عروض

"الكراطيط" لمحمد اشويكة.. وثائقية النص القصصي

بهاء إيعالي

28 فبراير 2020
يبدو أنّ غاية القاص والكاتب المغربي محمد اشويكة (1971) واضحة تماماً في مجموعته القصصية "الكراطيط" (منشورات المتوسّط) بإنجاز العملِ على أنّه فيلم وثائقي لعالم هذه القبائل البدويّة وحياتها وثقافتها، بطريقةٍ أشبه بسينمائية الفيلم الوثائقي في محطّة ناشونال جيوغرافيك، ربّما يحاولُ بطريقته أن يرمي نوعاً من التوازي الحياتي بين هؤلاء والمجتمعات المدنية التي تقف في المكان المقابل والتي، بشكلٍ أو بآخر، قد تكون مثاراً للسخرية لهؤلاء الذين يسمّيهم الكراطيط، والعكس أيضاً.
يعرّف اشويكة هؤلاء الكراطيط بأنّهم لا تصنيف محدد لطباعهم، كونهم مزاجيي النفس، بدوٌ بكلّ معنى الكلمة، وقد جاء مصدر تسميتهم من الكلمة المحكيّة المغاربية كرطيط، أي الشيء القصير، وربما جاءت تسميتهم من ارتدائهم الأثواب القصيرة كما يقول: يلبسون ثياباً خشنةً كرطيطة. ينكشف سواد عوراتهم حين ينكفئون. لكن لا يأتي وصف "كرطيط" محصوراً بتسمية لفرد من أفرادهم بقدر ما هي صفة قد تكون مبعثاً للسخرية من أمرٍ ما حولهم. وهو في الوقت نفسه يعطي صفات مشتركة لهؤلاء القوم وتصرّفاهم التي تتصف بالديمومة، بدءاً من عدم استحمامهم وتغيير ثيابهم، وتبوّلهم قرب مناماتهم، صراعاتهم الأزلية، وسماعهم لنصائح الآخرين ولو بشرب مسحوق الغائط.
قد نرى أنّ السمة البارزة لهؤلاء القوم هي العزلة والتخلف، لكن شأنهم شأن كافة الشعوب على هذه المعمورة لهم ثقافتهم التي يتفرّدون فيها، فصاحب "الحب الحافي" يقوم بتوثيق
أنثروبولوجي حول عاداتهم البدويّة وعقائدهم وعالمهم الفكري الواسع، فيتطرّق إلى عادة عدم الاغتسال لديهم في شهر رمضان، بفعل عادة التكواز التي كانت النساء تقوم بها بفعل المشاجرات، كذلك حبهم للمال، وقتل من يفكّر بسرقتهم، وصراعاتهم الدائمة بين بعضهم، رغم روابطهم القوية، وعدم توحّدهم إلا حين تهدّدهم جميعهم بالخطر... كلّ هذه العادات هي جزء من موروثٍ فكري يتناقلونه جيلاً بعد جيل. كذلك معتقداتهم الفريدة، بدءاً من قيمة الأم والمرأة لديهم، وتشبيهها بالأفعى لمطواعيّتها ونعومتها، أو الإيمان بالغيبيات، وتعوّذهم من الشيطان جراء ما ينبعث من راديو "ألكترا"، الذي كان صلتهم الوحيدة بالعالم للخروج من عزلتهم، أو حتى اعتقادهم بقرب القلب من المؤخرة.... وأيضاً عوالمهم البدوية التقليدية، وتوازي علاقتهم بالإقطاع ومدنهم الممتلئة برائحة البول.
بيد أنّنا نرى الكاتب يستفيض في الحديث عن الطب في مجتمعاتهم، هذا الطب الذي نجده مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالسحر والشعوذة، شأنهم شأن أيّ مجتمع بدائي منتشرٌ بقوّة في أوساط قبائلهم، ولو أنّنا نجد ميولاً أكثر للأسلوب العملي في عملياتهم الطبيّة، التي مغزاها أنّهم اكتشفوا طريقة لمعالجة الشيء دون أي قدرة على إعطاء تفسير علمي لهذه الظواهر. يستفيض اشويكة في الحديث عن الحجام، الذي هو عادة متعدّد المهام في مجتمعهم، بدءاً من قيامه بالحجامة، مروراً بخلعه للأسنان، وحلاقته للشعر واللحى، وصولاً إلى ختان الأطفال، الذي يرتكب فيه أخطاء قاتلة حسب توصيف النص، وأيضاً عن بعض الممارسات الطبية لديهم، كالطبطبة، ومحلول الزيت والكوزة، وحكّ المكان الملسوع من قبل العزّام.... كذلك تنتقل اللوحات القصصية في فن الغناء والموسيقى الشعبيين لديهم، وهما عنصران أساسيان لأي دارس حول حضارة ما؛ فيحدّثنا عن أغاني الشيخات، خصوصاً الشيخة مليكة، كذلك فن العيطة، الذي تعود جذوره إلى ما قبل الاستعمار الفرنسي، والمسمّى حسب المناطق الآتي منها (المرساوي نسبةً إلى المرسى، والحوزي نسبة إلى الحوز) ... كل ذلك حكاه الكاتب في الأجزاء الثلاثة للنصوص القصصية التي جاءت على امتداد 172 صفحة من القطع الوسط.
تقريباً، لا حبكةَ أساسيّة للنصوص القصصية، بقدر ما كان النص لوحة ملتقطة، تشكّل مع باقي النصوص ما هو أقرب إلى فيلمٍ توثيقي للكراطيط، بحيث أنّ الصورة هنا هي أساس العمل،
وهذه الصور تمشي بمسارٍ حكائي غير روائي، فنجدُ أنّ الكاتب كان يتحدّث عن علاقة هؤلاء براديو "ألكترا"، لكنه ينتقلُ إلى لوحة جديدةٍ عن قدرة الأم العجوز على التقاط ذبذبات الأصوات والتمييز في ما بينها، مثلاً.. وهنا يحسبُ للكاتب اشويكة اعتناؤه الدقيق بالتفاصيل مهما قلَّت أهمّيتها، بدءاً من شغله على هيكل الأشياء، وصولاً إلى أصواتها. وللأصوات حضورٌ أساسي في النصوص، بحيث لا يغفل أيّ واحدٍ منها، سواء كانت أصوات الحركات الحاصلة، أم أصوات الحيوانات... هذه التفاصيل والأصوات التي لا ينبغي للكاميرا أن تخفيها في عالم تصوير الأفلام الوثائقية، والتي حوّلها من صورٍ مرئيّةٍ مسموعةٍ إلى صور مكتوبة.
هذا وتختفي الأنا كلّياً من النص، من دون أن تلجه بشكلٍ موارب حتى، فصاحبنا شخصيّة الرواية الذي من خلاله نتعرف على هذه المجتمعات يأتي بصورته الخاصة، تماماً كما ينبغي هو أن يكون، لا كما يراه الكاتب فقط، وهذا يعدّ أساسياً في فن السرد التوثيقي لإضفاء الموضوعيّة التامة في النقل. كما وتتخذ المحكيّة المغاربية موقعها في الأحاديث القليلة والأغاني، وحتى في تسمية بعض النباتات (الهنديّة للصبار)، والأشخاص (الحجام، المصاص، الشوّافة...).
ربما يندر اليوم أن نجد نصاً سردياً يعمل على توثيق أنثروبولوجيا مجتمعٍ ما، فالكتب العلميّة المتخصّصة في هذا المجال أخذت مكانتها، وتركت للأدب عالمه الإبداعي التخييلي، بيد أن مجموعة الكراطيط ربّما تكون، وعن غير قصد، مرحلةٍ جديدةٍ من الكتابة التقريرية التوثيقية بلغةٍ إبداعيّة يشغف القارئ بها، مما يضعنا أمام مستقبلٍ لا تزول فيه فقط الفوارق بين الأجناس الأدبية الإبداعية فقط، بل تنتهي كلّ الفوارق، ويتخذ الإبداع والتقرير قالباً مشتركاً يألفه الجميع.