عروض

حقيقة الديمقراطية من خلال حقيقة حركة "ماي 68"

ليست هناك وفاة، ليس هناك ميراث

يمكن الجزم أنه ليس هناك مدافعون ومهاجمون عن الديمقراطية. الكل يدافع عنها، والكل يهاجمها بهذه الفظاظة التي نرى اليوم. وهذا في حدّ ذاته أمرٌ مقلقٌ إلى حدود بعيدة. لذلك أصبح من الضروري، بل من المستعجل، مساءلة حقيقة الديمقراطية، ضمن خطوط أولى، وهذا ما قام به المفكّر الفرنسي جان لوك نانسي (1940) في كتابه "حقيقة الديمقراطية"، الذي ترجمه عز الدين الخطابي، ونشرته دار توبقال مطلع 2019.
يعلن الكاتب أن عودته لإبراز روح (حقيقة) الديمقراطية كان بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأربعين لحركة "ماي 68"، التي تتعرّض لتشهير غير ناضج ومذعور، صادر عن بعض المثقفين، والدولة التي سعت إلى وصف الحركة بكونها مصدر "الانحطاط والنسبية الأخلاقية واللامبالاة والاستخفاف الاجتماعي".
وفي سياق تصحيح التعبير والمواقف من حركة "ماي 68"، أكد المؤلف على ضرورة الاحتياط من عبارات من مثل "ميراث حركة ماي 68"، وأن هذا التعبير ليس مناسباً، سواء أُطلق بغرض السخرية، أو بهدف تجديد ربيع الحركة، فليس هناك ميراث، لأنه ليست هناك وفاة.

ضرورة استبعاد هذه الأصناف
 تبحث دراسات الكتاب عن حقيقة الديمقراطية، عن خطوطها الأولى، من أجل مساءلتها وتمديدها. وهناك مدخل واحد لفهم هذه الحقيقة، هو الاستناد إلى حركة ماي 6، كحدث مرجعي. لفهم هذه الحركة يجب إبعاد الصفات الطارئة عليها: لم تكن ثورة، ولا تياراً إصلاحياً، رغم أنها أحدثت العديد من الإصلاحات، كما لم تكن معارضة ولا عصياناً ولا تمرداً ولا انتفاضة. فرغم وجود كل هذه الملامح والوضعيات والمطالب والطموحات، لكن ينبغي التركيز على ما جعل هذه الحركة تكون متفردة ومتميزة، ولن يتم ذلك إلا باستبعاد كونها كانت ثورة، تياراً إصلاحياً، معارضة، عصياناً، تمرداً، انتفاضة. إنها إمكانية أساسية كانت مسبوقة بشروط عدّة ذكر منها ج. ل. نانسي: التقاليد القديمة بفرنسا، البطء في ألمانيا وعنف الولايات الأميركية المتحدة في فيتنام... كل ذلك ولّد خيبة أمل متواصلة بعدما فشل تحقيق ما أعلنت عنه مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
دوماً يحدث شيء ما يغير مجرى التاريخ ويخيب الانتظارات. لكن الموقف الصريح للمؤلف أن أوروبا "لم تعد تدرك مستوى التحوّل الذي مسّ ما اعتقدت من قبل، أنه تجسيد لكيانها، كما أنها ربما لم تعد تدرك عجزها عن تحقيق ما رغبت رغم كل شيء في خلقه، ونقصد بذلك أوروبا بوصفها كياناً روحياً ووحدة جيو- سياسية". من هنا بدأت معركة العالم الصناعي والديمقراطي، إذ برز في الأفق مجرى آخر للأشياء: التقدم التقني والاجتماعي معاً. إنها حلبة تتصارع عليها أفكار منظّمة، ما بعد استعمارية وما بعد سوفييتية متجاوزة للديمقراطية البرجوازية. وهذه الأفكار المنظمة أدّت مباشرة إلى تصور جديد للدولة والمجتمع. لكن هذا التصور بدأ يدخل منطقة الوهم، إن "عصر تصورات العالم" قد انتهى، وقد أعلن هايدجر سنة 1938 نهاية هذا العصر، وهي نهاية توقعات عالم متحوّل.


شرٌّ سياسيّ مطلق: جنون الإنسان
لم تخذل الديمقراطية ذاتها، بل انقضّ عليها الشر المطلق، المجهول المصدر، لكن الذي يُعتقد دوماً أنه قادم من الخارج السيء. إن الأفكار والنظريات تأتي دوماً من الخارج. وحين تكون ملاءمتها أو تطبيقها فاشلين، فإنها تصبح خارجاً سيئاً، شيطانياً. إن المرء قد يعتبر نفسه "ماركسياً" بهذا القدر أو ذاك، بأكثر الصيغ اصطناعاً أو تنميقاً، أو يعتبر نفسه "ثورياً" ولو بصيغة "محافظة"، لكن المرء لا يتصور نفسه ديمقراطيا ضمن صنف معين. وهذا نوع من التخلّي عن الديمقراطية. يؤكّد ج. ل. نانسي، في هذه الحالة، أن هذا الفكر يعتبر الديمقراطية، في حال تخليه عنها، أهون الشرور إن حدثت.
حين حدثت الكوارث السياسية الكبرى في منتصف القرن العشرين والمتمثلة في النزعتين الكليانيتين: النزعة الفاشية، والنزعة الستالينية، خطت الديمقراطية خطوة نحو حلبة الصراع الدامي دون أن تعرف ما هي بصدد القيام به، وبشراسة النزعات التي حصلت ببروز نزوات غامضة. الهمجية، الجنون، الخيانة، الانحراف والإساءة...كلمات ونزعات تحيل على اللاوعي، وجدتهما الديمقراطية أمام طريقها مثل النصب الشامخة. ويشير المؤلّف إلى أن الانتباه إلى هذه النزعات، اللاواعية أكثر مما هي مقصودة، كان بفضل تحليلات جورج باطاي، والتر بنيامين، حنا آرندت أو حتى طوكفيل. هؤلاء رسموا أمام أعين الإنسان الهجمات التي تعرّضت لها الديمقراطية. ويضيف المؤلّف مستطرداً: إن الديمقراطية هي من عرّضت نفسها لهذا الهجوم، مما جعلها مطالبة دوماً، وإلى يومنا هذا، بابتكار نفسها من جديد بدل الدفاع عن حالتها التي تسوء كلما ظهرت النزعات السيئة، وكلما فاجأها الشر القوي مثل قوة الموت. وقد كانت حركة "ماي 68" حركة ابتكار، مثل العديد من الحركات العالمية في مختلف بقاع الأرض.    


حركة بدون دافع "مهدوي"
كانت صيغة الانبثاق التاريخية، قبل الحرب العالمية الثانية، تتمثل في اللجوء إلى أفكار "المهدوية" التي لا "تُعرض بوصفها قُدوماً لمنقذ أو لمنصف، بقدر ما تعرض كحدث لقطيعة مع التاريخ وبداخله. إنه فكر الزمن داخل الانفصال بدل التسلسل، وبدل الانقطاع بدل التعاقب".
لم تلجأ حركة "ماي 68" إلى أي دافع "مهدوي"، فقد وصفت نفسها بصفتها حركة "بدون مهدوية"، أي بدون دافع مهدوي، أو "بدون مهدي". لكن لا يعني ذلك عدم وجود أي استلهام "مهدوي"، أي أنها بدل بلورة وتقديم التوقّعات، فضّلت الترحيب بحضور الانبثاق الذي لا يعطي أهمية بالضرورة لأي سلطة جديدة مرتقبة.
يربط ج. ل. نانسي بين حركة "ماي 68" وروح الديمقراطية. إن المشترك بينهما هو ما أطلق عليه مفهوم "نَفَسُ الإنسان". بمعنى ليست الديمقراطية أقل من مفهوم الإنسان الذي يتجاوز ذاته بشكل مستمرّ، بشكل غير محدود. ولكي يكتمل هذا النفس الإنساني لا بدّ من الجمع بين باسكال وروسو، وكان من الممكن أن يقترن بهما ماركس الذي ظل يعلّم العالم أن الإنسان ينتج ذاته باستمرار.
ليست الديمقراطية، ولا العدل، فقط نظام اقتسام الخيرات المتبادلة، بل اقتسام وتبادل ما لا يتوفّر على قيمة معيّنة، وبعبارة أدق اقتسام ما لا يقبل القسمة لأنه خارج القياس. هذا، حسب ج. ل. نانسي، الذي يتجاوز السياسة، ذلك أنها مطالبة بأن تجعل وجود هذه الحصّة ممكناً. لذلك فما عليها أن تعيه، وبقوّة، هو أن هناك دوماً من ينتظر إخراج هذه القسمة إلى الوجود.


كلمات مفتاحية

الديمقراطية العدو القريب جان جاك روسو السياسة الديمقراطية الليبرالية النزاعات الاجتماعية