عروض

"جغرافية المخيّلة": تجلّيات المكان في شعر سيف الرحبي

ليندا نصار

20 مايو 2019
لا يُخفى ما للمكان من دور في حفظ ذكريات الإنسان، فهو الشاهد على أحداث الحياة منذ مرحلة الطفولة، وهو الذي يشكل أساساً في حماية الأنا. لقد طبع المكان الكثير من رؤى الشعراء وكان لأبعاده الفلسفية العميقة الأثر الأكبر في كتاباتهم. وبوساطة المخيلة انتقل معناه من المحسوس إلى اللامحسوس أو العالم الميتافيزيقي فاتخذ التحليل منحى أبعد من النصوص.
هناك عدة فلاسفة تطرقوا إلى رمزية المكان، منهم هايدغر الذي يعتبر أن المكان هو العالم المخصص للتفكير حيث يتفاعل الإنسان معه؛ إنه الوجود الأساسي للعالم. وغاستون باشلار انطلق في كتابه "جماليات المكان" من بيت الطفولة والألفة فتحدث عن رمزيته وسماته.
بين أيدينا بحث بعنوان "جغرافية المخيّلة، تجلّيات المكان في شعر سيف الرحبي"، وهو كتاب جديد لفاطمة الشيدي صدر عن دار الانتشار العربي، 2019. وتخصص فيه الكاتبة مساحات واسعة لقراءة النصوص الشعرية للشاعر العُماني سيف الرحبي الذي لطالما كان لطبيعة عُمان الأثر الكبير في كتاباته وقد ظهر ذلك جليّاً عنده.
قسّمت الكاتبة بحثها إلى ثلاثة فصول متسلسلة ومتتابعة متناولة في الفصل الأول منه المكان الفيزيقي والميتافيزيقي، وفي الفصل الثاني عالجت ملامح المكان وعناصره، أمّا في الفصل الثالث فقد تطرّقت إلى الملامح الفنية للبعد المكاني في شعر الرحبي. وجاء كل ذلك ضمن دراسة رصينة موثّقة بالمصادر والمراجع الثرية التي كان لها الأثر الكبير في دعم التحليل.
يشكل عنوان الكتاب عتبة القراءة التي تختصر الموضوع المطروح. وتفتتح الكاتبة بحثها بمقولة لغاستون باشلار من كتابه "جماليّات المكان" وتنتقل بعدها إلى الإهداء ثم إلى مقاربة عامّة تفيد القارئ في الاطّلاع على هذا العمل.

المكان هويّة النّص
تقارب فاطمة الشيدي في هذا الكتاب المخيّلة الإبداعية والذاكرة المقترنة بالمكان وأثره في شعرية الرحبي فتعالج سيرة الشاعر حيث يشكل الزمان نقطة الانطلاق في كل مرحلة عمرية

من حياته. فمن طبيعة عُمان وطفولته في سمائل وحتى انتقاله إلى المدينة مسقط تتشكل قصائد الرحبي مستقية المادة الخام من هذه الطبيعة التي رافقته أينما حلّ. وتعتبر الكاتبة أنّ المكان هو هويّة النّص واستحضاره عن طريق استنطاق الذاكرة يأتي في حالتين: الأولى واعية والثانية لاواعية، وفي كلتا الحالتين تخرج القصائد وتتشكل من عالم فيزيقي واقعي يمهّد لعالم ميتافيزيقي. إنه عالم غنيّ خاص يؤسّسه الرحبي من مخيّلته الغنيّة. وهذا المكان يؤثر في الإنسان من الداخل والخارج ولذلك تختلف التجربة والشعرية بحسب الشاعر وانتباهه وقدرته على مراقبة أدق تفاصيل الكون.
وبينما يستحضر الشاعر مرحلة عمرية تحضر معها اللّغة والمفردات وذلك من مخزون الذاكرة. فيعيد تشكيلها وفق ما يتناسب مع القصيدة. كما أنّ الشاعر بارع في تصوّر مكان يستدعي فيه رؤاه ليضيف إليه عناصره الجماليّة.
تبحث فاطمة الشيدي أيضاً في امتداد النص الشعري لدى الرحبي من خلال تقدّم التجربة والزمان ولا عجب في أن تصل الكاتبة إلى هذه النتائج في التحليل بعد قراءة نصوص الرحبي الشعرية خصوصاً "شجرة الفرصاد" سيرة الطفولة حيث الخطوة الأولى والدهشة الأولى في طبيعة عُمان.
في الكتاب إضاءة على أسلوب سيف الرحبي الذي يحفر في أعماق الجبال العُمانية فتبهره طبيعتها الجيولوجية وينحتها ليخرج منها بقصائد ملوّنة بلون الأشجار والسماء والجبال والصحراء... وهذا ما ستتطرّق إليه الكاتبة لاحقاً في معالجة القصيدة وتراسل الحواس لتدعى القصيدة بصرية أو سمعية أو حركيّة فيما بعد...
في الفصل الثاني تعالج الشيدي تأثير الصحراء ومدلولها الجغرافي في شعر الرحبي الذي عاين الغربة واستنبط أفكاره مستحضراً الذاكرة ليبثّها في قصيدة مشحونة بالحنين مشرّعة الأبواب على الزمان والمكان. وقد قامت الشيدي بقراءة إحصائية للثيمات التي تؤكّد الحقول المعجمية المطروحة للطبيعة في النصوص الشعرية المدروسة.
وتتابع الكاتبة مراقبة وتحليل حضور الجبال والغابات والصحراء ما جعل من قصيدة الرحبي

تستنطق الطبيعة الأولى فجاء البحث بمثابة دراسة سيكولوجية نفسية على ضوء المكان أي الطبيعة التي غاب عنها الشاعر إثر انتقاله إلى المدينة.
تحلل الناقدة أعماق النص من المضمون إلى الأسلوب إلى اللغة والمفردات، وتبرز قدرة الشاعر على تجسيد الحقيقي والمتخيل في إطار لغوي سلس ومن القصيدة ينشئ الشاعر عالماً بقسوته وجماله وجفافه ولينه... وهنا تضيء الكاتبة على الصور المتناقضة التي تتحدّ لتشكل قصيدة الرحبي فتأتي من القسوة والحنان ومن عدّة ثنائيات ضدية أخرى.
كذلك يستحضر الرحبي من الطبيعة الغابة وعناصرها فيعبر عن وحشيتها التي تشبه المدينة فتتشكل الصور بغرائبها من المخيلة ونعود إلى هذا التلاقي والاتحاد بين العالمين: الفيزيقي والميتافيزيقي.
وتعود فاطمة لتحدثنا عن طفولة سيف التي وجهت تجربته الإبداعية، فمن عالم الطفولة – الطبيعة إلى مرحلة أخرى، إلى المدينة العالم الجديد الذي يفرض نفسه على الإنسان حيث تحضر تجربة السفر والاغتراب وتشظي الأنا. وهذه المدينة تحمل معنيين متناقضين فهي تتراوح بين القسوة والجمال، وتقوم الكاتبة بقراءة إحصائية لثيمات المكان وتستطيع من خلال الأرقام إيضاح دلالات التكرار والأماكن.

البُعد المكانيّ
في الفصل الثالث تبحث الكاتبة في الملامح الفنية للبعد المكانيّ في شعر الرحبي، ومن خلال هذه الأبعاد تتبدّى الانحرافات الدلالية والمعاني الكثيرة.
تأخذ الصورة لدى الشاعر بعدين: داخلي وخارجي، فمن الشعور والذات أي الداخل إلى الخارج يأتي هذا التداخل الذي يحملنا على التفكير في اتجاهات كثيرة وكأننا أمام لوحة مليئة بالألوان، وكأن الشيدي تدخل إلى أعماق قصائد الرحبي أكثر فأكثر لتكشف عن قصيدة بصرية سمعية حركية صادرة عن مناطق الوعي واللاوعي حيث الصحراء أو الغابة أو الجبل هي الخلفية التي تحتمل كل هذه الألوان وهذه الحركة، وتضمّن الكاتبة بحثها ترسيمات وجداول إحصائيّة ليجد القارئ نفسه أمام بحث رصين يعيد النظر في التجربة الشعرية لسيف الرحبي.
أخيراً يعدّ كتاب فاطمة الشيدي من الدراسات الرصينة التي ألقت الضوء وكشفت وحللت قصائد الشاعر سيف الرحبي بكل ما فيها من عمق وتجدد، وهي دراسة الذاكرة التي احتوت اتحاد الشعر بالمكان معبّرة عن شاعر وضع حجر أساس القصيدة في طفولته لينطلق بها من عالمه الخاصّ إلى عالم واسع تشكلت فيه تجربته وعاين فيه أموراً كثيرة.

كلمات مفتاحية

شعر عربي حديث الأدب العماني تحليل النصوص سيف الرحبي