قراءات

"شمس بيضاء باردة".. رهان على الحب

صونيا خضر

24 يناير 2020
في بداية السرد، الذي تستهله راوية "شمس بيضاء باردة" لكفى الزعبي (صدرت عن دار الآداب في بيروت في نهاية عام 2017، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر) بمفردة "اللعنة" التي تعرف طريقها جيداً إلى شخصية العمل، يدرك القارئ أنه أمام عمل سوداوي، تتدحرج فيه الأحداث وهي تحمل على ظهرها هذا الحجر الثقيل الذي سوف يعيق محاولات النهوض التي لن تحدث على الإطلاق، في حياة الشاب، الذي استسلم منذ بداية الطريق إلى الاتجاه الذي لن يقوده إلى مكان غير الجنون.
راعي، البطل الرئيسي لهذه الرواية، الذي يؤكد في كل مشهد منها غربته عن الأمكنة وغرابته في التعامل مع الأحداث، يراوح الترتيبات القدرية التي وجدت خصيصاً لأجله مرتفعاً أو منخفضاً قليلاً عنها، معانداً لهذا القدر، ولو على سبيل المناكفة، القروش القليلة التي قلّما تتوافر في جيبه، يمنحها لمتشرد يسدّ بها جوعه، أو يشتري فيها زجاجة مشروب روحي ينوّم فيها جسده وضميره اللذين يحملهما كعبء ثقيل من بداية السرد حتى تحرره من العقل في آخره.

ذروتان وحبكات متعددة
"شمس بيضاء باردة" رواية تتصاعد فيها الأحداث على وتيرة من السهل استيعابها، ومن الصعب تجاوز حالتي القلق الشديد والبؤس الشديد فيها، وتقدم في ذروتين حادتين حالتين من القسوة البشرية المريعة والضعف البشري العميق. هاتان الحالتان، وما بينهما من حبكات

فرعية، لعمل تتداعى فيه فرص نجاة العقل في حياة تحكمها وتتحكم فيها سلطة العوز والجهل، توضحان الفرق بين المستويين المتباينين؛ "العيش كما ينبغي، أو كما نريد"، نحن البشر الغريبين دائماً، الوحيدين دائماً، حسب الكاتب الفرنسي، إميل سيوران، وحسب الراوية في هذا العمل.
تذهب الراوية بالقارئ، إلى قعر مدينة عمان، وتترك جسراً قائماً بين هذا القعر وبين وجه المدينة، كما فعلت سابقاً في روايتها "سين"، لكنها في هذا العمل تقيم جسراً آخر لتدور الأحداث داخل أضلاع مثلث يتضمن القرية والمدينة بضلعيها المتناقضين، وتحديداً في الزوايا الضيقة لهذا المثلث الذي ترتبك فيها حياة شخصيات العمل؛ الزاوية بين ضلعي المدينة، حيث يلتقي البؤس بالرخاء، والجهل بالتنوير، والزاوية بين القرية والمدينة، حيث تكمن الغربة الحقيقية لـ"راعي"، الذي يتنقل بين الزوايا وعلى حوافها، متذبذباً بين ما يريد وما هو عليه، تاركاً خلفه، وفي الاتجاهين، أزمات ضمير طاحنة، لا مهرب منها إلا بشراء مزيد من الوقت.
تطرح الراوية، في هذا العمل، وبتكثيف شديد، تداعيات الشعور الدائم بالغربة في وسط العائلة، التي تعتمد بالدرجة الأولى على اختلاف الثقافة بين أفرادها، ويبدو هذا واضحاً في المشهد الذي تصوّر فيه غرفة راعي، التي لديها مدخل جانبي يجنبه الخروج والدخول من البيت، واستئناسه لوجوده في هذه الغرفة، التي رغم اتصالها بالبيت تمنحه باباً لتجنب هذا الاتصال، هذه الغرفة التي تصله وتفصله عن البيت هي التي تجنبه الاشتباك بأبيه، وهي ذاتها التي يرتكب فيها ذروة أخطائه، بسبب جشع وطمع أبيه.
إذاً، هي رواية لا تدور حول راعي، بل في داخله، الذي يضج بصراخ الذات اللامنتهي، وبصراخ الحيوات المرتبطة بهذه الذات، التي تصب كلها في الثقب الأسود الكبير الذي يملأ ضميره؛ علاقته الشائكة بوالده، علاقته المخجلة بعائشة، علاقته الملتبسة بصديقه أحمد، وعلاقته الحزينة بزوجة صديقه، التي تدفعه أخيراً إلى الاستسلام والقبول بالترتيب القدري الذي تمنح لتلك اللعنة أن تستشري وتتمكن منه.


الرجل في "شمس بيضاء باردة"
تقدم الزعبي في شمسها البيضاء الباردة الرجل في أحوال عدة لا تتخللها حال تخلو من بؤس، أو حال تفتقر إلى الانسجام، مع إحداثيات العمل من غربة مكانية وحضيض مادي وفرق ثقافيّ؛

الأب
الذي يرزح تحت سلطة الجشع والسيطرة، ويستخدم سلطته الأبوية بدوره لتطويع كل من يرزح تحتها بالقوة، متخذاً من غطاء التدين وازعاً لقمع حرية أبنائه وتكميم أفواههم، ويتجلى ذلك في تهديده المستمر لابنه راعي بحرق الكتب التي ينفق نقوده لشرائها، كما وفي الوصاية على قريبة العائلة عائشة ذات الحالة العقلية الخاصة، طمعاً بمصاغها وإرثها، والتسبب في موتها لاحقاً.

الابن (راعي)
شخصية العمل الرئيسية، المثقف الذي يقاوم مصيره، ويعيش في عالمه الخاص، مجبراً على كونه ابن ذلك الرجل، ليكون ضحية اختلافه عنه وخلافه معه.

أحمد
صديق راعي الذي يتبع نداء القلب ويعجز عن تحقيق مطالب الحب، أحمد الرومانسي الفقير قليل الحظ، الذي يدفعه عجزه من مواجهة الحياة إلى الهروب منها، هو الذي يصعد بالعمل إلى واحدة من الذروتين الرئيستين فيه، ويساهم في جرّ "راعي" إلى مصيره.

 

المرأة 
تقدم الراوية المرأة في ثلاث نساء، ضعيفات منكسرات؛

الأم
في وقت تتجه فيه الكتابات نحو ترسيخ دور الأم، كنواة تدور حولها الأسباب التي تقود الفرد

نحو قدره، أو اختياراته في الحياة، تقلب الراوية الطاولة، وتشير إلى أدوار رئيسة أخرى تجعل من دور الأم مجرد كومبارس لا يضيف إلى الحياة ولا يغنيها، الأم في هذه الرواية تقوم بأداء المهمات الموكلة لها، من تضميد جروح، ومحاولات تسكين وحماية خلال اندلاع مواقف العنف، كأي إنسان يجد نفسه فجأة وسط مشاجرة، ويدفعه وازعه الإنساني للوقوف درعاً بين الفرقاء، وهذه حقيقة لا بد من الإقرار بوجودها، فالمرأة وتحت كل المسميّات التي تثقل عليها، لا تتمكن أحياناً من القيام بأعباء البطولة التي يتطلبها لقبها، وهذا له ما يبرره وسط السلطة الذكورية المستشرية في غالبية الأحداث، وهذا ما يُحسب للراوية حتماً، وهي تطرح عملاً موضوعياً، متجنبة الوقوع في فخّ الصورة المثالية للقب، وتكريس القداسة فيه نمطياً.

عائشة
قطة هذا العمل، التي تتبع أهواءها وغرائزها، من دون تحفظ، أو انتباه، وهي الضحية التي تجرّ في كعبيها قَدَر "راعي" ومصيره، بل وربما هي ضحية لضحيتها، الذي استسلم لفحيح جسدها، وجوع جسده، فأطلق العنان لشعلة صغيرة لتضرم النار في طريقه وفي ضميره، عائشة المتخلفة عقلياً وجدت نفسها وحيدة في هذا العالم بعد فقدان أمها، لولا المصاغ والبيت الذي ورثته عنها، اللذين كفلا لها الإقامة في بيت الرجل الجشع والد راعي.

زوجة أحمد والرهان على الحب
تحمّلت هذه المرأة قسوة والدة زوجها، وصبرت على الذل والمهانة، مراهنة على الحب، الذي خذلها بدوره مرتين، مرة حين انتحر زوجها وحبيبها، هارباً من قسوة الحياة، ومرة حين تردد راعي في قبول طلبها بالزواج منه، مستسلماً لسطوة ضميره، الذي يذكره بالحادثتين المريرتين في حياته، موت عائشة، وحبه لزوجة صديقه سراً. وفي هذا المقام، لا بد من الإشادة ببراعة الراوية، وهي تعرض كل الأسباب التي تؤدي إلى الالتباس بين سقوط راعي في حب تلك المرأة، أو وقوعه في حب حالة الحب بينها وبين زوجها، واستحالة فك هذا الالتباس لدى راعي، الذي يعزز قسوته على نفسه، وتذنيبها وإضافة عمق آخر للثقب الأسود في ضميره.

 

الشخصية الرئيسة الواحدة
بالنظر من زاوية أخرى إلى عمل كفى الزعبي الذي تقدّم فيه شخصية رئيسة واحدة، وهي

راعي، البطل الذي ترافقه اللعنة طوال العمل، نجد أنها تنجح كما في بعض أعمالها في حجب أدوار البطولة عن أبطال ضمنيين ورئيسيين ساهموا في تكوّن الشخصية الرئيسة على هذا النحو من البؤس والغضب والقلق، عبر اختزال أدوارهم المباشرة، وتمريرها من خلال الأصوات الداخلية للبطل الرئيسي، لكي ترجح فكرة تصنيف العمل إلى الـ"مونودراما".
ومن الملاحظ أن الزعبي، في عمليها الأخيرين تحديداً، تجنح نحو إسناد الأحداث على كتف شخصية رئيسة واحدة، رغم أن الأعباء الدرامية في مجملها تقع على كاهل أبطال ضمنيين مؤسسين لبنية العمل، يرفعون أحداثه التي يعلقون في مجرياتها، ليحسب لها هذا كبصمة خاصة، وكنوع من الرأفة بالقارئ، ليخرج من هذين العملين الغنيين بالأحداث التصاعدية دون لهاث، كونه يستند بدوره على هذه الشخصية الرئيسة، ويستطيع تضييق سيولها الجارفة في ذراع واحدة، وصبّها في الاتجاه الأفضل للجريان.
كفى الزعبي: كاتبة وروائية أردنية حاصلة على درجة الماجستير في الهندسة المدنية من روسيا، اتجهت إلى الكتابة، وصدرت لها لغاية الآن ست روايات:
ـ رواية "سقف من طين" ـ صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 2001.
ـ رواية "ليلى والثلج ولودميلا"- صدرت في طبعتين: الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت عام 2007،  والثانية عن دار التكوين في دمشق عام 2012.
كما تُرجمت إلى اللغة الروسية، وصدرت عن دار أد مارغينوم في موسكو عام 2010.
ـ رواية "عد إلى البيت يا خليل" ـ كتبتها بالروسية، وصدرت باللغة الروسية عن دار كونسالتنغ، في موسكو عام 2010.
ـ رواية "ابن الحرام"- صدرت عن دار التكوين في دمشق عام 2012.
ـ رواية "س"- صدرت عن دار التكوين في دمشق عام 2014.
تُرجمت رواية "س" إلى اللغة الإسبانية، وصدرت عن دار فيربوم في مدريد عام 2017.
ـ رواية "شمس بيضاء باردة"- صدرت عن دار الآداب في بيروت في نهاية عام 2017، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر.

كلمات مفتاحية

رواية أدب عربي. رواية عربية