عروض

قصائد نيتشه الكاملة: ما هو شعريّ أوَّلاً

نجيب مبارك

21 يوليه 2019
إلى جانب أعماله الفلسفية المُلهمة والمؤثّرة إلى اليوم، ترك لنا الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عدداً هامّاً من القصائد والأشعار، تُرجمت مرّات عدّة إلى أكثر من لغة. لكن السؤال الذي يُطرح دائماً بخصوص ترجمة قصائد نيتشه هو: هل يجب أن تكون هذه الترجمة "شعريّةً قدر الإمكان"، أي "أكثر اتّساقاً مع كلّ قصيدة، وخالية من كلّ غائيّة فلسفية"؟ وهل، بهذه الطريقة وحدها، يمكن أن تكشف نصوص نيتشه الشعرية "عن أبعادها الفلسفية الكاملة"؟ الجواب عن هذا السؤال جاء في سياق المقدمة التي كتبها جيوم ميتايي، بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية الجديدة، المزدوجة اللغة، من "القصائد الكاملة" لنيتشه (ليبيل ليتر، 2019). فبحسب ميتايي، لا بدّ "أن نحاول، في البداية، أن ننزع الطابع الفلسفي عن هذه القصائد، بالطريقة نفسها التي أراد نيتشه نفسه أن ينزع عنها الطابع الجرماني"، وذلك من أجل إبراز "شعريّتها"، أي ذلك "الشّعر الخاصّ بالقصيدة، الذي لم تتوقّف هي عن إشاعته".

مزيج بين الشعر والفلسفة
في رسالة مؤرّخة يوم 8 أيار/ مايو 1882، أعلن نيتشه لناشره إرنست شميتزنر عن وشك إرساله لمخطوطة كان قد أكملها للتوّ. ثمّ أضاف، وهو يشدّد بثلاث نقاط تعجب على التأثير المحتمل للمفاجأة (أو للفظاظة)، بأنه أدخل على النص "الكثير من الأهاجي الشعرية!!!". إن هذه النصوص في الواقع كانت بمثابة توطئة لكتاب "العِلم المرِح": ثلاثة وستون قصيدة، مؤلفة في شكل الدوبيت والرباعيات والأوكتاف- جُمعت بعنوان "دعابات، حيلة وانتقام"، وتحتها عنوان فرعي: "استهلال بقوافٍ ألمانية". يقول في أحد المقاطع: "لا تنتفخ إلى درجة التورّم/ وإلّا سوف تنفجر بأقلّ وخزة" (21؛ ضد الغرور). وفي آخر: "عداوة ثابتة أفضل/ من صداقةِ خلافٍ وينتهي" (14؛ الشجاع).  وفي مقطع ثالث أكثر "نيتشوية": "كلُّ سعادة الأرض،/أيّها الأصحاب، تأتي من الحرب!/ نعم، فلكي نصير أصدقاء/ لا بدّ من دخان

البارود!/ ثلاثة أسباب تجعلنا أصدقاء: إخوةٌ أمام ضربات القدر/ سواسيةٌ أمام العدوّ/ وأحرارٌ- أمام الموت" (41؛ هيراقليطية). في الطبعة الثانية من "العلم المرح"، عام 1887، أضاف إلى الكتاب "أغاني الأمير الحرّ كالطائر"، التي تستعيد "قصائد ميسِّينا الرعوية"، المنشورة في إحدى المجلات عام 1882. لم يكن من قبيل الصدفة أن يحذر نيتشه ناشره: في الواقع، إنّها المرّة الأولى التي يقترح فيها تطعيم كتاب بمزيج من الشعر والفلسفة، والذي سيكون نوعاً من "شيفرة" خاصة بنيتشه، ستطبع كلّ أعماله بنبرتها المميّزة والمعبّرة عن تفكيره الفريد، ومنها سوف تبزغ، بعد سنوات قليلة، "شمس" كتابه الأشهر "هكذا تكلم زرادشت"، باعتباره قصيدة فلسفية "للجميع ولا لأحد".

بعيداً عن النثر العقلاني
عندما نُشِر كتاب "العلم المرح"، كان نيتشه يبلغ 38 عاماً. وقد صادف ذلك حدثاً هامّاً قلب حياته العاطفية رأساً على عقب: لقاؤه بأندرياس سالومي، التي جسَّدت في نظره نوعاً من المثالية الإنسانية والفلسفية، لكنها أيضاً فتنته بجمالها الباهر. مع هذه المرأة، رفقة الشاعر بول ري، أراد نيتشه تشكيل جماعة من "الأرواح الحرّة"، وهو ما انطوى على مخاطرة كبيرة، لأنّه استحضرَ الكثير من العوامل الفكرية والعاطفية الغامضة، ما أدّى إلى فشل التجربة، وإلى سقوط الفيلسوف في حالة من اليأس الشديد.  في هذه الفترة، كان نيتشه قد نشر "إنسان مُفرط في إنسانيته"، "ميلاد التراجيديا"، وهو كتاب لم يرحّب به المختصّون الأكاديميون في دراسات اللغة. ومنذ عام 1869، قام نيتشه بتدريس "فلسفة اللغة" الكلاسيكية في مدينة بازل (حيث أنّه فقد جنسيته الألمانية بعد رحيله إلى سويسرا). وفي عام 1879، وكان بلغ الخامسة والثلاثين، حصل على "تقاعده" من الجامعة. لقد أجبرته أحواله الصحية الهشّة على الطواف بكلّ أرجاء أوروبا بحثاً عن مناخ قد يناسبه ويخفّف من صداعه العنيف: سيلز ماريا، سانت مورتيز، ثمّ إيطاليا، جنوة، نابولي، البندقية، ميسّينا، وجنوب فرنسا، في مدينة نيس على الخصوص.
بين عامي 1872 و1882، تخلّى نيتشه عن كتابة الشعر "بالأوزان المعتادة". في الحقيقة، هذا الأمر لا يكاد يظهر بشكل ملحوظ، لأنّ الجميع يتّفق على أن "شعر" نيتشه موجود في كثير من "القصائد" التي ترصّع أعماله الفلسفية، مثل "الفجر"، "ما وراء الخير والشر"، "هذا هو الإنسان"، و"هكذا تكلم زرادشت"، الذي سيضمّ جزءاً من قصائد ديوانه الأخير "ديثيرامبيات ديونيسوس".  لكن، في الواقع، هذا لا يخفي حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن نيتشه - منذ طفولته حتى الفترة التي كرسها لبحوثه اللغوية والفلسفية - لم يتوقف يوماً عن كتابة القصائد، التي يمكن قياس مدى قوّتها الشعرية، كما هي حال الشذرات مثلاً، حتّى قبل أن توضع في خدمة الفلسفة أو الفكر الذي سعى لأن يكون في مكان آخر، بعيداً عن "النثر العقلاني البحت والتقليدي للأطروحة أو المقالة".


قدِّم نفسك أولاً، يا زرادشت
تعود أوّل قصيدة معروفة لنيتشه إلى يوم 12 تموز/يوليو 1854. كان عمره آنذاك 10 أعوام. أحضر إلى عمّته "فرعين من شجرة الكرز"، ومعهما ورقة صغيرة: "العمَّة ريكشن،

في هذا اليوم/ يوم عيد الميلاد، أقول لك: صباح الخير!/ وأنت تأكلين الكرز/ سوف تنسين ما تُمزّقين/ لكن، اتركي لي حبّك،/ أرجوك، إلى الأبد". وفي المقلب الآخر، نجد "ديثيرامبيات ديونيسوس"، وهي النصوص الشعرية الأخيرة التي أرسلها الفيلسوف إلى المطبعة. أغلب هذه النصوص كُتبت أثناء تأليف كتاب "هكذا تكلّم زرادشت"، لكنه أعاد صياغتها وأدخل عليها بعض التعديلات، أسابيعَ قليلة قبل أن ينهار ويدخل مرحلة الجنون، في تورينو، يوم 3 كانون الثاني/ يناير 1889. جاء في خاتمة هذه القصائد: "يجب أن تصير أكثر فقراً/ حكيماً بلا حكمة!/ إذا أردتَ أن تكون محبوباً./  نحن لا نحبُّ سوى أولئك الّذين يعانون/ لا نمنح الحبّ سوى للجياع:/  قدِّم نفسك أوّلاً، يا زرادشت/ أنا حقيقتك...".
إنّ عدد القصائد التي أنتجها نيتشه خلال حياته القصيرة كبير جداً، والمادة التي حصرها ميتايي غنيّة وتحرّض على القراءة فعلاً (باستثناء قصائد قليلة مكتوبة باللغات القديمة أو بعض المقاطع المسرحية بأسلوب شعري)، سواء في لغتها الأصلية أو في ترجمتها الفرنسية الجديدة، وهي تمثّل بهذا المعنى مشروعاً لا مثيل له في أيّ لغة أخرى (بالرغم من وجود بعض المجلّدات تدّعي أنها تضمّ "الأشعار الكاملة" لنيتشه، والتي كشف ميتايي عن عيوبها الكثيرة وانتفاء صفة "الكاملة" عنها). ربما الجزء الأجمل من هذه الأشعار هو "قصائد الشباب" (1854-1870)، التي يدهشنا فيها أحياناً حضور أصداء من الشعر الرومانسي الألماني، وأحياناً أخرى التبشير بأشكال معيّنة من الرمزية وهرمسية القرن العشرين، تنسجم بشكل واضح مع ما قدّمه المترجم من "منجمِ نصوصٍ غير معروفة في كثير من الأحيان، أو نصوصٍ مُهمَلة من طرف الشرّاح". وهنا قد يتساءل المرء عن كيف قرأ هؤلاء هذه النصوص ما داموا يجهلون حقيقة ما إذا كان نيتشه قد كتبها فعلاً.

قصائد الشباب "الحكيمة"
إن الصورة الشائعة عن مؤلِّف "عدوّ المسيح"، الفيلسوف الذي أعلن موت الإله، تظهر جيداً في عدد من المقاطع أو "الغضبات البطولية"، تلك التي تصل إلى حدّ التجديف أمام الصليب، مثلاً: "كتلة صخر في الأعالي، أيّها المهرّج السخيف،/ انزل!/ ماذا تريد إذن، لماذا تحدّق/ في هذه المعجزات الجديدة؟/ لقد انتهت صلاحيتك الآن/ ذراعك صلبة، ورأسك مُرهَق..."

(1863). لكن، في المقابل، كم هي غريبة هذه الأبيات، الطافحة بالتقوى والحماس الديني، التي سبق أن كتبها في كانون الثاني/ يناير- أيلول/ سبتمبر 1858: "استيقظتُ اليوم بفرح شديد/ يغمرني الامتنان، رفعتُ عيني إلى الأعلى/ لكي أشكر الله وأحمده بصوت مبتهج/ على هذا اليوم الغنيّ جداً بحضور السماوات"، "المجد للرب، بفضل الرب/ يصدح عيد الفصح بقوّة/ بين المقابر المظلمة/ حيث كلّ حقلٍ وكلّ أجمة/ وكلّ جبل وكلّ غابة/ تهلّل بالغناء لانبعاث المنقذ".  وفي تشرين الأول/ أكتوبر – آذار/ مارس 1861، يكتب: "يا ربي، لا تدع الموت/ يأخذني في خطاياي العظمى!/ دعني أغتنم العفو مرّة أخرى/ وأحصل على السعادة!" أما في نيسان/أبريل- تشرين الأول/أكتوبر 1862، فنقرأ: "لقد دعوتني:/ وأنا أسارع إليك، يا ربي/ وسأبقى/ بجوار عرشك، وعلى أدراجه/ أشتعل حبّاً/ أمام عينيك الدافئتين/ ومتألّماً/ أشيّع قلبي، يا رب، وأذهب".
وعموماً، إذا تأمّلنا شعرَ نيتشه، الذي نحَتَ فلسفته بضربات المطرقة، سوف تبدو قصائد الشباب أكثر "حكمة"، لأنها فتحت المجال لانصهار الأنا بعد أن غمرتها العاطفة، وفرحة الاكتشاف، أو الحزن. يقول: "واحمل بُرعمَ هذه الوردة/ وضَعْهَا على قبر والدي"، وكأنه يحتفل مسبقاً بـ"العود الأبدي". بينما تحضر في قصائد المناسبات (أعياد الميلاد، الحفلات، تعاقب الفصول...) الكثير من الشخصيات التاريخية والأسطورية (أخيل، فرساوس، أندروميدا، أريادن، جاسون وميديا، سيد، سيغفريد، كريستوفر كولومبوس...)، وهي تتحدّث بغبطة عن المعارك والصراعات (من حرب طروادة إلى حروب نابليون)، وتترجم فلسفة عن الطبيعة في غاية الرومانسية ("كتاب لمجد الرب")، عن طريق تصوير حركتها بحيوية بالغة (الحيوانات في كلّ مكان، والطيور على وجه الخصوص)، وجمودها المثير للإعجاب (القفار، المروج، وخصوصاً الجبال)، أو يصوّر قوّتها المرعبة، وعواصفها وحرائقها، وما إلى ذلك من كوارث قد تؤدّي إلى "نهاية العالم".
في الأخير، تبقى هذه الطبعة الجديدة من "القصائد الكاملة لنيتشه" ذات فائدة عظمى، لأنّها تقتفي بدقّة تطوّر حساسية نيتشه الشعرية وفكره الفلسفي على مدى سنوات. لكن السؤال الأساس الذي ما زال يطرح إلى اليوم هو: ما هي مكانة وقيمة الشعر في أعمال نيتشه الفلسفية؟ الواقع أنّ هذا الفيلسوف المشاكس، بعد أن كتب العديد من الأشعار في شبابه، أراد بشكلٍ ما أن يُدخِل الشعر أو يضمّنه أعمالَه الفلسفية، وأن يجعل من كتابه "زرادشت" قصيدة مطوّلة. لكن، لا يجب أن نغفل أن نيتشه، في كثير من المرات، استعمل في كتاباته عبارة "الشعراء والفلاسفة" في سياق واحد، لكنه أيضاً قام باستبعاد كليهما في سياق آخر، حسب رأي ميتايي. لقد كتب في ديوانه "ديثيرامبيات ديونيسوس": "الفيلسوف مجرّد شاعر"، وفي موضع آخر نقرأ: "الشاعر مجرّد مهرّج". لهذا، هل يمكن تصوّر وجود شعر فلسفي خالص أو فلسفة شعرية خالصة؟ يكمن الجواب في ثنايا قصائد نيتشه، هو الذي لا ينضب ولا يتعب أبداً حتى وهو يسخر من القارئ: "حاوِل إذن أن "تأخذني"، أن تفسِّرني مرّةً وإلى الأبد!".

كلمات مفتاحية

أدب حديث الفلسفة