قراءات

5000 سنة من الكوارث.. نظريات ومدارس

محمود عبد الغني

27 فبراير 2020
علم التاريخ يدخل على الخط

ماذا يقول لنا المؤرّخون عن الكوارث والأعاصير والتسونامي التي يبدو أنها تتضاعف في كل منطقة من العالم؟ إن دراسة هذه الظواهر تنتمي منذ زمن طويل للجيولوجيا وعلم المناخ ومجمل العلوم التي تدرس الطبيعة. وإذا بدأ المؤرّخون، منذ ثلاثين سنة، يهتمون بدراستها أيضاً فلأن الكوارث "الطبيعية" هي قبل كلّ شيء إنسانية وتشكّل مرايا لمجتمعاتنا.
"الكوارث، وحده الإنسان قادر على مواجهتها، في اللحظة التي يجربها. الطبيعة، في حدّ ذاتها، لا تعرف الكوارث" (ماكس فريش، 1979)- هكذا افتتحت المجلّة التاريخية الفرنسية الشهرية "تاريخ" عددها الخاص الذي عنونته بـ"5000 سنة من الكوارث الطبيعية، من الطوفان إلى انهيار الحضارات" (عدد 86). (يهتم الكولابسولوجي بدراسة عوامل انهيار الحضارات، وظهر في بداية القرن 21).
من غير الممكن حصر قائمة لأكبر النكبات في التاريخ. فأغلبها طواها النسيان، خصوصاً في العصور والحِقَب الغابرة. وبعض الأساطير ساهمت في حفظ آثارها، مثل قصة الطوفان في القرآن والإنجيل، كما لعبت ملحمة "جلجامش" نفس الدور أيضاً. هنا لا بدّ من التأكيد أن عددَ الضحايا ليس عنصراً حاسماً في جعل الكارثة أو النكبة راسخة في الذاكرة الجمعية، بل الطريقة التي تمّ بها ترويج هذه الكارثة. من هذا المنطلق، كانت كارثة لشبونة سنة 1755 نقطة تحوّل كبرى. وأيضا فكرة فولتير حول القتل الرحيم، ذي الأصل الإلهي، الذي تنفّذه الطبيعة. هنا تعود للأذهان ثورة بركان "طامبورا" بأندونيسيا سنة 1816، والتي أُطلق عليها "سنة بدون صيف"، وألهمت الروائية الإنكليزية ماري شيلّي (1797-1851) رواية "فرانكشتاين".

اليوم، وبفضل علم دراسة المناخ في الأزمنة السابقة، أصبح في مقدور الباحثين كتابة تاريخ حقيقي لبيئات الماضي. وبفضل هذا التاريخ نعرف مثلاً أن الشعوب في عصر شارلمان (موحد أوروبا الغربية منذ تولّى الملك سنة 751م)، رغم أنها جدّ ضعيفة للتقلبات المناخية، لم تكن أبداً تستسلم أمام مآسي ذلك الزمن، فعرفت كيف تتكيّف معها. والسؤال الذي طرحته هيئة تحرير مجلة "تاريخ" في افتتاحيتها للملف الخاص هو: هل مجتمعاتنا ستكون أقل تسلّحاً لمواجهة الكوارث؟ وهم مفزوعون بعاصفة "كسينثيا" التي ضربت ساحل "شارانتي" بفرنسا سنة 2010، أرجع السُكّان والإعلام الحدث إلى الاحتباس الحراري. لقد كانت الكارثة فعلا دون سابقة لها. وقد بيّن المؤرّخون منذ ذلك الحين أن العواصف الشبيهة بها جرفت المنطقة في القرن السابع عشر. لكن المناطق المنكوبة بعاصفة "كسينثيا" لم تكن مسكونة.
وقد تزايدت الحاجة إلى تفسيرات علم التاريخ مع تنامي الخوف من الانهيارات. فخطاب اختفاء بعض الحضارات بسبب كارثة بيئية شغل بال الغرب منذ قرنين على الأقل. الأمر لا يتعلّق، طبعاً، بنفي وجود تغيّر مناخيّ في الوقت الحالي الذي هو، في السُلَّم الإنساني، بحجم لا مثيل له. لكن هل مقولة "الانهيار" هي حقّاً الطريقة الأفضل للتفكير فيه، وخصوصاً، للإجابة عنه؟

            "الطبيعة، في حدّ ذاتها، لا تعرف الكوارث" (ماكس فريش، 1979)- هكذا افتتحت المجلّة التاريخية الفرنسية الشهرية "تاريخ" عددها الخاص  



















روني ليتول: هل وقع الطوفان حقّاً؟
في سنة 1998 أثبت عالما الجيولوجيا ويليام ريان وفالترب يتمان أنه قبل 7500 سنة حدث فيضان مفاجئ في منطقة البحر الأسود، التي لم تكن منذ 10000 سنة سوى بحيرة. فابتلع مضيق الدردنيل البحر الأبيض المتوسّط نتيجة وجود "حاجز صخري". فهل فعلاً حدث هذا الطوفان في البحر الأسود؟ عن هذا السؤال يجيب المؤرّخ الفرنسي روني ليتول (أستاذ بجامعة باريس 3) قائلاً إنها ليست المرّة الأولى التي نجد فيها هذا الإثبات التاريخي لمرحلة من مراحل التكوّن. لكن المؤرّخين لم يكونوا موجودين هناك. واكتشاف عوارض خشبية منحوتة وأدوات حجرية تعود إلى 5000 سنة قبل الميلاد، سنة 2001 في عمق البحر، من طرف الأميركي روبير بالّار، يؤكّد وجود حضارة نيوليثيكية.

هنا طالب ر. ليتول بوضع تعاقب زمني للأحداث. إن آخر أربع مراحل التجمّد بدأت منذ حوالي 100000 سنة. في هذه المرحلة انخفض مستوى المحيطات بـ120 متراً. ونتيجة لذلك تقلّص البحر الأسود إلى بحيرة "أندرياتيكية" دون جريان خارجي، مفصولة عن البحر المتوسط ببرزخ كان موجوداً في مكان مضيق البوسفور حالياً.
كانت هذه "البحيرة السوداء" أصغر بكثير من البحر الأسود الذي نعرف اليوم (436000 كيلومتر مربع)، ومستواها منخفض بحوالي 100 متر مقارنة مع اليوم. كانت تغذيها مياه هادئة، مياه الأمطار من جهة، ومن جهة أخرى أنهار الدّانوب، "دون" و"دنييبر". لكن التبخّر كان يوازن علاقات هذه المياه الهادئة، مثلما كان يفعل في بحر "كاسبيان" الحالي. فتلوّثت البحيرة إذاً. فحدث الاحتباس الذي تسبّب في ذوبان الثلوج. فبدا مستوى المحيطات في الارتفاع، في البداية ببطء، منذ 17000 سنة ربّما. ومنذ حوالي 10000 سنة غمرت المياه البوسفور، قبل أن تتدفّق ببطء في البحيرة السوداء فملأتها شيئاً فشيئاً. تماماً مثل ماء يفيض عن حوض لينسكب في حوض يوجد في الأسفل. إن ما حدث لم يكن طوفاناً، بل فقط تطوّر بطيء لتدفق المياه. لم تحدث أي كارثة، لكننا عاجزون عن تحديد بكم درجة كانت المياه ترتفع كلّ سنة. لكن، إذا ربطنا مختلف الترابطات بين البحر والأنهار التي اتسعت أيضاً بسبب ذوبان الثلوج، يمكن قبول تقدير ارتفاع بلغ 5000 متر أكثر من "العادي"، وذلك مبنيّ على فرضية ازدواجية الصبيب الحالي، أي أكثر من 150 كيلومترا مربعاً في السنة. هنا يقول ر. ليتول بأن تقديراته، كي يرتفع مستوى "البحيرة/ البحر الأسود" بـ20 متراً مع أخذ بعين الاعتبار عملية التبخر (80 سنتمتراً في العلو كل سنة كمعدّل)، يجب وجود مساحة شاملة تُقدّر بـ13000 كيلومتر مربع من المياه... الأمر الذي يستغرق ثمانين سنة. وبذلك يكون أمام السكّان المقيمين على ضفاف الأنهار والأودية، وهم صيادون ومزارعون، الكثير من الوقت للابتعاد عن منطقة الخطر.

 اكتشاف الموزازور سنة 1764

















فيليب طاكيت: ما هو الديناصور؟ ماذا عن احتراقه؟
لا شكّ أن فكرة انقراض الديناصورات ستحضر في كل تأريخ للكوارث الطبيعية. فهي فكرة ظهرت في القرن التاسع عشر، والعلم مدين بهذه الفكرة للعالم اللّامع جورج كيفيي. ولتسليط الضوء على اختفاء هذا النوع الضخم من الحيوانات أجرت مجلّة "تاريخ" حواراً مع فيليب طاكيت (1940) عالم الحفريات الشهير. فحسب نتائج أبحاثه، ظهر اسم "ديناصور" للمرة الأولى سنة 1842 في أبحاث عالم الحفريات البريطاني ريتشارد أون، الذي كان أول عالم يدرك أن العديد من الأنواع الحيوانية التي تمّ اكتشافها حديثاً في الطبقات الجيولوجية في بريطانيا العظمى تنتمي لنفس النوع من الزواحف المنقرضة التي أطلق عليها اسم "ديناصورات". والأكثر أهمية من هذه الأنواع هو ما أسماه "الميغالوسوريس"، التي درس فكّها الضخم العالم ويليام بوكلاند في أوكسفورد سنة 1824.

  فيليب طاكيت 


















وقد قام العالم الفرنسي جورج كيفيي، الذي كان أول من أثبت وجود أنواع منقرضة، مثل: الميغاثيريوم، الموزازور ولبتيروداكتيل، وانطلاقاً من هذه الأبحاث، بوضع نظرية "ثورة على سطح الكوكب"، والقائلة بحدوث كوارث كانت نتيجتها الاحتراق الجماعي للأنواع. لم يتحدّث كيفيي عن "ديناصورات". لقد كانت بين يديه فقرات "ديناصور" تمّ العثور عليها في منطقة "النورماندي"، قرب "هونفلور"، من طرف هاوٍ اسمه القديس باشلاي. لكنه لم يرَ في تلك الفقرات سوى تمساح مختلف جدّاً عن التماسيح الأرضية المعروفة.

  قام العالم الفرنسي جورج كيفيي، الذي كان أول من أثبت وجود أنواع منقرضة، بوضع نظرية "ثورة على سطح الكوكب"


















لقد كانت "نظرية الكارثة" طريقة علمية في سرد تاريخ الأرض. وكان كيفيي مقتنعاً بأن العالم كان مسكوناً بزواحف ضخمة، تولّد عنه فيما بعد، نتيجة لكارثة حدثت، عالمٌ مسكون بثدييات مختلفة جدّاً عن الثدييات التي نعرف اليوم. ثمّ اختفت هذه المجموعة بدورها. لكن كيفيي كان محتاطاً من تقديم تفسير مفصّل عن طبيعة الكوارث، بل اكتفى فقط بالحديث عن "انقلاب في القشرة الأرضية".
وعن فكرة اختفاء الديناصورات، قال فيليب طاكيت إنها لم تُحسم بعد. ورغم ذلك ففي نهاية سنوات 1980، اعتبر عالم جيولوجيا أميركي اسمه فالتر ألفاريز أنه عثر على جواب عن انقراضها. وقد انتشرت هذه الفكرة بين العديد من علماء "نظرية الكارثة" المسبّبة في اختفاء الأنواع. فنتيجة لتأثير المناخ المتقلّب والمظلم، والذي أحدث شتاءً لانهائياً كانت نتيجته انقراض جزء لا بأس به من النباتات (إذاً الديناصور النباتي) والزواحف (إذاً الديناصور اللاحم الذي كان يتغذّى على الثدييات الصغيرة وعلى بعض الديناصورات).

ولم يهمل ف. طاكيت مدرسة كارثية أخرى أكّدت على دور ثورات البراكين في هذا الانقراض، فالجيولوجي والفيزيائي الفرنسي فانسان كورتيلور يفسّر وجود صدفة بين فترة احتراق الديناصورات وبين تدفّق الحِمم البازلتية في الهند. وقام بتوسيع هذا المفهوم وطبّقه على نهاية مرحلة الـ 250 مليون سنة، التي عرفت بدورها حرائق كبيرة مسّت 80 بالمائة من الحياة على الأرض. أما التفسير الثالث لانقراض الديناصورات فهو مناخي. فقد لاحظ بعض الباحثين الفرنسيين والإنكليز أنه في كل حريق ينتج عنه تقلّص البحار. فنتج عن ذلك انخفاض في الحرارة، فاتسعت الهوة الحرارية بين الصيف والشتاء، وكان ذلك كافياً لانقراض الحيوانات الحساسة للبرد. 

كلمات مفتاحية

المؤرخون الطبيعة الأسس المعرفية الأساطير والسياسة الأسطورة التاريخ الزمان