"تاريخ العيون المطفأة": رواية مفتوحة على السراب والمجهول
جمال شحيّد
25 يوليه 2019"تاريخ العيون المطفأة": رواية مفتوحة على السراب والمجهول
جمال شحيّد
25 يوليه 2019التحقيق الأمنيّ
الغريب في الرواية أننا ندرك علاقات القربى من خلال التحقيق الأمني الذي تعرّض له مولود: أماني هي بنت عمّته وبنت المحامي شعيب محمد، آسيا دوكان هي بنت الكولونيل رائد دوكان، سدير الركني هو رئيس جمعية حقوق الإنسان ومعارض للدولة بالتالي. وقال المحقق لمولود: "أريد منك تقريراً خطياً أسبوعياً مفصلاً. هل تفهم؟ مساء كل أحد اترك لي التقرير في مغلف مغلق في مكتب الدخول إلى المركز" (120). واقتاده إلى المركز رقم 111. وقال له المحقق: "سلم لي على زوج عمتك المحامي المعارض الذي لم تعرف كمبا كيف تربيه. ولكن بر شمس ستربيه بإذن الله إذا لم يلملم ذيله ويجلس عليه" (121). ويتلقى أمراً صريحاً بالتعاون معهم. ولكنه لم يراجعهم، فاستدعي هذه المرة إلى مركز وادي الرمّ. فاشتبك مع محققة راحت كفّاها تصفعه، فشتم ربها وحاول أن يلوي ذراعها، "لكن حذاءها رفسه على خصيتيه فوقع مغشياً عليه" (125). وبعد الظهر فُكّ قيده وخرج محني الظهر ينهشه الجوع والذل والخوف. وقرر أن يغادر بر شمس؛ متذكراً ما قاله له المحقق: "ما دمت لا تتعاون معنا، فأنت ضدنا. لا مكان للفرجة يا مولود. معنا أم ضدنا. ونحن لا نترك من هو ضدنا يسرح ويمرح على هواه، معنا أو ترحل. لا أظن أنك تريد الاحتمال الثالث" (127)؛ والمعنى المبطن واضح. وأثناء السفر بالطائرة قال في سرّه: كمبا هي الماضي، وبر شمس
هي الحاضر، ومستقبله مرتبط بقمورين.
ويحلّق نبيل سليمان في وصف قمورين: "كانت قمورين مثل صبية خارجة من الحمّام، شعرها سارح على ظهرها ويقطر ماء محلّى. قميصها المبلل التحم بجسدها ففصّله تفصيلاً. ولأن القميص وردي، أضاء الجسد بلون الورد الشفيف، وفاح بعطره" (131). وتُزيره مليكة حديقةَ دارهم بأزهارها وبالأشعار المرتبطة بكل زهرة من أزاهيرها. ومنها ما كانت أم مليكة المسيحية ستردده يوم عرس ابنتها:
"فتّح لكِ العايقْ لما مشيتِ بالبستانْ
فتّح لك العايق كله أشكال وألوانْ
وما أحلاه عنقٍ لك ما أحلاه هالنديانْ
أنت القمر بالسما يا جنّة الرضوانْ" (133).
وفي قمورين يتعرف على والد مليكة، أو أبي وعد وعهد، اللذين سلكا دربين متناقضين. وهو نجم الدين الصفدي الذي طوى سنته التاسعة والسبعين. فرّ وعد إلى الصحراء ليحارب دولة قمورين الكافرة، وليعلي فيها راية الإسلام. وأدار ظهره لأبيه وأخته وآثر الابتعاد عن عائلته. ويروي أبو وعد لمولود بعضاً من ذكريات شبابه ومن هيامه بفتاة مسيحية أصبحت أم وعد. وخلال أربعين سنة كان كل يوم يصبّحها بأغنية "فترد الصباح بأغنية لي وبأغاني بالجملة للورود والزهور التي تردّ التحية بنفحة عطر بعد نفحة" (139). ويروي بخاصة رحلته إلى اليمن بحثاً عن أصول عائلته، وعن تفشي شح البصر بين سكان قريته.
وتعيدنا الرواية من ثم إلى أجواء العاصفة التي ضربت بر شمس وإلى قدوم شخصين إلى وادي الرم يقول أحدهما لحميدة: "الأستاذ شعيب بين يدي ربّه" (147) وأنه قضى بسرطان في الكبد وأنه دُفن في المدافن الرسمية، وأنهم لا يريدون شوشرة، فلا مجلس عزاء في البيت ولا ثياب سوداء. فقالت حميدة زوجة القتيل: "بلغ رئيسك: أريد جثمان زوجي لأدفنه كما يليق به. بلّغ رئيسك أني سأفتح العزاء ثلاثة أيام للرجال في جامع القلعة وللنساء هنا في البيت"
(148). وتكتشف أماني ابنة الشهيد التي راجعت السجل المدني أن أباها قضى نحبه في اليوم الأخير من السنة الماضية. ورفضت إدارة السجل إعطاءها أية شهادة عن واقعة الوفاة. وأمام هذه الوقائع دوّى صوت أماني: "الدنيا اسودّت بعيوني يا ناس. أنا عميت يا الله" (153).
وتصف لنا الرواية وقائع المظاهرات الطلابية أمام وزارة الداخلية والتي سقط فيها تسعة عشر قتيلاً، بينهم امرأة هي مرتا، بنت خال مليكة. وتقتاد هذه الأخيرة إلى مكتب جورية، رئيسة اتحاد الطلبة، ويحقق معها العقيد يسري بركة (دكتور في الحقوق)، فتتنمّر عليه مليكة قائلة: "شاركتُ في المظاهرة، حتى لا يحقق معي شخص مثلك، وحتى لا يكون في الجامعة مثل الآنسة جورية أو مثل اتحاد الطلبة هذا" (160). فرمتها جورية بثقالة الورق، ولكن مليكة تفادتها. ووُضعت مليكة تحت المجهر. ويُعتقل سدير الناشط في منظمة حقوق الإنسان في المطار، بينما كان راجعاً من مؤتمر في بروكسل عن حقوق الإنسان، "والخبر الوحيد عن سدير ورفيقيه هو لا خبر" (174).
ويستدعى مولود إلى إدارة الأجانب في وزارة الداخلية. وراح المحقق يتكلم عن الأمراض والأوبئة التي تفشت في بر شمس ووصلت إلى قمورين، ويصرّح: "بتوجيهات قيادتنا الحكيمة بدأنا نحاصر الوباء في أضيق نطاق وسننتصر عليه" (181). وقال أيضاً إن الله راح يعاقب المتمردين في الصحراء، فلا يعمي قلوبهم فقط، بل يعمي أبصارهم أيضاً. ويُردف مولود: "يستحقون. – إذن أنت ضدهم. – طبعاً، هل يمكن أن يكون واحد مثلي مع هؤلاء العميان؟" (182). ويستطرد المحقق ليتكلم عن عبد المهيمن (أخي مولود) الذي يعمل في تهريب السلاح والمتاجرة به في أثينا. ويخبره أن جميع أملاكه هنا قد صودرت. وفي تهديده له بالتعاون، يخبره أن هناك حفرة بجانب كل مكتب أمني في قمورين. وأثناء العشاء في شقة مولود، تستفهم مليكة عن الحكاية، "كلمة كلمة". فيردّ: "كان لا ما كان، وغير الله ما كان، كان فيه شاب مسكين اسمه مولود، أبو الشيخ حميد ماء العينين وأمه فخر النساء وخاله... – هات المفيد يا أستاذ مولود. – وحياتك هكذا هي الاستمارة التي عليك أن تملئيها قبل أن تسمي باسم الشيطان عندهم. خالك وعمك وبنت ابن حماتك" (190). ويصرّح لها ان الأبالسة يعرفون عنا كل شيء، أحلامنا يعرفونها. وينصحها بالابتعاد عن طريقهم وبالسفر.
وتذكر الرواية أن مولود الذي جنّده الأمن كان ينظر في المرآة فيرى أنه صار شخصين مختلفين، الأول يمثل الماضي المعارض، والثاني يمثل الحاضر الذي استمالته السلطة. فنصح مليكة بالهرب من البلاد. واستدعاه اللواء مشرق وأعطاه عنوان أخيه عبد المهيمن في أثينا ومبلغاً محترماً من المال كي يزوره وينصحه بالعودة إلى البلاد. "إذا أحضرته أنت حياً أفضل من أن نحضره ميتاً. بالتوفيق" (207). وفي الطائرة تهطل عليه أطياف تفيض عن الشاشة الصغيرة في قفا المقعد الذي يتقدمه: "مليكة وأماني وآسيا، أولاً، ثم شيماء، سدير، الكولونيل رائد دوكان، اللواء مشرق، الدكتور أغيد، صقر، الأستاذ شعيب، أبو وعد، العمة حميدة
وآخرون وأخريات، كثيرون وكثيرات، ولكن لماذا لا يتراءى لمولود طيف واحد من ذويه الأقربين؟ لا عبد المهيمن ولا معاوية، لا الشيخ حميد ولا فخر النساء؟ (210).
وبعد ليالٍ ملاح أمضاها بضيافة أخيه الذي أحضر له إحدى الممثلات اليونانيات الفاتنات، عاد مولود إلى مكتب اللواء مشرق، وأخبره أن أخاه سيتعهد بتسليم الدفعة الأولى من السلاح المخصص للإسلاميين، مقابل أن تلغى مصادرة أملاكه وملاحقته، وأن يتولى مولود بيع الأملاك. وحصة اللواء منها محفوظة ومحترمة.
مقاه وحكواتية
تنتهي الرواية ببروز ثلاثة مقاه شعبية، ولكل منها حكواتيها. حكواتي الرقراق في بر شمس، حكواتي المخاليط في كمبا، حكواتي حليما في قمورين، وهم الذين حوّلوا البلاد إلى حكاية عميان. وتتوقف عند الشيخ أبو الأيتام، إمام جامع أبو الأيتام، أمام جامع أم المؤمنين الذي كان يسوط العميان ببعض الآيات القرآنية: "وما يستوي الأعمى والبصير"، "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً". وكان لا يفسرها بعمى القلب فحسب بل بعمى العينين.
ويتفتق عقل العقيد معاوية (شقيق مولود) عن تأسيس بنك للعيون. كان يقلع عيون السجناء السياسيين ويطلق من ثم سراحهم، ويزرعها مقابل عشرة آلاف دولار فما فوق. ويُقتل مولود غيلةً لأنه "صار يعرف أكثر مما يجب". ويعلن معاوية انتصاره على داء العمى. وفي بيته أمام شاشة التلفزيون تظهر له العيون وتجاويفها، "وإذا بسواد الشاشة يملأ عينيه، فزلزلت المكتب صيحته، والرعب يتآكله: عميت يا معاوية" (340). وفي خواتيم للرواية، آثر نبيل سليمان أن يضع خمسة سطور من النقاط المتعاقبة، ودون أي حرف من حروف الأبجدية. إنها خواتيم لرواية مفتوحة على السراب والمجهول.