين بيروت ودمشق عام 1863، وافتتاح سكة حديد بيروت- دمشق عام 1895، ووصول خدمة البرق إلى بيروت ومناطق لبنانية عام 1861، والبريد عام 1869، ونور الغاز عام 1886 والكهرباء عام 1908، وشركة جر المياه عام 1875 والمنارة عام 1820، وانشاء خط التراموي عام 1898 وافتتاح الشركات الأجنبية فروعًا لها إضافة إلى الخدمات الصحية والمستشفيات ولم ينته القرن التاسع عشر إلا وأصبحت بيروت عاصمة حديثة متكاملة الخدمات.
يفرد الدكتور سنّو لمدينة بيروت الحيّز الأكبر من الكتاب، خصوصًا أن هذه المدينة أصبحت عاصمة لبنان عام 1920، بل أصبحت عاصمة الثقافة والنشر والاقتصاد الأبرز في المنطقة. ولا يمكن لي أن استعرض في هذه الكلمة كل ما ذكره من ملامح بيروت العمرانية والثقافية وأحداثها السياسية، كما أنه يفرد للوقائع من عام 1975 من اقتتال وحروب وهو الذي أرخ لحرب لبنان. وأورد هنا واحدة من الخلاصات التي يذكرها الدكتور سنّو بشأن بيروت، يقول: "يُعزى تبوؤ بيروت مركزها الثقافي المميز والرفيع، إلى تعدديتها الثقافية التي أكثرت من المبدعين والموهوبين، نتيجة تعدد الروافد الحضارية التي تدفقت فيها: المسيحية والإسلام، والثقافتان العربية والغربية، والشرق أوسطية والاشتراكية والليبرالية". كذلك كانت بيروت مرفأ لبنان وجبله وعاصمة ولاية بيروت وجمهورية لبنان. كانت بيروت موطنًا للإلهام ومحصلة لثقافات شرق أوسطية وعربية وغربية.
وتمتاز طرابلس التي يتحدث عنها الدكتور سنّو بمحطات تاريخية بارزة، فعدا عن تاريخها الفينيقي القديم، فقد عرفت طرابلس أوج الازدهار في فترة حكم بني عمار في القرن الحادي عشر ميلادي قبل الغزو الصليبي، كما عرفت فترة ازدهار في الفترة المملوكية فقد بُنيت طرابلس الداخلية البعيدة عن البحر في تلك الفترة. ويستعرض المؤلف حرفها وصناعتها التراثية والحديثة، وحياتها السياسية بعد الحرب العالمية الأولى وإعلان دولة لبنان الكبير وحياتها الثقافية والفنية وصولاً إلى الحاضر. ويظهر لي من خلال قراءة كتاب "المدن الأقطاب" أن كل واحدة من هذه المدن كانت تسعى وتعمل على بلورة شخصيتها ودورها في الوقت الذي كانت فيه بيروت تستقطب النشاطات الأكثر تقدمًا، ولا شك بأن واحدة من هذه المدن لم تستطع أن تنافس بيروت وخصوصًا في مجالات الثقافة والفنون، فأولئك الذين يريدون أن يبرزوا كان عليهم أن يرتحلوا إلى العاصمة التي تستقطب الصحافة ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة، وقد سعى المؤلف إلى بلورة شخصية كل مدينة وإبراز ما تمتاز به.
ويقول المؤلف في الخاتمة: "حافظت بيروت كمركز لدراسة الفن التشكيلي والمسرحي وإقامة المعارض، على جاذبيتها للمهتمين بالالتحاق بجامعاتها وكلياتها الفنية. وقد انطلق الكثير من الفنانين في المدن الأقطاب إلى النجومية من مسارحها ومعارضها"، ص 364.

وصل الماضي بالحاضر
كتاب "المدن الأقطاب في لبنان" هو نتاج لمؤرخ وباحث متمرس. اتبع فيه منهجًا تربويًا إذا جاز التعبير، فقد قدم مادة كبيرة بأسلوب سلس، إلا أن هذا المنهج عمد إلى وصل الماضي بالحاضر، بل يمكن القول بأن ما كتبه هو نوع من أنواع التاريخ الراهن، ذلك أن الوقائع التي يذكرها تصل إلى زمن كتابته لنصه.
في كتابه هذا يقدم لنا المؤرخ الدكتور عبد الرؤوف سنّو عملاً أكاديميًا ننتظره منذ زمن بعيد. بل إننا نتساءل لماذا تأخر إعداد هذا العمل الضخم الذي يقدّم لنا بيروت 
وطرابلس وزحلة وصيدا في كتاب واحد يجمع بين التاريخ والحاضر، وبين الماضي والحديث.
وبالرغم من أن الكتاب هو عمل باحث مدقق مشهود له بالأناة في اعتماد الوثائق والمصادر والمراجع، إلا أنه أراد في هذا العمل أن يقدم عملاً يستطيع أن يقرأه العالم والقارىء غير المتخصص، بل يمكن أن يقرأه الطلاب من المرحلة المتوسطة فيتعرفون إلى مدن لبنان الرئيسية. وعلى عكس كتبه الأخرى، التي تتناول التاريخ السياسي والتاريخ الحديث، فإن هذا الكتاب مرجع لا يُضاهى في تناول الفترة الحديثة منذ بدايات القرن العشرين، بعد استعراض المراحل التاريخية المغرقة في القدم التي مرّت بها هذه المدن الأربع، معرفًا التاريخ السياسي والتاريخ الاجتماعي بالإضافة إلى التاريخ الثقافي. بل إن كل فصل من الفصول أو الأقسام الذي تناول فيه احدى المدن هو بمثابة سجل لكل ما ميّز المدينة في التربية والفنون والآداب والآثار، وسجل لأحداثها البارزة على مر العصور وخصوصًا في المرحلة المعاصرة.
والمدهش في الكتاب هو الجهد الذي بذله المؤلف الذي لم يبحث عن المادة المكتوبة فقط بل لجأ إلى المادة المصورة فعزز كتابه بمئات الصور العائدة لشخصيات ومبان وأحداث تاريخية ومعالم وغلافات صحف ولوحات فنية ومشاهد من أعمال مسرحية وسينمائية.
كل ذلك جعل من الكتاب عملاً متكاملاً غنيًا، لا بدّ لكل ابن من أبناء هذه المدن، بل لكل اللبنانيين من الإطلاع عليه، فهو يزيد معرفتنا، بما كنا نظن أننا نعرفه.

كلمات مفتاحية

أدب لبناني الماضي والحاضر المدن الكبرى المدينة العربية المدينة القديمة